
تحركت جماهير أمريكية بالآلاف منددة بممارسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التي أصبحت تقترب من تصرفات بعض ملوك العالم الثالث في التصرفات الاستعلائية، وبدا وكأن عدوى بعض التصرفات الملكية المتعالية قد انتقلت من الجنوب إلى الشمال، وبدا التصرف الرسمي الأمريكي سريعا وواضحا متعدد المواقع بشكل عفويّ يثير الانتباه.
فعن سؤال وجهه صحفي إلى المتحدثة باسم البيت الأبيض عمن اقترح “بودابست” كمقر للقاء الروسي الأمريكي أجابت “الثديية” الحسناء سائلها بكلمة واحدة، هي: “أمّك”، وهكذا هبط مستوى المتحدث الرسمي في أكبر دول العالم إلى حضيض غير مسبوق.
وكان هذا سابقة لم تعرفها اللقاءات الإعلامية، أعطت صورة واضحة عن المنطق الأمريكي في الألفية الثالثة من القرن الواحد والعشرين، عادت بنا إلى منطق “الكاو بوي” الذي تصوّر أنه يملك الدنيا لأنه يحمل مسدسا.
لكن ذلك التصرف كان مجرد “الأوردوفر” أو المقبلات التي تسبق الوجبة الرئيسية في المطاعم الفاخرة، والتي سوف يقدمها الرئيس “دونالد ترامب” للجماهير الأمريكية الغاضبة.
فقد أمر بإعداد “فيديو” يصوّرُه واضعا تاج الملك على رأسه ويقود طائرة تحلق فوق جموع المنددين بتصرفاته الملكية، وفجأة يفاجَئُ المشاهدُ بالطائرة تتبرز، أكرمكم الله، على المتظاهرين، وتلقي عليهم كتلا من البُراز.
وواقع الأمر أن ما فعله “أبرهة الأشقر”، بتعبير صحفي جزائري طويل اللسان، هو التصرف الذي يمثل ما تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية منذ انتهت من إبادة معظم السكان الأصليين في العالم الجديد، وبعد أن خرجت من مرحلة “البيات “الإمبريالي، وخصوصا بعد الحرب العالمية الثانية، إلى مرحلة تصرّفٍ إمبراطوري في شؤون العالم، كان طابعها الرئيس هو الاستعلاء ومنطقها هو غرور القوة وحليفها خضوع الذل والهوان للقيادات الدولية.
ويتذكر قرائي أنني رويت في يوليو 2010 ما قالته الدكتورة داليا سعودي من أن “النظرة السريعة لتاريخ الولايات المتحدة تشير إلى أنه في البدء كان العدو هو بريطانيا ثم من أطلق عليهم الهنود الحمر ومن بعدهم المكسيكيون ثم الأسبان ثم اليابان فالألمان والطليان ومن بعدهم السوفييت والناصريون والإثيوبيون والكوريون فالكوبيون والفيتناميون، ثم من بعدهم القوميون والإسلاميون وفي الوقت نفسه العراقيون ثم الأفغانيون وصولا إلى الإيرانيين ثم الصينيين.
وخلال نحو ثلاثة قرون هي عمر الولايات المتحدة هناك فقط 31 عاما لم تكن فيهم واشنطون مشتبكة في نزاع عسكري خارج حدودها، ومن بين 192 دولة منتمية إلى الأمم المتحدة تعرضت 64 دولة للهجوم أو الغزو أو الاحتلال أو التسرب الأمني”.
ويتذكر كثيرون كلمات فرانكلان روزفلت” عن “الملك فاروق”، عندما استقبل الرئيس الأمريكي العاهل المصري على ظهر المدمرة الأمريكية في منتصف الأربعينيات، فقد كان كل كلامه سخرية من ملابس الملك البحرية ومن طربوشه الذي قال عنه أنه كان شيئا مثل “قصرية” زرع مقلوبة.
وورث ترامب نفس العقلية، وإن اعتبرت تعليقات ماكرة أن تصرفات الرئيس الأمريكي الحالي هي عدوى مَرَضية التقطها من بعض الحكام العرب في تعاملهم مع شعوبهم، ومن هنا جاءت تعبيراته التي تهدف إلى استصغار شأن القيادات العربية، حتى تلك التي تتحالف معه على حساب أهداف الأمة، وتجلّى ذلك في إهانة مباشرة وجهها إلى عاهل عربي ذكره بالاسم، وروى أنه قال له إنه لن يظل على عرشه أسبوعا واحدا إذا تخلت واشنطن عن حمايته.
ولم نسمع احتجاجا أو حتى عتابا رقيقا هامسا من نوع عتاب الأحباب.
ثم شاهدنا ترامب وهو يجمع أمامه في البيت الأبيض قادة أوربيين تكأكأوا أمامه وكأنهم تلاميذ مدرسة يستعرض الناظر عليهم سلطته، وتذكرتُ على الفور أن ذلك هو نفس ما ارتكبه قبل ذلك بأيام مع قيادات عربية وإسلامية، جلست أمامه صاغرة تتقبل إيماءته الوقحة بكل استسلام، وبدا وكأن “استدعاء” ترامب لهذه القيادات كان مجرد “بروفة” لما سوف يقوم به بعد أيامٍ مع قادة القارة العجوز.
ثم أعاد ترامب إهانته للقيادات العربية والإسلامية الذين اختارتهم الخارجية الأمريكية للمشاركة في مؤتمر سُمّيَ “مؤتمر السلام”، والذي كان مؤتمر “الاستسلام”، فإذا به في خطابه أمام التجمع البرلماني للكيان المجرم يسخر من القيادات العربية والإسلامية قائلا، وهو يتحدث عن تأخره المهين في الذهاب إلى “الشرْم”، بأنه يتوقع أن يغادر عدد من القادة مصر على متن طائرتهم الـ”747” الأمريكية، وربما لن يبقى في قاعة المؤتمر إلا الفقراء من الرؤساء.
وهنا أخطأ “الكاوبوي” لأن الجميع ظلوا ينتظرون بكل ذلة وخضوع، بمن فيهم قادة الغرب الأشاوس.
وهكذا، وبعد أن تأكد الخداع الصهيوني المتدثر بالغطاء الأمريكي والذي تجسد في مواصلة الهجومات الإجرامية على الفلسطينيين برغم ما ادعت تحقيقه احتفالية “الشرم”، يمكن أن نتخيل أن ترامب سوف يطوف بطائرته “البرازية” فوق القصور الرئاسية والملكية في عواصم أوربا، تاركا لناتنياهو القيام بنفس العمل في أجواء عواصم عربية، نسمع منها أصواتا ما زالت تهلل، بدون خجل، لما حدث في “شرم الشيخ” والذي ينطقه البعض عندنا “صرم الشيخ”، ولست اعرف من هو الشيخ.
وربما يكون الفرق أن مواطنين كثيرين في أوروبا سيحاولون التصدي للطائرة البرازية بما يمكن أن يعتبر تحديا لها، وهو ما قد لا تعرفه كثير من عواصمنا العربية، التي يُمنع فيها رفع العلم الفلسطيني.
هنا ينفجر سؤال فرضه عليّ استرجاع بعض أحداث القرن الماضي، وهو: أين الدب “الروسي” فيما يحدث، وأين أمثال “نيكيتا خروشوف” و”بولجانين” و”بريجنيف” و”غرميكو؟.
ولقد قلت في حديث سابق أن غياب موسكو عن الأحداث يجعلني أتذكر بكل أسف الدور المُدمّر لقيادات عربية وإسلامية في تخريب التوازن الدولي الذي كان، إلى حد كبير، نعمة للدول الصغيرة وعنصر حماية لها، بجانب دوره في تدعيم دور المؤسسات الدولية إلى حد كبير، مقارنة بما نعرفه اليوم نتيجة انفراد “اليانكي” الأمريكي بالسيطرة المطلقة، حتى على مجلس الأمن، ناهيك من البنك الدولي وغيره من المؤسسات الدولية.
وأعترف بأنني كنت، وما زلت أختلف مع بعض من ينظرون إلى “سيرجي لافروف” وزير الخارجية الروسي الحالي وكأنه سياسي كبير وديبلوماسي لامع، وكنت أرى أن الرئيس “فلاديمير بوتين” يحتفظ به كوزير مُزمن للخارجية لأنه وجد فيه “موظفا” لا يستطيع أن يُنافس حتى نفسه، وكان هذا بالتالي هو المبرر الوحيد لخلود الوزير الذي خلف مولوتوف وغروميكو، وقيمة كل منهما الدولية كانت وما زالت مضرب الأمثال.
لكن لافروف، الذي اختفى عن الأنظار الدولية نسبيا بعد الفخ المُحكم الذي نصبته واشنطن لأوكرانيا بإثارة مخاوف انضمامها إلى “الناتو”، “قعرْها” مؤخرا وهو يتحدث ساخرا عن قاعدة احترام الحدود الموروثة عن الاستقلال، والتي لا جدال في أن كثيرا منها رسم بخلفيات استعمارية أو باستهتار بليد.
لكن “منظمة الوحدة الإفريقية” تنبهت إلى خطورة الأمر في 1963 ورأت أن قضية الحدود هي قنابل موقوتة تهدد السلام في القارة بأسرها، ومن هنا قررت المنظمة احترام تلك الحدود، وتركت للبلدان المتجاورة فرصة تعديلها بالحوار السلمي، على أساس الاحترام المتبادل والحرص على حسن الجوار والنظرة المستقبلية للتعاون المثمر.
وكانت الجزائر والمغرب من الدول التي أدركت ذلك وحققته باتفاقية الحدود التي وقعها كل من الرئيس “هواري بو مدين” والملك “الحسن الثاني” في يونيو 1972، كما كانت هناك صور أخرى قامت بها العديد من بلدان القارة الإفريقية.
وعلى النقيض من ذلك، كانت محاولة العبث بالحدود الموروثة والمطالبة بما اعتُبر حقوقا تاريخية وراء ما قام به الرئيس الصومالي “زياد بري” في منتصف السبعينات، والذي جرى، بكل أسف، بدعم عربي لمجرد “إزعاج إثيوبيا”، وكانت النتيجة حربا أهلية طاحنة ما زال الصومال يعاني منها إلى يومنا هذا.
هنا نسجل حماقة لافروف، الذي لم يجد ما يثبت به وجوده الدولي إلا الانتقاد الضمني لمنظمة الوحدة الإفريقية، والعبث الطفولي في جروح كان الأمل أن تكون قد التأمت بفضل حكمة القادة الأفارقة ووعي القيادات المتجاورة، وربما بهدف التغطية على جرائم ميليشيات “فاغنر”، التي ثبت اليوم عمليا أنها جزء من القوات الروسية.
ونسي وزير الخارجية المزمن بأن السحر قد ينقلب على الساحر.
ويبقى على الاتحاد الروسي، وبعد تجربة أوكرانيا، أن يدرك بأن مستقبله هو في الجنوب المتحرر السيّد، لأنه في الشمال مكروه مكروه يا ولدي.
دكتور محيي الدين عميمور كاتب ومفكر ووزير اعلام جزائري سابق