
حين تخرج مستثمرة أجنبية لتكتب علنًا عن ممارسات تُعيق مناخ الأعمال في موريتانيا، فإن الواجب المؤسسي لا يقتصر على فتح تحقيق شكلي ولا على إصدار بيان تهدئة، بل يفرض مساءلة أعمق للواقع الإداري، واستدعاء أكثر صدقًا لمشكلاتنا البنيوية التي باتت تقف حجر عثرة في وجه كل أمل في إقلاع اقتصادي حقيقي.
بيان وزارة الاقتصاد والمالية، رغم احتوائه على اعترافات بنواقص واختلالات، إلا أنه بدا في جوهره منشغلًا بالدفاع عن السمعة أكثر من الانشغال بإصلاح الواقع.
اللجنة التي كُلفت بالتحقيق لم تنفِ وجود اختلالات، لكنها اكتفت بوصفها: ضعف التنسيق بين المصالح العمومية، انعدام الانسجام، غياب الشفافية في النفاذ إلى المعلومة، ومحدودية التواصل المؤسسي.
وهذه وحدها كافية لإرباك أي مستثمر مهما كان صبورًا.
لكن من موقعنا كعاملين في مجال جلب الاستثمار، نعلم أن ما يعيق مناخ الأعمال يتجاوز ما جاء في إفادات السيدة وما ورد في تقرير اللجنة.
فالجميع يعلم جيدا أن بين دهاليز الإدارة تقبع العرقلة الممنهجة، وأن التراخيص تُستصدر أحيانًا وفق معايير لا علاقة لها بالقانون، وأن بعض المصالح أصبحت غرفًا مغلقة أمام المستثمر الصادق ومنصات مفتوحة فقط للنافذين ومن يدور في فلكهم.
كما نعلم – وهو الأخطر – أن التحدي لا يأتي فقط من الإدارة، بل من داخل السوق نفسه، حيث يواجه المستثمر الأجنبي أحيانًا حربًا غير معلنة من رجال أعمال محليين فشلوا في بناء اقتصاد وطني متماسك أو صناعة وطنية قادرة على تلبية الحاجات المحلية أو اقتحام السوق الإقليمي، فاختاروا بدلًا من ذلك محاربة المنافس، والضغط من الخلف لتأبيد امتيازاتهم المحمية.
لم تتحدث المستثمرة عن هذا، ولم تشر إليه اللجنة، لكننا نعرفه تمامًا، لأنه واقع يومي نراه في كل محاولة استثمارية جديدة، في كل ملف نرافقه، وفي كل مشروع نطمح لتسهيله.
أما مطالبة المستثمرة بكشف من حاول ابتزازها، فهي في غير محلها إن لم تُوفر لها الضمانات.
فالشفافية لا تُنتزع من صاحبها بالقوة، بل تُحمى بالقانون، والواجب أن يكون المبلغ عن الفساد محل عناية، لا محل اتهام.
نعم، على المستثمرة أن تتعاون، ولكن على الدولة أن تطمئنها أولًا، وتوفر البيئة التي تجعل من البوح بالحقيقة عملاً شجاعًا لا مخاطرة قد تجر الويلات.
ثم إن البيان الوزاري إذا كان يدعو النخب والإعلاميين والمدونين إلى عدم الانجرار وراء الإشاعات، فإننا – بدورنا – ندعو الوزارة إلى عدم الانجرار وراء “تبييض الصورة” ودفن جذور الإشكال
إن مناخ الاستثمار لا يُبنى ببيانات، بل بإرادة إصلاح، وصدق في تشخيص مواطن الخلل، وفتح أبواب الدولة لا النوافذ الخلفية.
وإذا كانت هذه الحادثة قد أثارت الجدل، فإنها يجب أن تثير شيئًا أهم: مراجعة عميقة لمسارنا الاقتصادي، ولعلاقتنا بالمستثمرين، ولنمط السلطة الذي يتعامل معهم.
فلا أحد يدافع عن سمعة الوطن أكثر ممن يسعى لنهضته، ولا أحد أحق بأن يُصغي إليه أكثر من من يعمل من أجل أن يرى الاستثمار شريانًا لا ورقة تجميلية.@إشارة
بقلم: محمد محمود سيدى بوى
مؤسس بوابة الاستثمار في موريتانيا