
انتهت الحرب في غزة بعد عامين من العنف غير المحدود الذي مارسه الكيان الصهيوني، وما خلّفته من كوارث قلّ نظيرها في التاريخ المصوّر للقرن الحالي، واضطر الكيان الصهيوني، دون أن يحقق أهدافه المعلنة مسبقاً في الحرب، إلى الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع مقاومة حركة “حماس” الإسلامية، وتمتّ القضية الخاصة بالأسرى ليس عبر الضغط العسكري، بل من خلال التفاوض والحوار مع المقاومة الإسلامية “حماس”.
ما شهدناه في التبادل اليوم، وما ظهر جلياً على الساحة الميدانية في الأيام الأخيرة في قطاع غزة، يُظهر هيبة المؤسسة إلى جانب القوة الاجتماعية والشعبية الكبيرة لحركة “حماس” في القطاع بعد عامين من الحصار غير الإنساني والحرب الشاملة. فقد عادت قوات “حماس” إلى الساحة بنفس الانضباط والهيبة السابقين، وأعادت الأمن والنظام إلى قطاع غزة. وأظهر اتفاق السلام مرة أخرى أن قوة المقاومة، المنبثقة من الإيمان والإرادة والوعي التاريخي للأمم، لا يمكن القضاء عليها بالحراب والقوة، بل تزداد صلابتها بفعل ضغوط ومشقات الأوقات الصعبة، وتتعمّق أسسها المعرفية داخل المجتمع.
ومن القضايا البارزة الأخرى في التبادل اليوم، الوجه الأخلاقي للمقاومة الإسلامية “حماس” في تعاملها مع الأسرى. فالمظهر الخارجي للأسرى، بالإضافة إلى شهادة اللجنة الدولية للصليب الأحمر، تشهد على سلامتهم النفسية والجسدية خلال العامين الماضيين. وهذا الأمر يكتسب أهمية خاصة عندما نعلم أن قطاع غزة كان خلال هذه الفترة تحت أشد الهجمات من قبل الكيان الصهيوني، وكذلك جرائم غير مسبوقة ضد الإنسانية مثل التجويع القسري وإغلاق كافة قنوات الاتصال مع العالم الخارجي. فقد امتنع الكيان الصهيوني، في عمل لا إنساني، عن إدخال الطعام والدواء لفترة طويلة، واستخدم الطعام كسلاح ضد أهل غزة. ومع ذلك، منعت المقاومة، في خطوة أخلاقية، وصول الجوع إلى الأسرى. وهذا الأمر، الذي يتجلى في طريقة تعامل الأسرى مع مقاتلي “حماس” وأولئك الذين حموهم بطريقة ما خلال العامين الماضيين من هجمات الكيان الصهيوني، هو دليل على الانتصار الأخلاقي لـ “حماس” ومنطق المقاومة.
أعاد عودة الأسرى الفلسطينيين من سجون الكيان الصهيوني المرعبة واللاإنسانية، رسم مشاهد عاطفية من الفرح والدموع بين الأمهات والنساء والبنين والأطفال الفلسطينيين أمام أعين العالم. استطاعت المقاومة، بالاعتماد على قوة الإيمان وقوة السلاح، إجبار الكيان الصهيوني اللاإنساني على إعادة الأسرى الفلسطينيين. وتعد قضية الأسرى، إلى جانب التهديدات الناجمة عن مشروع التطبيع العربي مع “إسرائيل”، وكذلك مسألة جعل القدس عاصمة للكيان الصهيوني، من بين الأسباب والجذور الرئيسية لانطلاق “طوفان الأقصى”، واليوم تشهد فلسطين عودة أبنائها إلى أحضان الأمهات القلقات والأطفال المتشوقين.
عادت اليوم فلسطين وغزة وقضية القدس إلى صدارة اهتمامات العالم واهتمام الرأي العام، بينما سعى مشروع التطبيع إلى حذف فلسطين من أذهان الرأي العام العالمي. لم يكن “طوفان الأقصى” مجرد عملية عسكرية، بل كان استراتيجية لإخراج قضية فلسطين من حالة الجمود والإقصاء التي تعرضت لها في المجتمعات العربية والإسلامية والدولية. ومع أن رئيس أركان جيش الكيان الصهيوني ادعى انتصاره في الحرب ورأى أن كيانه قد غيّر وجه الأمن في الشرق الأوسط اعتماداً على التفوق العسكري والدعم السخي من الغرب، إلا أن هذا التغيير ليس في اتجاه يديم استمرار الكيان الصهيوني، بل على العكس، فهو يهز أركان هذا الورم السرطاني في قلب العالم الإسلامي.
من المؤكد أن إيران بعد حرب الـ 12 يوماً ستصبح أكثر واقعية، وستعيد تنظيم علاقاتها في السياسة الخارجية وحتى الداخلية وفق قواعد جديدة، كما أنها بعد اليوم الثاني عشر من الحرب مباشرة، خطت خطوات فعالة نحو إعادة الإعمار ومعالجة نقاط الضعف في المجالات المتضررة من الحرب على الصعد الهجومية والدفاعية، واستطاعت في وقت قصير العودة إلى وضعية توازن الردع مع الكيان الصهيوني. ربما كان الهجوم الجوي للكيان الصهيوني على الدوحة في قطر أحد آخر وأكبر الأخطاء الاستراتيجية للكيان الصهيوني، حيث أدرك القادة العرب جيداً أن الاعتماد الكلي على الولايات المتحدة الأمريكية لن يضمن لهم الأمن؛ لذا نشهد توقيع تفاهم أمني مشترك بين المملكة العربية السعودية وباكستان بعد هذا الهجوم مباشرة.
لقد غيّر “طوفان الأقصى” وجه الأمن في الشرق الأوسط تغييراً جذرياً، وهذا المسار سيستمر. ما حدث اليوم في مجال تبادل الأسرى بين الجانب الفلسطيني والكيان الصهيوني، هو وثيقة تاريخية على زوال الكيان الصهيوني في مواجهة قوة الإيمان والمقاومة المستندة إلى القوة الاجتماعية داخل المجتمعات الإسلامية والعربية.
يعتقد الكاتب أنه لا منتصر في الحرب؛ فالحرب عنصر تدمير وإهدار للرأسمال البشري والمادي، لكن عندما تُفرض الحرب على أمة، حرب تستهدف كرامة واستقلال وحرة أمة، فلا يوجد خيار سوى حمل السلاح ومنطق المقاومة. ومع أن “طوفان الأقصى” كان ظاهرة عربية فلسطينية، إلا أن عواقبه إنسانية وعالمية.
د. محمد محمودی کیا عضو هیئت الاکادیمیة في معهد الإمام الخمیني والثورة الإسلامیة