كنت أتمنى لو لم أطرح هذا التساؤل لأنه مؤلم حتى النخاع إذ كيف لي أن أقلل من شأن قومي وأنا مولع بنسبي وبتراثنا العلمي والأدبي والإنساني. لكن، وللأسف، كان كل ذلك من أحداث الماضي الذي تمنيت أن يستمر الى مالا نهاية. من المحزن في هذا المقام أن الماضي حدث قد عبرناه ولن يعود مجددا. ولصناعه حاضر له بريق الماضي لا بد من ثمن لا نقدر على الوفاء به. ليس لعجز في قدراتنا بل لعجز في تفكيرنا فالإنجازات الكبرى بحاجة الى أحلام كبرى والى رجال بحجم تلك الأحلام. لقد صفقنا كثيرا لقادة مروا كسحابات صيف وفشلوا في نهاية المطاف لكنا لم ندرك فشلهم في حينه بل ما نزال متمسكين بأطيافهم التي لا تصنع سوى الوهم والمزيد من الإخفاقات. نحن أمة تعيش في أجواء شهريار وشهرزاد وخرافات ألف ليلة وليلة فننتظر المعجزات التي لن تأتي. هذا العجز المقيت الذي لا تضاهينا به أمة أخرى هو الذي يجعلنا بلا حول أو طول ونحن نرقب أبناءنا وبناتنا وأخوتنا وأخواتنا يذبحون يوميا بآلة الغرب الإجرامية في غزة والضفة الغربية ولبنان وسوريا واليمن فنكتفي بالبكاء والعوة لهم بالرحمة. ولأننا عاجزون، لا ندرك حجم الفعل الذي الغافي في جوانحنا فنستسلم لواقعنا ونتسابق الى القاء مسؤولية عجزنا على هذا الطرف العربي أو ذاك المسلم. من قال إننا لا نستطيع الفعل المؤثر؟ في التاريخ القريب شاهدنا أمما حية تنهض من ركام أسوأ من ركام الدمار الراهن في غزة. في الصين، مثلا، كانت تلك الأمة مستباحة للفرنسيين والإنجليز ثم اليابانيين وها هي بعد الحرب العالمية الثانية تنهض وتقف على أقدامها فتمسك السيف بيد والمحراث والقلم بيد أخرى لتصنع أعظم أمة على وجه الأرض في هذه الأيام. جرى كل ذلك في أقل من عمر النكبة الفلسطينية التي هجرنا أهلها عجزا وتحلل بعضنا من مسؤوليتهم بأعذار أقبح من الذنوب بألف مرة، لقد أفتى بعضهم بعدم عروبة الفلسطينيين متناسين أن الاخرين من غير العرب والمسلمين عبر العالم يتظاهرون يوميا دعما لفلسطين وشعبها ويفرضون على ساستهم قيودا تحجم الدور الصهيوني في بلادهم. الطامة الكبرى هي تلك التي انزلق البعض الآخر الى هوتها الفاجرة داعين الى ترك فلسطين “للإسرائيليين” لأنهم أبناء عمومتهم أو أحبتهم بل أفتى بعضهم بأن “إسرائيل” ليست العدو الأول بل هي حليف! أين نحن من الصين؟ لقد خرجنا من تحت العباءة العثمانية لنتفرق أيدي سبأ بل ولنحارب بعضنا بعضا ونتسول الأجنبي من أجل حمايتنا من بعضنا بعضا أو من أعداء وهميين يخيفنا الغرب بهم. لقد أقمنا دولا لم تكن ذات وجود في يوم من الأيام وكرهنا بعضنا البعض وأنفقنا تريليونات الدولارات لرفد موازنات أعدائنا وتخليصهم من مخزونات أسلحتهم العتيقة. لقد تحولنا الى طوائف إقليمية أو مذهبية فمن قال إن إسلامنا به مذاهب. كل ما يقال عن المذاهب الدينية المسلمة هو نتاج خلافات سياسية في جوهرها ألبست قهرا رداء مذهبيا كي تعضد دعوى هذا الحاكم أو ذاك. ارجعوا الى التاريخ إن كنتم تحبون الحقيقة لتكتشفوا ذلك فالخلاف بين على ومعاوية كان سياسيا محضا وليس له علاقة بجوهر العقيدة الإسلامية تماما مثلما كان الصراع السابق بين طلحة بن عبيد الله (الذي وصفه الرسول بأنه شهيد يمشي على الأرض) والزبير بن العوام(ابن عمة الرسول وابن أخ خديجة بنت خويلد زوجة الرسول وهو أيضا زوج أسماء بنت أبي بكر) والى جانبهما السيدة عائشة وبين الإمام الخليفة علي بن أبي طالب. وعلى النقيض من صراعاتنا السياسية نحن المسلمين، فإن المذاهب المسيحية المختلفة هي مذاهب فكرية في بنيتها وتمس جوهر العقيدة المسيحية خاصة تلك المتعلقة بشخصية السيد المسيح. في مجمع نيقية الأول أو المجمع المسكوني الأول الذي افتتحه الإمبراطور قسطنطين الأول(325 م)، حاول عدد من الأساقفة (250 إلى 318 أسقفًا جلُهم من الكنائس الشرقية) الاتفاق على فهم موحد يعرف طبيعة السيد المسيح لكنهم لم يتفقوا وما يزال ذلك التباين بؤرة خلاف بين الكنيسة الشرقية الأرثوذكسية والكنيسة الكاثوليكية الغربية ومشتقاتها اللاحقة.
والان، إذا ترجمنا ما سبق الى معضلة عقلية سيتضح لنا أننا لا نعرف ما نريد وأنه يسهل العبث بعقولنا وتسييرنا نحو الوجهة الخاطئة. على سبيل المثال، كلنا يشكو من الفقر المائي فهل تعرفون طول السواحل العربية المطلة على البحار المفتوحة والتي يمكن نثر آلاف محطات تحلية مياه البحر على ضفافها؟ هل تعرفون أن انتاج 100 مليار متر مكعب سنويا من المياه العذبة وغير الملوثة قد لا يتجاوز 50 مليار دولار. هذا الكم الهائل من المياه يسد احتياجات كافة دول آسيا العربية لو اجتمعت كلمتها ولا يتجاوز ثمنها جزءا من كلفة الأسلحة البالية التي تشتريها دولنا لتمكين الدول الغربية من تطوير أسلحتها التي تفتك بشعوبنا وتقهرنا وليكون مصيرها الصدأ أو ليعلوها الغبار في مرابضها وليس في ساحات الوغى دفاعا عن الشرف العربي أو المصير المشترك. بالطبع، سيسترد جزء كبير من تلك الكلفة من المستهلكين أي أن عملية التحلية ستصبح عملية مستدامة وستحول ما لا يقل عن 30 مليون هكتار (أوما يزيد عن ثلاثة أضعاف مساحة الأردن) من صحارينا القاحلة الى ربوع خضراء ذات إنتاجية عالية وستؤمن غذاءنا بكافة أشكاله. سنتوقف عن استيراد القمح من أكرانيا أو روسيا وعن اللحوم الحمراء من أستراليا أو رومانيا وعن الأعلاف الحيوانية من عديد الدول بل سنؤسس لصناعات لا تخطر على البال ففي ازدهار العمليات الزراعية تزدهر برمجيات لا حصر لها وستزدهر تكنولوجيا تحديد المواقع الجغرافية وتطبيقات الاستشعار عن بعد وتكنولوجيا اتمتة العمليات الزراعية المختلفة كالتسميد ورش مبيدات الآفات وصناعات ميكانيكية عديدة كآلات الحراثة والحصاد وما يترتب عليها من صناعات النسيج والمقطورات والسيارات وكل ما يخطر أو لا يخطر على بالكم. هكذا ازدهرت الصناعة في الولايات المتحدة وهكذا تزدهر في الصين اليوم. هل تعرفون الآن حجم الفشل الذي ننعم بأجوائه فنحمد الله ليل نهار على تلك النعمة، نعمة التجزئة والضياع في متاهات التنافس العالمي على مقدراتنا ومصائرنا. بماذا إذن نتفاخر؟ ماهي مساهماتنا على صعيد الارتقاء بمستوى البشرية؟ ما هي مساهماتنا في العلوم والتكنولوجيا والفنون والأدب؟ نحن لسنا سوى شعوب مستهلكة لكل شيء وسنموت جوعا إن تقطعت بسلاسل تزويدنا الغذائي السبل. تذكروا فقط لهاثنا لتوفير القمح بعيد اندلاع الحرب الروسية الأكرانية وكيف كان همنا محصورا في الحبوب والأعلاف الروسية والأكرانية. كان أمرا مخزيا. أليس كذلك! رحم الله عمر أبو ريشة إذ يقول:
أمتي هل لك بين الأمم
منبر للسيف أو للقلم
ورحم الله حافظ إبراهيم الذي ينطبق حالنا الراهن وقوله:
عيدٌ هُنا وَهُناكَ قامَ المَأتَمُ
عَجَباً أَرى تِلكَ الدِماءَ فَهاهُنا
دَمُ فَرحَةٍ وَهُناكَ لِلقَتلى دَمُ
قولوا لي بالله عليكم ألا يحق لي أن أخجل من عروبتي؟
أ.د. طالب أبو شرار مفكر عربي