تمر الآن مناسبتان من المهم أن يتوقف العرب كثيراً عليهما وعلى استرجاع الخلاصات المرتبطة بهما.
المناسبة الأولى، هي الذّكرى 53 لوفاة جمال عبد الناصر ( 28/9/1970 )، والثانية هي الذكرى 62 لإنفصال سوريا عن مصر ( 28/9/1961 ) بعد أن جمعت البلدين تجربة الجمهورية العربية المتحدة الّتي أُعلنت في 22/2/1958 .
لقد ربط القدر بين يوم الإنفصال عام 1961 وبين أول أزمة صحية تعرّض لها جمال عبد الناصر، ثمّ ربط القدر أيضاً بين وفاته عام 1970 وبين مناسبة ذكرى الإنفصال آنذاك.
ورغم كل ما قيل وكُتب عن تجربة حكم جمال عبد الناصر في مصر وعن سياسة ثورة 23 يوليو بشأن العمل العربي المشترك، فإنَّ خير شهادة لعبد الناصر كانت أنَّه دفع حياته ثمناً من أجل الحفاظ على التضامن العربي ولوقف سفك الدماء العربية الّذي كان يحدث في الأردن بين الجيش الأردني ومنظمة التحرير الفلسطينية طوال شهر أيلول/ سبتمبر 1970 ، ولم يكن لهذه المآساة أن تتوقف لولا الجهود المضنية الّتي بذلتها القاهرة في ظل قيادة جمال عبد الناصر بعدما دعا إلى قمة طارئة في القاهرة توالت لعدة أيام لم يخلد فيها ناصر للرّاحة حتّى اللّحظة الأخيرة من حياته، واستطاع قبل وفاته أن ينقذ الأردن والفلسطينيين والقيادة الفلسطينية من صراع دموي طاحن كان يهدد الطرفين معاً.
ويخطئ الكثيرون حينما لا يميّزون المراحل في تاريخ التجربة الناصرية أو حينما ينظرون إلى السياسة العربية لجمال عبد الناصر وكأنها سياق واحد امتدّ من عام 1952 حينما قامت ثورة 23 يوليو إلى حين وفاة ناصر عام 1970.
حقيقة الأمر أنَّ السياسة العربية لمصر عبد الناصر كانت مرتبطة بالمراحل والظروف رغم القناعة المبدئية بالعروبة لدى القيادة الناصرية.
فثورة 23 يوليو حصلت عام 1952 دون أي إدّعاء بالعمل من أجل أي قضية عربية، وكانت الأهداف الستة للثورة المصرية الّتي أُعلنت حين قيامها خالية تماماً من أي موضوع عربي وتمحورت جميعها على القضايا الداخلية المصرية.
ولم يظهر البُعد العربي واضحاً في ثورة ناصر إلاّ بعد تأميم قناة السويس ثمَّ العدوان الثلاثي ( البريطاني/ الفرنسي/ الإسرائيلي ) على مصر عام 1956.
وفي هذه السنوات القليلة من عمر الثورة المصرية ظهر الإلتفاف الشعبي العربي الكبير حول القيادة الناصرية واشتعل تيار القومية العربية في أرجاء البلدان العربية كتيار مرتبط بمطلب الإستقلال الوطني والتحرر من الإستعمار وامتلاك الثروات الوطنية في مرحلة كانت معظم دول العالم الثالث تعاني فيها من الإستعمار الأجنبي ومن تحكم الشركات الأجنبية بالثروات الوطنية. وكانت صرخة ناصر:" إرفع رأسك يا أخي فقد ولّى عهد الإستعباد والإستعمار"، صرخة مدوّية كان صداها يتفاعل في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاّتينية، فكانت دعوة من أجل التحرر والحرية وقد حرّكت وأنهضت الشارع العربي كلّه من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي، وكان ذلك أيضاً دافعاً لربط مطلب التحرر بالدعوة للوحدة العربية كتعبير عن وحدة الإنتماء الثقافي ووحدة الهموم ووحدة الأحلام والآمال.
لذلك، جاءت تجربة الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958 تتويجاً لهذه المشاعر التحرّرية القومية، وقامت الجمهورية العربية المتحدة بناءً على ضغط الشارع العربي عموماً والسوري خصوصاً من أجل انضمام سوريا لبلد القيادة الناصرية في مصر.
لكن عقد الخمسينيات الّذي تميّز بمعارك التحرر الوطني والإستقلال وبانطلاقة التيار القومي العربي، تعرّض لنكستين كبيرتين في مطلع عقد الستينات وأواسطه، وانتهى هذا العقد بوفاة من قاد هذه المعارك التحرّرية ومن أضاء شعلة العروبة في القرن العشرين.
النّكسة الأولى، كانت بحق الجمهورية العربية المتحدة حيث قادت جماعة إنفصالية في سوريا حركة الإنفصال عن مصر يوم 28/ 9/ 1961، ثمَّ جاءت النّكسة الثانية يوم 5/ 6/1967 حيث جرت هزيمة حرب يونيو وما نتج عنها من متغيرات كثيرة في مصر والمنطقة العربية. وفي النكستين، كان ناصر مثالاً في المسؤولية وفي الحرص على العروبة. فلقد رفض عبد الناصر إستخدام القوة العسكرية ضد حركة الإنفصال السورية للحفاظ على وحدة الجمهورية العربية المتحدة رغم مشروعية وقانونية هذا الحق، ورغم ان دولاً عديدة استخدمت القوة العسكرية للحفاظ على وحدة كيانها السياسي.
أما هزيمة عام 1967، فقد أعلن ناصر تحمله المسؤولية الكاملة عنها واستقال من كل مناصبه الرسمية، ولم يعد عن هذه الإستقالة إلاّ بعد يومين من المسيرات الشعبية العارمة التي شملت معظم البلاد العربية، ثم كانت هذه الهزيمة كانت سبباً مهماً لإعادة النظر في السياسة العربية لمصر الناصرية حيث وضع جمال عبد الناصر الأسس المتينة للتضامن العربي من أجل المعركة مع العدو الإسرائيلي، وتجلّى ذلك في قمة الخرطوم عام 1967 وما تلاها من أولوية أعطاها ناصر لإستراتيجية إزالة آثار عدوان 1967، وإسقاط كل القضايا الأخرى الفرعيّة بما فيها سحب القوات المصرية من اليمن والتصالح مع الدول العربية كلها والسعي لتوظيف كل طاقات الامّة من أجل إعادة تحرير الأراضي المحتلة.
وكانت هذه السياسة هي سمة السنوات الثلاث الّتي تبعت حرب 1967 إلى حين وفاة عبد الناصر.
لكن خلاصات تلك المرحلة كانت مزيجاً من الدروس الهامة لقضيتي التحرّر والوحدة. إذ تبيّن أنَّ زخم المشاعر الشعبية لا يكفي وحده لتحقيق الوحدة، وأنَّ هناك حاجة قصوى للبناء التدريجي السليم قبل تحقيق الإندماج بين بلدين عربيين أو أكثر. وهذا ما حرص عليه عبد الناصر عقب حرب 1967 حينما رفض المناشدة اللّيبية ثمَّ السودانية للوحدة مع مصر، واكتفى بخطوات تنسيق معهما رافضاً تكرار سلبيات الوحدة الفورية مع سوريا.
أيضاً أدرك عبد الناصر ومعه كل ابناء الامة العربية أن التحرّر من الإحتلال يقتضي أقصى درجات الوحدة الوطنية في الداخل، وأعلى درجات التضامن والتنسيق بين الدول العربية.
كذلك، كان من دروس هزيمة 1967 وإنفصال عام 1961، إن البناء الداخلي السليم وتحقيق المشاركة الشعبية الفعّالة في الحياة السياسية، هما الاساس للحفاظ على أي تجربة تكاملية بين البلاد العربية، وهما أيضاً الارض الصلبة لقيادة حركة التحرر من أي إحتلال أو هيمنة خارجية.
لكن هذه الدروس الهامة لم تعش طويلاً بعد وفاة ناصر، وها هي الامة العربية الآن تعاني من إنعدام التضامن العربي ومن الإنقسامات والصراعات، ومن هشاشة البناء الداخلي وغياب الديمقراطية السياسية، مما سهّل ويسهّل الهيمنة الخارجية على بعض اوطانها ويدفع بالوضع العربي كله نحو مزيد من التأزم والتخلف والسيطرة الأجنبية.
ما زرعه ويزرعه الطائفيون والمذهبيون والمتطرفون العاملون على تقطيع أوصال كل بلد عربي لصالح مشاريع أجنبية وصهيونية، جعل شعوب الامة من جديد تدرك الحاجة الى العروبة من أجل التحرّر والتقدم وبناء المستقبل الافضل للأوطان العربية كلّها.
إن التجربة الناصرية أصبحت الآن ملكاً للتاريخ، لها ما لها وعليها ما عليها، لكن العروبة كهوية إنتماء مشترك، كانت قبل عبد الناصر وستبقى بعده رغم كل مظاهر التخلي عنها الآن، فالعروبة بمضامينها الحضارية قادرة على النهوض من جديد إذا ما توفرت القيادات السليمة لها، وإذا ما ارتبطت الدعوة للعروبة بالبناء الدستوري السليم.
صبحي غندور مدير "مركز الحوار العربي" في واشنطن
Twitter: @AlhewarCenter
Email: [email protected] (mailto:[email protected])