د.إدريس جنداري: الحركة الصهيونية: مشروع استعماري غربي بغطاء يهودي

ثلاثاء, 2018-05-15 13:56

عاش العالم، حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، على وقع أشكال خطيرة من التطرف الفكري و السياسي، و قد زكت هذا التطرف الحركات القومية المتطرفة في أوربا، و هكذا ظهرت الفاشية في إيطاليا، و النازية في ألمانيا، و هما شكلان فقط من بين أشكال كثيرة من التطرف، لكن النازية تميزت بين هذه الحركات القومية المتطرفة بطاقتها المتفجرة التي تقوم على أساس الجنس النقي (الآري). بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية، كان من أهم النتائج المتحققة، القضاء على هذه الحركات التي أثارت الرعب في أوربا و في العالم، وصار مؤرخو الفكر يتحدثون عن نهاية عهد القوميات، ليفسح المجال أمام عهد جديد يقوم على تكتلات أوسع و أشمل كان الاتحاد الأوربي من أهم تجلياتها .
خلال هذه المرحلة، و بعد أن تمكنت أوربا من القضاء على كل حركات التطرف القومي، كان المكبوت الغربي يبحث عن مكان بديل خارج أوربا لزرع التطرف القومي من جديد. و بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بثلاث سنوات (1948) كان الغرب على كامل الاستعداد لزرع جرثومة سرطانية في الجسد العربي الإسلامي، تلك الجرثومة التي تخلص منها عبر عملية جراحية قاسية أودت بأرواح آلاف المدنيين، و خربت أوربا عن آخرها. لقد كان الغرب على تمام الوعي بتصدير أمراضه خارج الحدود، و ظهرت ملامح هذا الوعي منذ 1917 تاريخ صدور وعد بلفور، حيث كان الهدف هو تحقيق الشفاء بعد زرع المرض في جسد أخر .
وإذا كانت الصهيونية قد تأسست فعليا سنة 1948 في شكل كيان استعماري / عنصري / متطرف، فإن البذور الأولى لهذا التأسيس تعود إلى ما قبل ذلك بكثير. فقد كان أول ظهور لمصطلح الصهيونية سنة 1890 على يد الكاتب اليهودي (ناثان برونباوم) في مقالة له منشورة  في مجلة “التحرر الذاتي” ثم استعاده مرة أخرى في كتاب له بعنوان “الإحياء القومي للشعب اليهودي في وطنه كوسيلة لحل المشكلة اليهودية” سنة 1893
وقد كان حضور هذا المصطلح،                                                                                          عند برونباوم، يمثل استجابة نظرية لواقع فعلي يتمثل في ظهور مجموعة من التنظيمات اختارت كلمة “صهيون” اسما لها مثل جمعية “أحباء صهيون”، فضلا عن الإكثار من استخدام الكلمة في شعارات وخطابات وكتب رجالات الفكر الصهيوني؛ أواخر القرن التاسع عشر. و يعرف برونباوم الصهيونية بوصفها ” نهضة سياسية لليهود تستهدف عودتهم الجماعية إلى أرض فلسطين” و في العام 1896 قام الصحفي اليهودي (تيودور هرتزل) بنشر كتاب اسمه (دولة اليهود)، و فيه طرح فكرة اللاسامية و كيفية علاجها، و هو إقامة وطن قومي لليهود. و في العام 1897 نظم هرتزل أول مؤتمر صهيوني في مدينة (بازل) السويسرية، و حضره 200 مفوض، حيث صاغوا برنامج بازل الذي سيظل هو برنامج الحركة الصهيونية .
وكما يبدو، من خلال مراحل التأسيس، فقد تشكلت الصهيونية كإيديولوجية و كحركة سياسية، في موازاة مع صعود الإيديولوجية القومية في أوربا، و مع نمو اهتمام المركز الإمبريالي بإيجاد كيانات مصطنعة في مراكز مستعمراته لضمان الهيمنة. و قد استغل يهود أوربا أجواء المرحلة، الطافحة بالروح القومية، و طالبوا القوى الاستعمارية بتوفير وطن قومي لهم، و قد أثارت هذه الفكرة اهتمام الأوربيين، منذ البداية، و حصلت على دعمهم اللامحدود لأنها قادرة على تحقيق طموحين أوربيين:
أولا: إجلاء اليهود من أوربا، باعتبارهم يمثلون نشازا داخل المجتمعات الأوربية، و يثيرون القلاقل و النزعات، بالإضافة إلى أن مواطنتهم غير مضمونة (حادثة دريفوس في فرنسا- اتهام هتلر لليهود الألمان بخيانة وطنهم). و قد كانت بولندا نموذجا في هذا السياق، فقد شجعت الحكومة البولندية هجرة اليهود، بل و تدخلت، بطريقة مباشرة، في تأسيس منظمات إرهابية تعمل على إجلاء الفلسطينيين، لإفساح المجال لليهود المهاجرين ( و خير مثال على ذلك منظمة الهاجاناه الإرهابية) التي تأسست بدعم مباشر، مالي و عسكري، من الحكومة البولندية .
ثانيا:صناعة وسيط إمبريالي قادر على حماية المصالح الغربية، في منطقة غنية بالثروات الطبيعية، و في هذا المجال فقد استغل اليهود شهرتهم الواسعة في أوربا كوسطاء ماليين أثناء العصر الإقطاعي، بحيث ساهموا، بشكل فعال، في تخفيف القيود الدينية المسيحية التي كانت تحرم الربا. لكن و بعد تراجع سلطة الكنيسة و تحرير التعاملات التجارية من القيود فقد اليهود الكثير من إشعاعهم، و لذلك فقد فكروا في مواصلة نفس النشاط (السمسرة)، و لكن هذه المرة خارج الحدود الأوربية، فقد قدموا أنفسهم كوسيط إمبريالي قادر على المحافظة على المصالح الاستعمارية خارج الحدود، كما حافظ، خلال عصر الإقطاع، على هذه المصالح داخل الحدود.
وبما أن القارة الإفريقية كانت أرضا مشاعا بين القوى الاستعمارية، تصول فيها و تجول بلا رقيب، فقد كان اقتراح بريطانيا، في البداية، أن ينشئ الصهاينة وطنهم القومي شرق إفريقيا في أوغندا، و قدمت الحكومة البريطانية لذلك دعما ماليا للحركة الصهيونية، لكن هذا الاقتراح لم يرق لرموز الصهيونية. فعندما عقد المؤتمر السابع سنة 1905 تم رفض أوغندا كوطن قومي لليهود، و شكل (أرائيل لانغول) المنظمة الإقليمية اليهودية التي لها صلاحية اختيار مكان مناسب للوطن القومي لليهود. و خلال هذا المؤتمر، كانت فلسطين مطروحة على طاولة النقاش، نظرا لما تحمله من شحنة دينية كانت أعين الصهاينة موجهة إليها، منذ البداية لاستغلالها، عبر تحويلها إلى إيديولوجيا تخدم المصالح الاستعمارية للغرب كما تخدم مصالح الصهيونية .
لقد نجح الصهاينة، إذن،  في إقناع القوى الاستعمارية – و خصوصا بريطانيا – بإنشاء وطنهم القومي على أرض فلسطين، و صدر وعد بلفور المشؤوم سنة 1917 ينظر للرعايا اليهود بعين العطف و يمنحهم وطنا كأنه مقتطع من الأراضي البريطانية. إنه، حقيقة، كما يسمى وعد ” من لا يملك لمن لا يستحق” وذلك بناء على المقولة الصهيونية المزيفة ” أرض بلا شعب لشعب بلا أرض “. و هذا نص الوعد الذي قدمه آرثر بلفور :
وزارة الخارجية، في الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني سنة 1917
عزيزي اللورد روتشيلد،
يسرني جداً أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالته، التصريح التالي الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود والصهيونية، وقد عرض على الوزارة وأقرته:
“إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى”.وسأكون ممتناً إذا ما أحطتم الاتحاد الصهيوني علماً بهذا التصريح.    و كما يبدو من خلال الوعد، فإن الحكومة البريطانية متورطة، بشكل واضح، في صناعة كيان عنصري و إرهابي في وطن يسكنه أهله لمئات السنين، و هذه الحقيقة التاريخية هي ما يتلافاها بلفور في وعده للصهاينة، فهو ينطلق بشكل واضح من المقولة الصهيونية: أرض بلا شعب لشعب بلا أرض. و لذلك فهو يكتفي بالإشارة إلى ” الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين ” و ليس “الشعب الفلسطيني”.
و هذا، في الحقيقة، ليس هفوة من آرثر بلفور، بل إن الإيديولوجيا الاستعمارية الغربية تقوم على هذا الأساس، حيث نجد في أشهر الموسوعات الفرنسية  (encyclopédie universalis) مصطلح “صهيونية sionisme يرتكز على النظر إلى الصهيونية بوصفها حركة لحل المشكلة اليهودية (مشكلة الشتات، وما أصاب اليهود فيها من اضطهاد). وفي طبعة عام 1943 من موسوعة “دائرة المعارف البريطانية” تم تعريف الصهيونية بأنها “رد فعل لليهود على اللاسامية الأممية”.
أما في طبعة 2000 من الموسوعة البريطانية فنقرأ تعريفا (إسرائيليا) للصهيونية بلغ، في صهيونيته، حد تسمية فلسطين ب” أرض إسرائيل “. و تزيد الموسوعة (البريطانية) فتستخدم اللفظ العبري لتأكيد هذا المعنى، مقدمة كل ذلك وكأنه من المسلمات التي لا خلاف عليها! حيث جاء في الموسوعة: “الصهيونية حركة يهودية قومية تستهدف إنشاء ودعم دولة لليهود في فلسطين “إرتز يسرائيل” (أرض إسرائيل بالعبرية).
والموسوعة (العلمية) البريطانية، بهذا التحديد، تقوم بالدعاية المفضوحة للمشروع الصهيوني الذي عمل، ولا يزال، على ابتزاز دول العالم بحجة الاضطهاد الذي مورس على اليهود في أوروبا، والتغطية على فعلها الاستعماري وإبادة وإجلاء الشعب الفلسطيني من أرضه. و في هذا السياق، كذلك، نجد مؤسس الحركة الصهيونية (تيودور هرتزل)  يعرف الصهيونية بأنها ” حركة الشعب اليهودي في طريقه إلى فلسطين” وهو التعريف الذي أخذت تكرره مختلف الأدبيات الخاصة بالمسألة الصهيونية.
و لعل مقارنة بسيطة بين التعريفات، التي صاغها مؤسسو الصهيونية لحركتهم، و بين ما تصوغه هذه الموسوعات (العلمية) ليؤكد، بوضوح، أن الصهيونية إيديولوجية استعمارية نظر لها – و ما يزال- العقل الغربي، و يعمل الوسيط الاستعماري على التنفيذ حماية للمصالح الاستعمارية الغربية.
و قد حدث هذا أثناء التأسيس، و ما يزال مستمرا، إلى حدود الآن، من خلال الدعم الغربي، سياسيا و اقتصاديا و عسكريا، سواء من أوربا أو أمريكا، و خصوصا بعد الطفرة النفطية الكبيرة في المنطقة، فقد أصبحت إسرائيل رأس الحربة في جميع الخطط التي تستهدف المنطقة العربية باعتبارها وسيطا استعماريا فوق العادة .
د. إدريس جنداري باحث