هل يصحّ الابتعاد عن الدين لمعالجة التطرف؟!

خميس, 2016-06-09 21:29

مواجهة نهج التطرّف تتطلّب الآن من العرب الارتكاز إلى فكرٍ معتدل ينهض بهم، ويُحصّن وحدة أوطانهم، ويُحقّق التكامل بين بلادهم، ويُحسّن استخدام ثرواتهم، ويصون مجتمعاتهم المعرّضة الآن لكلّ الأخطار. لكن الفكر المعتدل المطلوب ليس هو بالفكر الواحد في كلّ مكان، ولا يجب أن يكون. فالاعتدال هو منهج وليس مضموناً عقائدياً.
وقد يكون المضمون دينياً أو علمانياً، وطنياً أو قومياً أو أممياً، لا همّ بذلك، فالمهم هو ضرورة اعتماد نهج الاعتدال ورفض التطرّف كمنهاج في التفكير وفي العمل وفي السلوك الفردي أيضاً.
فالاختلاف والتنوّع في البشر والطبيعة، هما سنّة الخلق وإرادة الخالق، بينما دعاة التطرّف اليوم (وهم أيضاً ينتمون إلى أديان وشعوب وأمكنة مختلفة) يريدون العالم كما هم عليه، و”من ليس معهم فهو ضدّهم”، ويكفّرون ويقتلون من ليس على معتقدهم حتّى لو كان من أتباع دينهم أو من وطنهم وقومهم.
لكنْ هناك انقسام في المجتمعات العربية والإسلامية بين تيّارين أو منهجين فكريين؛ أحدهما يدعو لمقولة “العلمانية”، والآخر إلى الأخذ بالمنهج “الإسلامي”. وكلٌّ من أصحاب المدرستين يحاول الربط بين منهجه وبين سمات إيجابية أخرى حدثت أو تحدث في المجتمع، رغم أنّ لا علاقة لها في الأصل بالمنهج الفكري نفسه. فالتيّار “العلماني” يعتبر معارك التحرّر القومي ضدّ الاستعمار في القرن العشرين، وكذلك معارك العدالة الاجتماعية، وكأنّها منجزات للتيار الفكري العلماني، بينما نجد على الطرف الآخر من يعتبر مثلاً ظاهرة المقاومة بمثابة انتصار للمنهج الفكري الإسلامي.
أعتقد أنّ في الحالتين ظلماً للحقيقة. فقضايا التحرّر والهُويّة القومية والعدالة الاجتماعية ومقاومة الاحتلال ومحاربة الظلم أينما كان وكيفما كان، هي كلّها قضايا إنسانية عامّة لا ترتبط بمنهج فكري محدّد. فلا الدين يتعارض مع هذه القضايا ولا الابتعاد عنه يعني تخلّياً عنها. وهناك أمثلة عديدة عن مجتمعات كافحت من أجل هذه القضايا لكن اختلفت دوافعها الفكرية ونظرتها لدور الدين في الحياة.
إذن، أساس الخلاف بين التيّارين “العلماني” و”الإسلامي” هو فكري محض، ولا يجوز إلحاق كل القضايا بطبيعة هذا الخلاف. فالهُويّة الوطنية أو القومية مثلاً أصبحت ضحية لهذا الخلاف بين التيّارين في المنطقة العربية، بينما لا تتناقض إطلاقاً الهُويّة الثقافية للشعوب مع معتقداتها الدينية. كذلك هو أسلوب المقاومة ضدّ المحتل أو المستعمر حيث هو وسيلة تحرّر استخدمتها قوى مختلفة الألوان والمناهج الفكرية.
إنّ العكس هو المفروض أن يحدث في البلاد العربية بين التيّارين “الإسلامي” و”العلماني”، أي أن يبقى الاختلاف قائماً في المسألة الفكرية وأن يتمّ البحث عن المشترك من القضايا الوطنية والاجتماعية. فالاحتلال الإسرائيلي مثلاً لم ولا يميّز بين التيّارين في الأراضي المحتلة، إذ المستهدَف هو الفلسطيني إن كان من هذا الدين أو ذاك، أو إن كان “علمانياً” أو “إسلامياً”. الأمر نفسه ينطبق على القضايا الاجتماعية حيث لا ديناً أو لوناً فكرياً للفقر أو للظلم الاجتماعي.
أمّا الاختلاف على الجانب الفكري، فهو ظاهرة صحيّة إذا حصلت في مجتمعات تصون التعدّدية الفكرية والسياسية، وتسمح بالتداول السلمي للسلطة وباحترام وجود ودور “الرأي الآخر”. وهي مواصفات وشروط لمجتمعات تعتمد الحياة السياسية الديمقراطية، وتكون مرجعيتها هي القوانين والدساتير المجمَع على الالتزام بها بين كلّ الأطراف. فلا ينقلب طرفٌ على الآخرين وحقوقهم أو على الدستور ذاته لمجرّد الوصول إلى الحكم.
وهناك حاجة للتوافق المبدئي بين مختلف الاتجاهات الفكرية العربية على ضرورة الفرز والتمييز بين الجماعات التي تعمل تحت لواء أيَّة نظرية فكرية. فليس هناك مفهومٌ واحد لهذه النظريات حتّى داخل المعتقدين بها بشكل عام، ثم ليس هناك برنامج سياسي أو تطبيقي واحد حتّى بين الجماعات والحركات التي تتّفق على مفهومٍ واحد. هذا الأمر ينطبق على الجماعات “العلمانية” و”الإسلامية” كما على أتباع النظريات الشيوعية والرأسمالية، وعلى “المحافظين” والليبراليين” في العالم كلّه. كذلك صحّت هذه الخلاصة على التجارب القومية العربية، ومنها “الناصرية” و”البعث” وغيرهما، حيث غابت وحدة المفاهيم الفكرية والحركية عن هذه التجارب.
إذن، الموضوعية تفرض عدم وضع الحركات الإسلامية كلّها في سلّةٍ واحدة (فكراً وممارسة)، كذلك بالنسبة للقوى العلمانية.. وبالتالي عدم استخدام التعميم في التعامل مع أيَّة حالة.
أيضاً، من المعروف أنَّ أساليب الحكم ومفاهيم الدولة قد اختلفت إسلامياً من حقبةٍ لأخرى، حتّى في سياقها التاريخي منذ بدء الدعوة ثمّ في فترة الخلفاء الراشدين، ثمّ ما جرى بعد ذلك من حكم عائلي متوارث تحت مظلّة “الخلافة الإسلامية” وصراعات بين حقبة وأخرى، واختلاف في المفاهيم وصيغ الحكم ومرجعياته.
إنّ بإمكان المجتمع العربي الاستفادة فعلاً من التجربة “العلمانية الأميركية” المتميّزة عن التجارب العلمانية الأوروبية، لكن الأساس المطلوب عربياً وإسلامياً هو تعزيز منهج “العقلانية الدينية” في القضايا الفكرية والثقافية، من حيث استخدام العقل في فهم النصوص الدينية وعدم الارتكاز فقط على كتب التفسير والأحاديث وما يجري تداوله لأكثر من 1400 سنة، رغم تغيّر وتطوّر العالم والعلم، ومن ثمّ اعتماد المرجعية الشعبية في الوصول للحكم وفي أعمال المؤسسات التشريعية المنتخبة، وأيضاً بإلغاء الطائفية السياسية في بعض أنظمة الحكم (كما في لبنان والعراق الآن)، أي عدم اشتراط التبعية لدين أو مذهب أو أصول إثنية في أيّ موقع من مواقع الحكم ووظائف الدولة، مع اعتماد النهج الديمقراطي في مؤسسات الحكم وفي الوصول إليها، وبتحقيق المساواة الكاملة بين المواطنين (بما في ذلك المساواة بين المرأة والرجل) في الحقوق والواجبات.
إنّ المنطقة العربية هي مهد كلّ الرسالات السماوية والأنبياء ومواقع الحج الديني، وبالتالي فإنّ تغييب أو تهميش دور الدين فيها هو مسألة مستحيلة عملياً.
إنّ فصل الدين عن المجتمع لم يحصل في أيّ أمَّة إلا بفعل القوة (مثال نموذج تجارب الأنظمة الشيوعية). أما “فصل الدين عن الدولة” في الأنظمة الغربية فكان نسبياً، فهو في فرنسا فصلٌ كامل في السلوك السياسي والشخصي للحاكمين.. وهو في أميركا فصلٌ فقط بالسلوك السياسي.. ويختلف في بريطانيا عن النموذجين الفرنسي والأميركي.. وهناك في إيطاليا، وفي بعض دول أوروبا الأخرى، أحزاب سياسية قائمة على أساس ديني (كالحزب الديمقراطي المسيحي). أمّا في يوغوسلافيا، فلم ينجح الحكم العلماني الشيوعي (لأكثر من نصف قرن) في إزالة العصبيات الدينية حتّى بين الكاثوليك والأرثوذوكس!.
إنّ معالجة مشاكل العنف باسم الدين ليس حلّها بالابتعاد عن الدين، بدلالة ظهور حركات العنف في أميركا وأوروبا على أساس ديني رغم وجود الأنظمة العلمانية.
فالعلمانية وحدها هي ليست الحل لمشاكل المجتمع العربي!
ولقد شهدت بعض البلاد العربية والإسلامية تجارب لأنظمة حكم علمانية لكن بمعزل عن الديمقراطية السياسية في الحكم، والعدالة في المجتمع، فلم تفلح هذه التجارب في حلّ مشاكل دولها؛ كنظام بورقيبة في تونس، والنظام العلماني لشاه إيران، وتجربة الحكم الشيوعي في عدن الذي انتهى بصراعات قبائلية بين الحاكمين. وهذه التجارب لم تحلّ مشكلة غياب الديمقراطية.. ولم تحلّ مشكلة الأقليات.. ولم تحلّ المشاكل الاقتصادية.. ولم تحقّق التقدّم والعدالة الاجتماعية لشعوبها.
إنّ تنظيمات “القاعدة” و”داعش” و”النصرة” ما كانت لتظهر وتنمو في أفغانستان والعراق وسوريا وليبيا واليمن والصومال، لولا حالات الفوضى والحروب الأهلية التي نتجت عن احتلال أو تدخّل بعض الدول الكبرى في هذه البلدان. وهذه الجماعات التي تمارس أسلوب الإرهاب تحت شعاراتٍ دينية إسلامية، وهي تنشط الآن في عدّة دول بالمنطقة والعالم، تخدم في أساليبها وفي أفكارها المشروع الإسرائيلي الهادف لتقسيم المجتمعات العربية وهدم وحدة الأوطان والشعوب معاً.
لكن المشكلة الأساس في البلاد العربية والإسلامية ستبقى في غياب المرجعيات الفكرية الدينية السليمة التي يُجمِع الناس عليها، وفي تحوُّل الأسماء الدينية إلى تجارة رابحة يمارسها البعض زوراً وبهتاناً.
فالعنصر الأهمّ في ظاهرة الإرهاب باسم الدين هو العامل الفكري/العقَدي، حيث تتوارث أجيال في المنطقة العربية والعالم الإسلامي مجموعةً من المفاهيم التي يتعارض بعضها مع أصول الدعوة الإسلامية، ومع خلاصة التجربة الإسلامية الأولى في فترة الهجرة النبوية وفي عهد الخلفاء الراشدين.
إنّ المجتمع العربي بحاجة إلى إصلاحات فكرية وثقافية وسياسية واقتصادية واجتماعية.. وهذه الإصلاحات لا تتناقض مع القيم الدينية ولا تتعارض مع المفاهيم الإنسانية المعاصرة، وفي ذلك مسؤولية مشتركة لقوى “علمانية” و”إسلامية” تختلف فكرياً، لكنّها قد تشترك في برنامج نهضوي جديد، كما هو حال التجربة السياسية في تونس الآن.
صبحي غندور"مدير “مركز الحوار” في واشنطن
[email protected]