
في عصر هيمنت فيه الوسائط الرقمية على المشهد الإعلامي والتواصلي، أصبح من السهل تشكيل الرأي العام والتأثير عليه من خلال المعلومات التي يتم نشرها وتداولها. إلا أن هذه البيئة الرقمية أفرزت نوعًا من التباين في المفاهيم، حيث انتشرت المبالغات وأصبح التهويل والتهوين سمتين بارزتين في كثير من الخطابات المتداولة. وبينما نجد بعض القضايا البسيطة تأخذ حجماً يفوق قيمتها الحقيقية، نجد قضايا جوهرية تُقلل من شأنها أو تُهمل تمامًا.
الفرق بين التملق والعرفان بالجميل
من أكثر الإشكالات التي فرضتها هذه الوسائط هي الخلط بين التملق والعرفان بالجميل. فالتملق هو مدح غير مستحق يُمنح بدوافع نفعية، بينما العرفان بالجميل هو تقدير مستحق قائم على الاعتراف بالفضل. وبين هذا وذاك، تبرز مناطق رمادية تخلق جدلاً واسعًا حول مدى صحة المدح أو النقد الموجهين لأشخاص أو مواقف معينة.
وفي ظل هذه الضبابية، نجد أنفسنا أمام معضلة حقيقية: كيف نميز بين النقد البنّاء والهجوم غير المبرر؟ وكيف نفرّق بين الإشادة الحقيقية والتملق الفاضح؟ إن الحل يكمن في وضع الأمور في نصابها، بحيث نشيد بما يستحق الإشادة وننتقد ما يستوجب النقد، دون إفراط أو تفريط.
الإفراط والتفريط في النقد والإشادة
إن أحد أخطر ما أنتجته الوسائط الرقمية هو غياب الاعتدال في تناول القضايا. فإما أن يتم تهويل المسائل لدرجة التضخيم والمبالغة، أو يتم تهوينها وتقليل شأنها إلى حد التجاهل. فمثلاً، قد نجد قضية اجتماعية مهمة يتم التقليل من أثرها تحت ذريعة "عدم التهويل"، بينما يتم تضخيم قضايا سطحية وجعلها حديث الساعة.
هذا الخلل في المعالجة الإعلامية يؤدي إلى اضطراب في وعي الأفراد والمجتمعات، حيث يصبح من الصعب التمييز بين ما هو جوهري وما هو هامشي، مما ينعكس سلبًا على اتخاذ القرارات الفردية والجماعية.
نحو منهجية متوازنة
حتى نواجه هذه الظاهرة، علينا تبني منهجية تقوم على:
1. التحقق من المعلومات: يجب التأكد من صحة الأخبار والمحتويات قبل تصديقها أو مشاركتها.
2. تحكيم العقل والمنطق: عدم الانسياق وراء العواطف أو الآراء المسبقة، بل الحكم على الأمور وفق معايير واضحة.
3. الإنصاف في النقد والإشادة: منح كل موقف أو شخص التقدير الذي يستحقه دون زيادة أو نقصان.
4. عدم الانجرار وراء الترندات المزيفة: حيث أن كثيرًا من المواضيع الرائجة تكون مفتعلة لأغراض معينة.
إن الوصول إلى خطاب رقمي متزن لا يقوم على التهويل أو التهوين يتطلب وعياً جمعياً ومنهجية نقدية عادلة. نحن بحاجة إلى العودة إلى المبادئ الأخلاقية التي تحكم الحوار والنقاش، بحيث يكون الهدف هو الوصول إلى الحقيقة وليس مجرد صناعة الإثارة أو تحقيق المصالح الضيقة. وبهذا، يمكننا بناء بيئة رقمية أكثر نضجًا وعدالة.
سيدي محمد ولد دباد
15/02/2025