كلما طال أمد معركة طوفان الأقصى التي انطلقت في 7 أكتوبر 2023 والعملية العسكرية الإسرائيلية المتعددة الأوجه سواء ضد قطاع غزة أو خارجها كلما زاد تراكم التبعات المترتبة وأخطار توسع المواجهة إلى حرب إقليمية وربما عالمية. أسابيع قليلة تفصلنا عن اكتمال السنة الأولى لطوفان الأقصى بينما تستمر المسلسلات الإسرائيلية الأمريكية المملة عن الهدن والتسويات السياسية وأساطير حرص الغرب على إيجاد الحلول وإقامة الدولة الفلسطينية، وكلها جزء من إستراتيجية تضليل إعلامي ومحاولة لكسب الوقت على أمل أن تتمكن تل أبيب من حسم المعركة لصالحها وتحقيق هدفها في تصفية المقاومة الفلسطينية وإجبار سكان غزة والضفة الغربية على الهجرة إلى سيناء والأردن وهو الأمر الذي فشلت حتى الآن في تحقيقه. هذه الأساليب تذكر بالأيام الأخيرة للوجود البرتغالي الاستعماري في أفريقيا (أنغولا وغينيا بيساو وموزمبيق) سنة 1974.
الحالمون في تل أبيب وواشنطن ولندن بنجاح المرحلة الجديدة من مخطط إسرائيل الكبرى، يواجهون تحديات متضخمة مع تواصل الحرب رغم نجاحهم في ارتكاب المجازر ضد المدنيين الفلسطينيين، وهذه التحديات وكما أثبتت تجارب عشرات الشعوب الثائرة ضد الاستعمار عبر العقود السالفة خاصة من القرنين العشرين والحادي والعشرين تنذر بإقبار مشروعهم في منطقة المركز للشرق الأوسط الكبير. جزء كبير من مخططات المحافظين الجدد تنهار، تركيا تبذل سياستها تجاه دمشق مع نهاية مشروع الفوضى الخلاقة، حلفاء الغرب في لبنان يختفون تدريجيا من الساحة، السودان يقترب من هزيمة مخطط التقسيم القديم الجديد، منطقة الساحل تطرد الوجود الغربي.
تفيد آخر تقارير مراكز الرصد ومنها الأوروبية أن زهاء 807 ألف مستوطن إسرائيلي قد رحلوا إلى دول الاتحاد الأوروبي وكندا والولايات المتحدة بهدف الاستقرار الطويل الأمد حتى نهاية شهر يوليو 2024.
في نفس الوقت يواجه الجيش الإسرائيلي نقصا كبيرا في تعداد المجندين ورفضا متزايدا من طرف جنود وضباط الاحتياطي للمشاركة في الحرب، ونتيجة لذلك تكثف اعتماد الجيش الإسرائيلي على الشركات الأمنية الخاصة الأمريكية والبريطانية أساسا مثل شركة Forward Observations Group الأمريكية وشركة سيكيوريكور ومقرها الرئيسي في كرولي الواقعة جنوب لندن في ويست ساسكس وغيرهما، أضف إلى ذلك الوحدات العسكرية الخاصة الأمريكية والبريطانية التي توجد في منطقة غزة منذ نهاية سنة 2023 تحت غطاء المساعدة على تحديد مواقع احتجاز الأسرى الإسرائيليين.
الأذرع الإسرائيلية حول العالم تقوم بتجنيد مرتزقة من مناطق عديدة لتعزيز جيشها مقابل أجور شهرية تصل إلى 4000 دولار
ونهاية شهر أغسطس 2024 أعلنت وزيرة الدولة الفلسطينية لشؤون الخارجية فارسين شاهين تلقيها وعودا من عدد من الدول باتخاذ إجراءات ضد مواطنيها ممن يقاتلون بصفوف الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة.
وصرحت الوزيرة الفلسطينية شاهين لوكالة "نوفوستي": "تلقينا وعودا بشأن هذه القضية ونأمل أن يكون هناك انتقال من الأقوال إلى الأفعال في إطار القانون الدولي والقوانين المعتمدة في تلك الدول نفسها".
أحد أخطر التهديدات التي تواجه تل أبيب هي التكلفة الاقتصادية للحرب والتي يحذر حتى قادة سياسيون في إسرائيل والغرب من أنها ستقود إلى الانهيار التام. اللافت أنه رغم الرقابة الشديدة التي تمارسها سلطات تل أبيب سواء تعلق الأمر بخسائرها على الساحة العسكرية أو حجم الهجرة المضادة أو الخسائر الاقتصادية تتسرب معلومات كثيرة. يسجل نوع من التباين بين هذه المعلومات وهو ما يكشف أن ما يسعى للتستر عليه أعظم.
انهيار خلال عام
حذر مقال نشرته صحيفة "هآرتس"، الخميس 22 أغسطس 2024، من أن إسرائيل "ستنهار في غضون عام" في حال استمرت حرب الاستنزاف ضد حركة حماس وحزب الله اللبناني.
في البداية يوجه المقال، الذي كتبه الجنرال الإسرائيلي المتقاعد إسحاق بريك، انتقادات شديدة اللهجة لوزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت على خلفية تصريحات أدلى خلال بداية الحرب وأشار فيها إلى قرب القضاء على حماس وقتل قادتها.
وذكر الجنرال الإسرائيلي الذي يوصف بأنه أعلم الجنرالات بالمشاكل التي تتعلق بجاهزية الجيش الإسرائيلي حيث قائداللكليات العسكرية وخدم في سلاح المدرعات وتولى العديد من المناصب القيادية، بأن إسرائيل تواجه خطر الانهيار في غضون عام واحد فقط إذا استمرت حرب الاستنزاف ضد حزب الله وحماس.
يقول الكاتب إن معظم التصريحات "الرنانة" التي أطلقها غالانت طوال الحرب في غزة ثبت أن لا أساس لها من الصحة، وإنالوزير الإسرائيلي ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وباقي الكابينة الحكومية يدركون ذلك بالفعل.
يشير المقال كذلك إلى أن إسرائيل تغرق أكثر فأكثر في "وحل" في غزة، وتخسر المزيد من جنودها دون أي فرصة لتحقيق الهدف الرئيسي للحرب والمتمثل بإسقاط حماس.
يذهب الكاتب الإسرائيلي أبعد من ذلك ويرى بلاده تقترب من حافة الهاوية، في ظل تكثف الهجمات في الضفة الغربية وإسرائيل، فيما يعاني جنود الاحتياط الذين يتم استدعاؤهم للخدمة من الإحباط.
على الجانب الآخر، يعتقد كاتب المقال أن اقتصاد البلاد في حالة سيئة، وكذلك أصبحت إسرائيل دولة "منبوذة" مما أدى إلى مقاطعات اقتصادية لها وفرض حظر على شحنات الأسلحة.
الكاتب أشار إلى أن زعيم حماس يحيى السنوار وزعيم حزب الله حسن نصر الله يعيان تماما "الوضع المزري" الذي تعيشه إسرائيل ويعملان على استغلاله.
ويواصل المقال قائلا إن "السنوار يدرك أن حرب الاستنزاف تعمل لصالحه، وربما تتحول لحرب إقليمية، بالتالي هو يفضل استمرار القتال على التوصل إلى اتفاق".
بالإضافة لذلك ينتقد كاتب المقال نتنياهو ويشير إلى أنه هو الآخر يضع العراقيل أمام التوصل لاتفاق إطلاق نار في غزة ويهدد بإشعال الشرق الأوسط برمته عبر إتباع أسلوب الاغتيالات.
ويشدد الكاتب أن "كافة المسارات التي اختارتها القيادة السياسية والعسكرية في إسرائيل تقود البلاد إلى منحدر زلق وقد تصل قريبا إلى نقطة اللاعودة".
بدء العد التنازلي
قبل ذلك وفي بداية شهر يونيو 2024 حذرت صحيفة هآرتس الإسرائيلية من "انهيار دولة إسرائيل"، إذا لم تتحرك السلطات السياسية " وإلا فإن العد التنازلي قد بدأ لزوال إسرائيل".
وقالت الصحيفة في افتتاحيتها إن "إسرائيل تمارس الوحشية حاليا، ما سيجعل انهيارها مسألة وقت إذا لم يكن هناك تحرك لإيقافها".
وانتقدت الصحيفة مسيرة الأعلام في شوارع القدس، الأربعاء 5 يونيو 2024، ووصفتها بأنها كانت "قبيحة وعنيفة"، ورصدت تحذير الفيلسوف، يشعياهو ليبوفيتش، من أن "الفخر الوطني والنشوة التي أعقبت حرب الأيام الستة (حرب يونيو 1967) مؤقتة، وستقودنا من القومية الفخورة الصاعدة إلى القومية المتطرفة والمسيانية المتطرفة، ثم ستكون المرحلة الثالثة هي الوحشية والمرحلة الأخيرة ستكون نهاية الصهيونية".
وتعزو الصحيفة سبب غياب حركة للفلسطينيين في القدس، "لأنهم تعلموا بالفعل أنه عندما يحتفل اليهود بيوم القدس، فمن الأفضل إخلاء الساحة حتى لا يقوم المحتفلون بشنقهم".
وترى الصحيفة أن "الوحشية" لم تعد مقتصرة على الهوامش أو المستوطنات والبؤر الاستيطانية، "بل انتشرت في كل اتجاه، والأمر المرعب أنها اخترقت حتى المؤسسة العسكرية والكنيست والحكومة".
وأفادت الصحيفة، أن وزراء الحكومة وأعضاء الكنيست انضموا إلى آلاف المتظاهرين، بل ورقص بعضهم على أنغام أغنية انتقام الدموية، وهو دعاء شمشون الذي جاء في التوراة للانتقام من الفلسطينيين.
ووفق الصحيفة، "شارك في المسيرة الوزراء بتسلئيل سموتريتش وميري ريجيف، وكذلك أعضاء الكنيست تسفي سوكوت، سيمشا روثمان وألموغ كوهين، وبالطبع ملك الكاهانيين بن غفير، الذي استغل الفرصة لتهديد الوضع الراهن في جبل الهيكل (المعروف لدى المسلمين بالحرم الشريف) وإثارة حرب دينية".
وحذرت الصحيفة من أنه "إذا لم يتحرك المركز السياسي في إسرائيل لإعادة المتطرفين إلى هامش المجتمع، والقضاء على الكاهانيين ووقف النمو الخبيث للاحتلال من الجسم السياسي، فإن سقوط إسرائيل النهائي لن يكون سوى مسألة وقت"، وقالت إن "العد التنازلي للانهيار قد بدأ".
تضرر اقتصادي
ذكرت وكالة "بلومبرغ" الأمريكية في تقرير مطول نشر، يومالاثنين 26 أغسطس 2024، أن الاقتصاد الإسرائيلي تضرر بعد تعثر إقرار الميزانية بسبب الحرب المستمرة منذ نحو 11 شهرا.
ومع تركيز الاهتمام المحلي والدولي على حرب إسرائيل في غزة وتصاعد التوترات مع حزب الله، أوقفت إدارة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، المناقشات حول ميزانية العام المقبل، والتي قد تكون الأكثر تحديا وأهمية منذ عقود، وفقا للوكالة.
وعلى الرغم من تأكيد نتنياهو ووزير المالية، بتسلئيل سموتريتش، على أنه سيكون هناك إطار مالي لموازنة عام 2025، إلا أنهما لم يقدما أي تفسيرات حول التأخير في صياغة هذا الإطار.
ويثير هذا الغموض قلق الأسواق والمستثمرين بشأن إمكانية صياغة الإطار، بالتزامن مع تفاقم العجز في الميزانية وارتفاع الديون بسبب الحرب. وعادة ما يبدأ وضع الميزانية في هذا الوقت من العام بالأحوال العادية.
وكرر كبار الموظفين في البنك المركزي ووزارة المالية التحذير نفسه الذي أطلقته وكالات التصنيف الائتماني وقادة الأعمال من أن وقف مناقشة الميزانية سينعكس سلبا على الاقتصاد الإسرائيلي، ويزيد من المخاطر.
وكانت التوترات بشأن الميزانية واضحة في رسالة كتبها محافظ بنك إسرائيل، أمير يارون، إلى نتنياهو هذا الشهر. فقد حث خلالها رئيس الوزراء على متابعة اجتماع عقدوه قبل أسابيع لمناقشة سبل استقرار المالية، بما في ذلك تخفيض الإنفاق وزيادة الضرائب.
وقد خفضت وكالة فيتش الاثنين التصنيف الائتماني لإسرائيل من "A+" إلى "A" مشيرة إلى تفاقم المخاطر الجيوسياسية مع استمرار الحرب.
وأبقت وكالة فيتش للتصنيف الائتماني على نظرتها المستقبلية للتصنيف عند مستوى سلبي وهو ما يعني إمكانية خفضه مرة أخرى.
وقالت الوكالة في بيان "نعتقد أن الصراع في غزة قد يستمر حتى عام 2025 وهناك مخاطر من امتداده إلى جبهات أخرى". وتفيد تقارير اقتصادية أن تل أبيب وبدون حساب الدعم الأمريكي البريطاني بالسلاح تنفق مليار دولار أسبوعيا على الحرب على جبهة غزة وحدها.
120 مليار دولار
جاء في تقرير نشرته وكالة أسوشيتد برس يوم 26 أغسطس 2024:
في البلدة القديمة بالقدس، أغلقت كل محلات بيع الهدايا التذكارية تقريبا، وفي سوق السلع المستعملة في حيفا، يضع التجار البائسون بضائعهم في شوارع خالية، بينما تلغي شركات طيران رحلاتها، وباتت الفنادق الفخمة نصف فارغة. هكذا أصبح الاقتصاد الإسرائيلي يعاني مع الحرب في غزة.
وتقول الوكالة إنه بعد ما يقرب من 11 شهرا من الحرب مع حماس، التي لا تظهر أي علامات على نهايتها، يعاني الاقتصاد الإسرائيلي، بينما يحاول رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، تهدئة المخاوف بالقول إن الضرر الاقتصادي مؤقت.
لكن الحرب ألحقت الضرر بآلاف الشركات الصغيرة، وأضعفت الثقة الدولية. ويقول بعض كبار خبراء الاقتصاد إن وقف إطلاق النار في غزة هو أفضل وسيلة لوقف الضرر.
وصرحت كارنيت فلوغ، رئيسة البنك المركزي الإسرائيلي السابقة، التي تشغل الآن منصب نائب رئيس الأبحاث في معهد الديمقراطية الإسرائيلي في القدس، إن "الاقتصاد في الوقت الحالي يعاني بشكل هائل من عدم اليقين، وهذا مرتبط بالوضع الأمني: إلى متى ستستمر الحرب، وما مدى شدتها، ومسألة ما إذا كان سيكون هناك المزيد من التصعيد".
وكان الاقتصاد الإسرائيلي قد تعافى من الصدمات السابقة، خلال الحروب القصيرة مع حماس، لكن هذا الصراع المطول خلق ضغوطا أكبر، بما في ذلك تكلفة إعادة البناء، وتعويض أسر الضحايا وجنود الاحتياط، والإنفاق العسكري الضخم.
وتشير الوكالة إلى تأثير "قاس" للصراع المطول والتهديدات الإيرانية بتوسيع الصراع على قطاع السياحة.
وصرح مسؤول في ميناء حيفا الذي بات ساكنا بعدما كان صاخبا في السابق، والذي تحدث للوكالة شريطة عدم الكشف عن هويته، إنه مع تعريض جماعة الحوثي السفن المارة عبر قناة السويس المصرية أو المتوجهة إلى أيلات للخطر، توقفت العديد من السفن عن استخدام الموانئ الإسرائيلية.
وأضاف أن الموانئ الإسرائيلية شهدت انخفاضا بنسبة 16 في المئة بعمليات الشحن في النصف الأول من العام، مقارنة بالفترة ذاتها، عام 2023.
ودفعت المخاوف الإقليمية شركات الطيران الكبرى، بما في ذلك دلتا ويونايتد ولوفتهانزا، إلى تعليق الرحلات الجوية من وإلى إسرائيل.
وقال ياكوف شينين، الخبير الاقتصادي الإسرائيلي الذي يتمتع بخبرة تمتد لعقود في تقديم المشورة لرؤساء الوزراء الإسرائيليين والوزارات الحكومية، إن التكلفة الإجمالية للحرب قد تصل إلى 120 مليار دولار، أو 20 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد.
ومن بين جميع الدول الأعضاء، البالغ عددها 38 في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، شهد اقتصاد إسرائيل أكبر تباطؤ، في الفترة من أبريل إلى يونيو 2024، حسبما أفادت المنظمة.
وفي الوقت ذاته، أغلقت العديد من الشركات الصغيرة أبوابها لأن أصحابها وموظفيها استدعوا لأداء خدمة الاحتياط أو هاجروا.
وتشير شركة الأعمال الإسرائيلية "كوفاس بي دي آي" إلى أن نحو 46 ألف شركة أغلقت أبوابها منذ بداية الحرب، 75 في المئة منها شركات صغيرة.
وذكر جيريمي بيركوفيتز، ممثل أصحاب الفندق، إن فندق أميركان كولوني الشهير في القدس، وهو محطة شعبية للسياسيين والدبلوماسيين ونجوم السينما، قد سرح عماله ويدرس خفض الأجور.
وقال بيركوفيتز: "فكرنا في وقت ما في إغلاق الفندق لبضعة أشهر، لكن هذا يعني بالطبع طرد جميع الموظفين. وكان هذا يعني ترك الحدائق، التي طورناها على مدى 120 عاما، بورا".
وذكر شينين إن أفضل طريقة لمساعدة الاقتصاد على التعافي هي إنهاء الحرب.
لكنه حذر قائلا: "إذا كنا عنيدين واستمرت هذه الحرب، فلن نتعافى".
مستقبل قاتم
يشير محللون وخبراء في الغرب إلى أن حرب غزة وبعد أشهر قليلة من بدايتها ولدت زخما ومعطيات دقت ناقوس خطر انهيار إسرائيل وأن الوقت قد فات مع الربع الأخير من سنة 2024 لعكس مسار الانهيار.
توقع تقرير نشرته مجلة فورين آفيرز الأمريكية، الإثنين 12 أغسطس 2024، مستقبلا قاتماً ينتظر إسرائيل بعد نهاية حرب غزة، حيث ستصبح في طريقها إلى أن تكون أكثر استبداداً. وستكون دولة منبوذة على الصعيد الدولي مع خسارة العديد من الحلفاء في ظل مخاوف أيضا من أن تشهد حربا أهلية وأن تتحول إلى دولة فاشلة.
وأفاد التقرير الذي كتبه الباحثان إيلان زيد بارون، أستاذ السياسة الدولية والنظرية السياسية بجامعة دَرْهَم البريطانية وإلاي زيد سولتزمان، الأستاذ المشارك بالدراسات الإسرائيلية بجامعة ميريلاند الأمريكية، إن الرؤية التي تم على أساسها إنشاء دولة إسرائيل في مايو 1948 وتأكيد إعلان الاستقلال على أن الدولة "ستضمن المساواة الكاملة في الحقوق الاجتماعية والسياسية لجميع سكانها بغض النظر عن الدين أو العرق أو الجنس"، لم تتحقق.
فبعد ما يقرب من عقدين من الزمان منذ توقيع الإعلان، عاش الفلسطينيون في إسرائيل تحت الأحكام العرفية. ولم تكن إسرائيل قادرة على حل التناقض بين المبدأ العالمي لإعلان الدولة والحاجة الضيقة لإنشاء إسرائيل كدولة يهودية لحماية اليهود فقط، بحسب التقرير.
وعلى مدى عقود من الزمان، برز هذا التناقض الجوهري مراراوتكرارا، مما أدى إلى اضطرابات سياسية شكلت وأعادت تشكيل المجتمع والسياسة في إسرائيل ــ دون حل هذا التناقض على الإطلاق. ولكن الآن، بعد الحرب في غزة وأزمة التعديلات القضائية التي سبقتها، أصبح من الصعب أكثر من أي وقت مضى الاستمرار على هذا النحو، الأمر الذي دفع إسرائيل نحو نقطة الانهيار.
وتوقع التقرير أن إسرائيل ستكون أكثر استبدادا مع الفلسطينيين بل وأيضا مع مواطنيها. وقد تخسر بسرعة العديد من أصدقائها وتصبح منبوذة. ومع عزلتها عن العالم، قد تستهلكها الاضطرابات في الداخل مع اتساع الشقوق التي تهدد بتفكك البلاد نفسها.
وأوضح التقرير أن هجمات السابع من أكتوبر 2023 جاءت في وقت كانت تواجه فيه إسرائيل بالفعل حالة من عدم الاستقرار الداخلي الهائل.
فقد سمح النظام الانتخابي في البلاد، الذي يعتمد على التمثيل النسبي، في العقود الأخيرة بدخول المزيد من الأحزاب السياسية المتطرفة إلى الكنيست. ومنذ عام 1996، كانت هناك 11 حكومة مختلفة، بمعدل حكومة جديدة كل عامين ونصف العام – ستة منها بقيادة رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو.
وفي الفترة ما بين عامي 2019 و2022، اضطرت إسرائيل إلى إجراء خمس انتخابات عامة. ولعبت الأحزاب السياسية الصغيرة أدوارا رئيسية في تشكيل الحكومات وإسقاطها، حيث مارست نفوذاً غير متناسب. وبعد الانتخابات الأخيرة، في نوفمبر 2022، شكل نتنياهو حكومة بدعم من الأحزاب السياسية الصغيرة وقادة من أقصى اليمين.
وفي عام 2023، دفع نتنياهو وحلفاؤه من اليمين المتطرف نحو مشروع قانون للإصلاح القضائي يهدف إلى الحد بشكل كبير من إشراف المحكمة العليا على الحكومة. وكان نتنياهو يأمل أن يحميه الإصلاح المقترح من قضية جنائية جارية ضده. كما أراد حلفاؤه المتشددون أن يمنع الإصلاح تجنيد الآلاف من طلاب المدارس الدينية، الذين تم إعفاؤهم منذ فترة طويلة من الخدمة العسكرية.
وقد أثار الإصلاح القضائي المقترح احتجاجات ضخمة في جميع أنحاء البلاد، وكشف عن مجتمع منقسم بعمق بين أولئك الذين يريدون أن تظل إسرائيل دولة ديمقراطية ذات قضاء مستقل وأولئك الذين يريدون حكومة يمكنها أن تفعل ما يحلو لها تقريباً، بحسب ما ذكره التقرير.
النهاية
وأشار التقرير إلى أن الائتلاف الحاكم حاليا يحاول إحياء بعض عناصر الإصلاح القضائي، الذي تم تمرير نسخة منه في الكنيست في يوليو 2023 قبل أن تُلغى من قبل المحكمة العليا في بداية هذا العام، مع استمرار الحرب في غزة.
وقال التقرير إن الاحتجاج على الإصلاح القضائي كشف عن مخاوف داخل إسرائيل بشأن طبيعة الديمقراطية في البلاد، ولكنه لم يثر أي تساؤلات حول مسؤولية إسرائيل تجاه الفلسطينيين الذين يعيشون تحت الاحتلال.
فالعديد من الإسرائيليين يرون أن معاملة بلادهم للفلسطينيين منفصلة عن عملها كديمقراطية. فقد تسامح الإسرائيليون لفترة طويلة مع العنف الذي يمارسه المستوطنون اليهود ضد الفلسطينيين، إن لم يكن يقرونه. وفي انتهاك للقانون الدولي، تفرض إسرائيل على الفلسطينيين الذين يعيشون تحت حكمها في الضفة الغربية والقدس الشرقية ما يشبه الأحكام العرفية.
وأشرفت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على توسيع المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية، الأمر الذي يعرض للخطر إنشاء دولة فلسطينية ذات سيادة في المستقبل.
دولة عاجزة
وذكر التقرير: "إن الحرب في غزة، حيث قتلت القوات الإسرائيلية نحو 40,000 شخص، وفقا لتقديرات متحفظة، كشفت عن دولة تبدو عاجزة أو غير راغبة في دعم الرؤية الطموحة التي تضمنها إعلان الاستقلال".
واعتبر التقرير أن إسرائيل، في مسارها الحالي، تنحرف نحو اتجاه غير ليبرالي إلى حد كبير. ذلك أن التحول اليميني المتطرف الذي تشهده إسرائيل حاليا، والذي يتبناه الساسة فضلا عن العديد من ناخبيهم، قد يؤدي إلى تحول إسرائيل إلى نوع من الدولة الدينية القومية العرقية، التي يديرها مجلس قضائي وتشريعي يهودي ومتطرفون دينيون من اليمين.
واستعرض التقرير عددا من السياسيين القوميين المتشددين الذين يدعون صراحة إلى دولة يلعب فيها الدين دوراً كبيراً ومن بينهم بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير وأفي ماعوز، وهم جميعاً لاعبون رئيسيون في حكومة نتنياهو الائتلافية.
ووصف التقرير هذه الشخصيات بأنها تمثل شريحة جديدة نسبياً ولكنها تحظى بنفوذ متزايد.
وأفاد التقرير إن إسرائيل التي يهيمن عليها اليمين المتطرف قد أصبحت بالفعل معزولة على نحو متزايد على المستوى الدولي، وتسعى العديد من المنظمات الدولية إلى اتخاذ تدابير قانونية ودبلوماسية عقابية ضدها.
لقد وجهت قضية الإبادة الجماعية في محكمة العدل الدولية ورأيها الأخير بشأن عدم شرعية الاحتلال، وطلبات المحكمة الجنائية الدولية لإصدار مذكرات اعتقال بحق نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت، والعديد من المزاعم ذات المصداقية بارتكاب جرائم حرب وانتهاكات لحقوق الإنسان، ضربة قوية لمكانة إسرائيل العالمية.
وحتى مع دعم الحلفاء الرئيسيين، فإن التأثير التراكمي للرأي العام السلبي، والتحديات القانونية، والتوبيخ الدبلوماسي من شأنه أن يعمل على تهميش إسرائيل بشكل متزايد على الساحة العالمية.
ومع أن التقرير توقع أن إسرائيل غير الليبرالية سوف تظل تتلقى الدعم الاقتصادي من عدد قليل من البلدان، بما في ذلك الولايات المتحدة، إلا أنه أشار إلى أنها سوف تكون معزولة سياسياودبلوماسيا عن معظم بقية المجتمع العالمي، بما في ذلك أغلب بلدان مجموعة الدول السبع. وسوف تتوقف هذه البلدان عن التنسيق مع إسرائيل في المسائل الأمنية، وعن المضي قدما في عقد اتفاقيات تجارية مع إسرائيل، وشراء الأسلحة.
ومن المرجح أن ينتهي الأمر بإسرائيل إلى الاعتماد كليا على الولايات المتحدة وتصبح عرضة للتحولات في المشهد السياسي الأمريكي في وقت يتساءل فيه عدد متزايد من الأمريكيين عن دعم بلادهم غير المشروط للدولة اليهودية.
حرب أهلية
وإذا ما تمكن نتنياهو وحلفاؤه من تحقيق أهدافهم، فإن الديمقراطية الإسرائيلية سوف تصبح جوفاء وإجرائية، مع تآكل الضوابط والتوازنات الليبرالية التقليدية بسرعة. وهذا من شأنه أن يضع البلاد على مسار غير مستدام من المرجح أن يؤدي إلى هروب رأس المال وهجرة الأدمغة وتعميق التوترات الداخلية.
ومع تزايد الاستبداد في إسرائيل، فإن هذا التحول غير الليبرالي لن يخفي الانقسامات المتنامية داخل المجتمع الإسرائيلي. وسوف تفقد الدولة بشكل متزايد احتكارها للاستخدام المشروع للقوة، وقد تشتعل الانقسامات إلى حد الحرب الأهلية، وفق التقرير.
ورسم التقرير صورة قاتمة لما قد تبدو عليه إسرائيل التي قد تتحول إلى نوع من الكيان المقسم إلى أجزاء حيث تعمل العناصر اليمينية الدينية والقومية على بناء دولتها الفعلية، على الأرجح في مستوطنات الضفة الغربية. أو قد تشهد تمردا للمتطرفين الدينيين والقوميين المتطرفين من شأنه أن يقسم إسرائيل في حرب أهلية عنيفة بين جناح اليمين الديني المسلح وأجهزة الدولة القائمة.
وقال التقرير إنه حتى مع عدم اندلاع الحرب الأهلية، فإن هذا الوضع سوف يظل غير مستقر، وسوف ينهار الاقتصاد، وتصبح إسرائيل دولة فاشلة.
تضليل لحماية تل أبيب
نشر موقع "Counterpunch" الأمريكي نهاية شهر أغسطس 2024 مقالا للكاتب جمال كنغ يتحدث فيه عن استراتيجية التضليل الإعلامي التي يمارسها وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن فيما يخص المفاوضات بين "إسرائيل" وحماس من جهة، ومع مصر من جهة أخرى، الأمر الذي يزيد من معاناة الفلسطينيين في غزة.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:
بعد اجتماع دام 3 ساعات مع بنيامين نتنياهو أعلن وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، عن قبول "تلّ أبيب" اتفاق وقف إطلاق النار المفترض. ولكن بعد أقل مِن 48 ساعة اتضح أن ما أُعلن عنه كان جزءاً من استراتيجية تضليل إعلامي مصممة لإلباس الذئب ثياب الحمل. فلقد أصبح التواطؤ بين إدارة جو بايدن ونتنياهو جليا أكثر، حين أجاب مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض جون كيربي، عن موقف الإدارة من شروط نتنياهو لوقف إطلاق النار، وأهمها سيطرة قوات إسرائيل على حدود القطاع ووسط مدينة غزة، "الجيش الإسرائيلي يمكن أن يتحملَ مسؤوليات أمنية على الحدود"، بمعنى موافقة غير متوارية على شروط نتنياهو كي يستأنف حرب الإبادة الجماعية ضد 2.3 مليون فلسطيني في غزة، مقابل إطلاق سراح نحو 100 أسير إسرائيلي و6 أسابيع من الهدوء.
وكان قد كشف عن أن القاهرة و"تل أبيب" ستناقشان شروط نتنياهو الجديدة لوقف الحرب على غزة، التي قبلتها الولايات المتّحدة. لكن مصر، جددت رفضها لها ولبقاء قوات الاحتلال في رفح، وفي ممر فيلادلفيا. والمفارقة أن بلينكن توقع أن يقبل الفلسطينيون ما ترفضه مصر، تحت ضغط الإبادة الجماعية لإحراج القاهرة وإخضاعها بالمحصلة لإرادة نتنياهو. لذا إن بلينكن يعمل في الواقع كوكيل صهيوني، يتواطأ مع "تل أبيب" للحفاظ على سيطرتها على الحدود بين غزة ومصر، في انتهاك صارخ لاتّفاقية "كامب ديفيد" الشهيرة.
وفي تصريحه المشوه بشأن إعادة صياغة شروط نتنياهو، ذهب بلينكن إلى أبعد من ذلك حين ألمح إلى أن معاناة 2.3 مليون فلسطيني في غزة هي نتيجة لرفض المقاومة قبول الإملاءات الأمريكية الإسرائيلية الجديدة، وليس نتيجة للحرب التي تشنها الدولة الصهيونية. وبعبارة أخرى، الفلسطينيون برفضهم مطلب نتنياهو بالاستسلام، يتحملون اللوم على الإبادة الجماعية الإسرائيلية بحقهم.
كذلك، حاول بلينكن إعادة صياغة تبنّي إدارة البيت الأبيض للشروط الجديدة على أنها اقتراح أمريكي. لكن، سرعان ما كشف نتنياهو عن تحريف بلينكن لما جرى الاتفاق عليه من خلال رفضه أي اقتراح لوقف إطلاق النار الدائم والإصرار على سيطرة "دولة" الاحتلال على حدود غزة مع مصر. وهذا ما أكدته شبكة "سي أن أن"، التي أفادت بأن نتنياهو ما زال على موقفه بشأن استئناف الحرب بعد إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين، وأن ما يسمى "اقتراح بلينكن" الجديد ليس ليس إلا دعوة إلى اتفاق جزئي فقط.
يجب على أي مسؤول أمريكي من أي مستوى إظهار القليل من احترام الذات والخجل، من مواصلة نتنياهو إحراج بلينكن وكشف شراكة الولايات المتّحدة الكاملة بالإبادة الجماعية الإسرائيلية بحق الفلسطينيين. وناهيك عن نفاق بلينكن، يبدو أن إذلال نتنياهو المتعمد لإدارة بايدن هو جزء من تدخل "تل أبيب" المثير في التنافس الانتخابي الرئاسي، وربما بالتنسيق مع حملة دونالد ترامب، بهدف تصوير بايدن على أنه ضعيف من خلال تقويض وقف إطلاق النار، حتى لا يستفيد منه المرشح الديمقراطي في صناديق الاقتراع في الانتخابات الأمريكية المقبلة في نوفمبر.
ورغم ذلك، تواصل إدارة بايدن توفير غطاء سياسي لـ "إسرائيل" لجرائمها من خلال تداول روايات كاذبة عن تقدم لا أساس له في المفاوضات منذ أواخر فبراير 2024. ويتقاسم بايدن، والآن كامالا هاريس إلى جانب نتنياهو، حاجة مشتركة إلى إدامة هذه المحادثات التي لا نهاية لها. هاريس، لديها أسباب انتخابية، ونتنياهو، لتعظيم معاناة الفلسطينيين ودفعهم نحو الاستسلام.
على هذا، دعوة إدارة بايدن لوقف إطلاق النار جوفاء مثل قنديل البحر، وغير صادقة مثل اعتذار ترامب. فهو يدعو إلى وقف إطلاق النار، بينما يواصل توفير الوقود لتأجيجها. وفي الأسبوع الجاري على سبيل المثال، رفعت إدارته من مستوى تغذية الحرب إلى معلم جديد من خلال تسليم "الدولة" الصهيونية 50 ألف طن عبر 500 رحلة بإطار الجسر الجوي، أي ما يقرب من شحنتين يوميا منذ نحو 10 أشهر.
وبدافع من مصلحة "دولة" الاحتلال الإسرائيلي فقط، اتبعت إدارة بايدن استراتيجية من شقين، الأول، هو استخدام المفاوضات للتهرب أو تأخير أو تخفيف أي رد على العدوان الإسرائيلي على بيروت وإيران واليمن. والثاني، منح "إسرائيل" حرية التصرف في تعميق معاناة المدنيين الفلسطينيين، من أجل ابتزاز المقاومة والضغط عليها لقبول شروط نتنياهو بالاستسلام.
ولكن هذه الاستراتيجية ليست مستدامة. فالرد الأولي الذي قام به حزب الله في وقت سابق من هذا الأسبوع كان بمثابة مقدمة، تجسدت في تحذير صارخ من المزيد من الأعمال الانتقامية. فقد وصلت مجموعة من طائرات حزب الله المسيرة إلى أهدافها العسكرية في ضواحي "تل أبيب"، حاملة رسالة واضحة مفادها أن مفاوضات وقف إطلاق النار في المستقبل ربما لن تدور حول غزة فقط.
عمر نجيب
[email protected]