تمرد دول في الشرق الأوسط على الإملاءات الأمريكية يسرع إعادة تشكيل العالم

ثلاثاء, 2023-03-28 08:12

تعاني الولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص والدول الغربية بشكل عام ومنذ بداية العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين من تقلص متسارع لنفوذها في غالبية أجزاء العالم، وإقدام دول على التمرد أو معارضة ما يصفه الغرب بالنظام العالمي القائم على القواعد والذي يفترض أنه ساد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية والذي لم يكن في الحقيقة سوى تبييض الاختيارات المتعجلة للدول القوية على حساب الأقل قوة، ولكن استخدامه كان مقيدا إلى حد ما بالتوازنات المفروضة بسبب وجود قوتين عالميتين شبه متعادلتين في القوة حتى سنة 1990.

بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في نهاية العقد الأخير من القرن الماضي وانفراد الولايات المتحدة بمركز القطب الواحد أصبحت رغبات الأقوياء تحل محل القواعد بحيث صبغت هذه الرغبات بمبررات مختلفة، كما حدث في غزو واحتلال أفغانستان سنة 2001 والعراق سنة 2003 وليبيا في 2011 وغيرها.

تصف الولايات المتحدة النظام الدولي السائد بالعادل وأنه "قائم على القواعد"، وتعتبر محاولات تعديله أو تغييره مدخلا إلى الفوضى وتكريسا لشريعة الغاب. وهذا قول لا توافق عليه دول وتكتلات إقليمية ودولية وازنة، ترى في النظام الدولي القائم وقواعده تجسيدا للمصالح الغربية، وتغليبا لها على مصالح بقية الدول في ضوء ما انطوت عليه هذه القواعد من إجحاف وافتئات على مصالحها.

إن وصف وتمسك الولايات المتحدة بما تسميه النظام دولي القائم على القواعد، ينطوي على مراوغة بين منطقية الوصف من حيث الشكل ومحاباته المنتصرين من حيث المضمون، لما تنطوي عليه قواعده من تمييز يجوفها ويجعلها وبالا على حقوق دول كثيرة ومصالحها.

العناصر الرئيسية للقوة الأمريكية التي برزت مع نهاية الحرب العالمية الأولى سنة 1918 كانت التفوق العسكري والقوة الاقتصادية ومنها هيمنة عملتها الدولار على الاقتصاد العالمي ووضعها الجغرافي بين محيطين الأطلسي والهادئ بدون حدود مع قوى معادية. 

على مر السنين تقلصت عناصر القوة هذه، حيث استعادت روسيا قدراتها العسكرية وبرزت الصين كمنافس قادر على التفوق، فيما توسعت وتتوسع دائرة الدول المسلحة نوويا، اقتصاديا تقلصت القدرات الصناعية لواشنطن وتحولت الصين إلى ما أصبح يوصف بمصنع العالم وبرزت قوى جديدة اقتصاديا وعسكريا في آسيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية، فيما انكشفت واشنطن اقتصاديا بسبب تضخم ديونها الهائلة وشروع الكثير من الدول في رفض الاستمرار في الارتهان بعملة الدولار غير المغطاة والتي يمكن في حال وقوع أزمة مالية عالمية أن تتحول إلى مجرد أوراق مطبوعة للذكرى.

 

الشرق الأوسط

 

شكل رفض السعودية والإمارات العربية خلال الربع الأول من سنة 2022 لطلب واشنطن ولندن وباريس وبرلين رفع إنتاج النفط وبالتالي دفع الأسعار للانخفاض لإلحاق الضرر بالاقتصاد الروسي، أحد المؤشرات البارزة على تحول في سياسة البلدين.

تتابعت التطورات في نفس الاتجاه المبتعد عن الإملاءات حتى وصل الأمر بالبيت الأبيض إلى ممارسة سياسة التهديد بالعقوبات من مختلف الأنواع ضد السعودية والإمارات. في شهر مارس 2023 وبوساطة صينية تم الشروع في تطبيع علاقات الرياض وطهران مما شكل ضربة قوية جديدة للسياسة الأمريكية في منطقة الخليج العربي.

في مقاله المنشور في ذي هيل"The Hill"، يشير سايمون هندرسون، زميل معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى. إلى أن الاختراق الدبلوماسي الجديد بين المملكة العربية السعودية وإيران، برعاية صينية في 10 مارس 2023، قد يكون مقدمة لإزاحة الولايات المتحدة من المشهد السياسي في الشرق الأوسط. متناولا تأثير ما جرى على جهود إحياء الاتفاق النووي، ومحاولات التطبيع السعودي الإسرائيلي.

لم تمر سوى أيام قليلة حتى قررت الرياض ودمشق استئناف عمل القنصليات وتتحدث تقارير غربية عن تطبيع كامل مع نهاية شهر رمضان. خطوة الرياض وزيارة الرئيس السوري الرسمية للإمارات وسلطنة عمان أثارت غضبا شديدا في البيت الأبيض واعتبرت صفعة جديدة لمشروع المحافظين الجدد.

المتحدث بإسم وزارة الخارجية الأمريكية فيدانت باتيل ذكر في تصريح للصحافيين "لن نطبع العلاقات مع نظام الأسد" مشددا على أن الإدارة الأمريكية لا تشجع أحدا على هذا التطبيع بغياب أي تقدم حقيقي نحو حل سياسي.

وتابع المتحدث "نحض جميع المنخرطين مع دمشق بالتفكير بصدق وتمعن في الكيفية التي يمكن أن يساعد بها انخراطهم في تلبية احتياجات السوريين أينما كانوا يعيشون".

وزير الخارجية الأمريكي بلينكن قال أن بلاده لا تؤيد التطبيع وقامت بتوضيح موقفها لجميع الدول التي تسعى للتطبيع مع الأسد، كاشفا عن سر حين أضاف أنه" خاطبهم شخصيا وبشكل مباشر لكن لم تتم الاستجابة".

في نفس المسار المعاكس لرغبات واشنطن تتحرك تركيا ومصر ودول عربية أخرى، وتخشى الإدارة الأمريكية من تفاهم بين دمشق وأنقرة يؤدي إلى تعاونهما عسكريا ضد الانفصاليين الأكراد من تنظيم قسد الذين تحميهم القوات الأمريكية في شرق سوريا، وتعدهم ليصبحوا نواة دولة انفصالية تنتزع أراض من سوريا والعراق وتركيا وإيران.

يسجل أنه تزامنا مع هذه التطورات أخذت القواعد العسكرية الأمريكية في شرق سوريا تتعرض بشكل متصاعد لهجمات مسلحة بهدف إجبار الجيش الأمريكي على الانسحاب ووقف الاستغلال غير القانوني للنفط السوري.

 

تعثر المخططات الأمريكية

 

الدكتور ريتشارد هاس، رئيس مجلس العلاقات الخارجية والمدير السابق لتخطيط السياسات بوزارة الخارجية الأمريكية، ذكر في تعليق على تعثر المخططات الأمريكية في الشرق الأوسط:

في عنفوان الانفراد الأمريكي بزعامة العالم وخاصة مع نظرية القرن الأمريكي التي روج لها المحافظون الجدد قبل سنوات كان من أهم أهداف الهيمنة الأمريكية خلق شرق أوسط جديد تهيمن فيه الولايات المتحدة على المقدرات والأوضاع، ولو عن طريق إشاعة مناخ من "الفوضى الخلاقة" لإعادة رسم خريطة دول المنطقة.

ولكن جاءت الرياح بما لا يشتهي السـفن وأخفق غرور القوة في تحقيق مآربه في المنطقة، بل وأخذت أمريكا تفقد احترامها شيئا فشيئا كما أدى اضطلاع أطراف إقليمية بإدارة مشاكل المنطقة إلى ضياع قدر كبير من هيبتها.

ويرى الدكتور ريتشارد هاس، أن العالم بصدد الانتقال إلى نظام عالمي جديد مختلف. فبعد أن انفردت الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة بزعامة العالم، تصاعدت حدة المشاعر المناهضة للولايات المتحدة في أنحاء العالم وتصاعدت الشكوك في حكمة وشرعية السياسات الخارجية للولايات المتحدة، وخاصة مبدأ الضربات الاستباقية والانفراد بقرار غزو العراق، بشكل جعل أطرافا دولية عديدة تنظر إلى الولايات المتحدة، ليس كقوة عظمى وحيدة في عالم اليوم، بل كتهديد لمصالحها القومية.

الدكتور منذر سليمان، خبير شؤون الأمن القومي الأمريكي وردا على سؤال "لسويس إنفو" عما إذا كانت الولايات المتحدة قد فقدت الاحترام أم تعاني من ضياع هيبتها كقوة عظمى، خاصة في الشرق الأوسط، قال: "الولايات المتحدة لا تزال تشكل قوة اقتصادية وعسكرية وتكنولوجية مهيمنة على المسرح الدولي، لكنها فقدت انفرادها بالتحكم الكلي في مجريات الأمور في العالم من خلال سياساتها الفاشلة، الأمر الذي شجع قوى عالمية وإقليمية على انتزاع ما تستطيع انتزاعه من أدوار على الساحة الدولية، خاصة في ظل عجز إدارة واشنطن، وفقدان الهيبة لمكانة الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة في عالم اليوم، حتى على المسرح الأوروبي، وبالتالي، لم تعد أمريكا تحظى بالهيبة المعنوية التي كانت تدفع خصومها إلى الشعور بالرهبة من تحديها والتي كانت تجبر الحلفاء على الالتزام الكامل بكل ما تريده منهم واشنطن، حتى ولو جاءت في شكل إملاءات أمريكية، مما فتح أمام كل من الخصوم والحلفاء هامشا أوسع من المناورة وهم يراقبون فقدان الولايات المتحدة للاحترام وتعرض هيبتها للضياع".

 

تجاهل أعمى

 

كتب المحلل روبرت رابيل، في مقال نشره عبر صحيفة" ذي ناشينوال إنترست" The National Interest آخر أيام سنة 2022:

أثبتت الأزمة الأوكرانية للعديد من دول العالم، أن النظام العالمي متعدد الأقطاب ذو كفاءة أفضل من نظام القطب الواحد، المتمركز حول الولايات المتحدة.

وأضاف، أن الأزمة الأوكرانية دفعت العديد من الدول للسعي وراء مصالحها الخاصة، وعدم الرضوخ لإرادة واشنطن، مشيرا إلى أن الولايات المتحدة تدير سياستها الخارجية بأعين مغلقة، وتتجاهل عن عمد الإشارات التي تشير إلى أن قوتها العالمية تتراجع ببطء، ولكن بثبات.

وأوضح رابيل، أن الكثيرين ممن اتخذوا قرار البحث عن مصالحهم هم حلفاء لواشنطن، لكنهم في ذات الوقت، ليسوا أعداء أو معارضين لروسيا والصين، بسبب الأزمة الأوكرانية، فهم يدركون أنه لا يمكنهم فرض عقوبات على روسيا، التي تعتبر أكبر دول العالم من حيث المصادر، والصين صاحبة ثاني أكبر اقتصاد عالمي، في الوقت الذي يتنافس فيه العالم على الموارد الشحيحة، كما وتبقى هذه الدول حريصة على عدم الإضرار بعلاقاتها مع الولايات المتحدة، في ظل صراع الأقطاب.

وأضاف، أن جاذبية الدولار على المستوى الدولي تكمن في القوة الاقتصادية والجيوسياسية الأمريكية، مشيرا إلى أن عامل الجذب هذا فقد بريقه، وأن قرار بعض الحلفاء في استخدام أو تخزين عملات مختلفة في احتياطاتهم التجارية والعملات الأجنبية، لم يأت من قبيل الصدفة، فمن المنظور الدولي، تجاوز الدين القومي للولايات المتحدة الـ 31 تريليون دولار، ما يضعها في موقف خطير جدا.

وتابع، اليوم الدولار هو عملة التداول العالمية الرئيسية، تعود هيمنتها العالمية إلى مؤتمر بريتون وودز عام 1944 عندما اتفقت أربع وأربعون دولة حليفة على إنشاء نظام نقدي دولي جديد، وربط عملاتها بالدولار.

حيث منذ ذلك الحين، تم تصنيف معظم المعاملات المالية والديون الدولية وفواتير التجارة العالمية بالدولار ومعظم احتياطيات النقد الأجنبي العالمية محتفظ بها بالدولار.

لكن منذ عام 2000، تحاول الصين تدويل استخدام عملتها، اليوان. اكتسب هذا الجهد مؤخرا زخما حيث احتشدت دول الناتو حول أوكرانيا، وفرضت عقوبات غير مسبوقة ضد روسيا، وأظهرت تضامنا عاما مع تايوان.

وأردفت الصحيفة، زادت التوترات في العلاقات بين الولايات المتحدة والصين بشكل كبير بعد زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي إلى تايوان، مما أدى فعليا إلى القضاء على أي نوايا حسنة أو ثقة موجودة بين القوتين. وفي الوقت نفسه، تشارك الصين وجهات نظرها بأن العالم اليوم يمر بفترة من الاضطراب والتحول، تستكشف العديد من الدول طرقا لتقليل اعتمادها على الدولار الأمريكي باعتباره العملة الرئيسية للتجارة العالمية والاحتياطي الأجنبي.

 

التخلص من الدولار

 

أشار روبرت رابيل، إلى أن إيران أعلنت بدء استخدامها لعملتها الوطنية، الريال الإيراني، أو الروبل الروسي، في تجارتها مع روسيا، وكذلك الإمارات بدأت في إصدار سنداتها بالدرهم الإماراتي عوضا عن الدولار.

في يونيو 2022، في قمة البريكس الرابعة عشرة، بحث التجمع الدولي في تطوير عملة احتياطي دولية جديدة. في مارس 2022، توصل الاتحاد الاقتصادي الأوراسي (المكون من روسيا وأرمينيا وكازاخستان وقيرغيزستان وبيلاروسيا) إلى اتفاق بشأن الحاجة إلى تطوير عملة دولية جديدة. جعلت روسيا بالفعل اليوان الصيني عملتها الاحتياطية الفعلية.

في أغسطس، أعلنت مصر تخطط لإصدار سندات تزيد قيمتها عن 500 مليون دولار باليوان الصيني، علاوة على ذلك، تقوم مصر بمقايضات ثنائية للعملات مع الصين.

والأهم من ذلك، أن الصين كانت تضع إستراتيجية لإدخال العقود الآجلة للنفط الخام المقومة باليوان والدفع مقابل النفط الخام المستورد بعملتها الخاصة بدلا من الدولار الأمريكي. في الواقع، انخرطت الصين والمملكة العربية السعودية في محادثات نشطة حول تسعير الرياض بعض مبيعاتها النفطية إلى بكين باليوان.

كان هذا هو الهدف الرئيسي لزيارة الرئيس شي جين بينغ إلى الرياض في الأسبوع الثاني من شهر ديسمبر 2022، وحضر ثلاث قمم: القمة الأولى بين الصين والدول العربية، وقمة مجلس التعاون الصيني الخليجي، والقمة الصينية السعودية.

كانت رسالة شي واضحة، لقد كشفت الأزمة الأوكرانية عن عالم يعاني من الاضطرابات ويخضع لتحول جذري. على هذا النحو، يقع على عاتق الصين والدول العربية والعديد من الدول الأخرى تشكيل الحقبة الجديدة.

كانت الرسالة الأساسية للسعوديين والعرب الآخرين هي أن الصين، على عكس الولايات المتحدة، لن تملي أو تؤثر أو تقوض السياسات والازدهار العربي. ستعمل الصين والدول العربية على تنمية علاقاتهما على أساس الاحترام والمساواة والتضامن وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لبعضهما البعض.

لا شك أنه إذا بدأت المملكة العربية السعودية في تداول النفط باليوان، فإن هيمنة الدولار الأمريكي في سوق البترول العالمية ستعاني.

 

سكرات ما قبل الموت

 

بداية شهر مارس 2023 قال جورج أونيل الابن، عضو مجلس مدراء "معهد الأفكار الأمريكية"، في مقال لمجلة The American Conservative، إن الولايات المتحدة تفقد هيمنتها في العالم بسبب أوكرانيا.

وأضاف: "نشهد سكرات ما قبل الموت المؤلمة لهيمنة الولايات المتحدة أحادية القطب على كثير من أنحاء العالم. على مدى عقود، اعتبرت أمريكا نفسها القوة العالمية المهيمنة التي لا مثيل لها، ولكن الآن تغير كل شيء".

ويرى كاتب المقالة، أنه مع تضاؤل هيبة الولايات المتحدة وقوتها، بدأت المزيد من الدول في التجمع لحماية نفسها من "المفترس الأمريكي".

وأشارت المقالة إلى أن الانسحاب المذل لــ"أقوى القوات المسلحة في تاريخ البشرية" من أفغانستان، والعقوبات الأمريكية المفروضة على روسيا والتي ألحقت أضرارا كبيرة بأوروبا وكذلك سلوك واشنطن بعد تفجير خطوط "السيل الشمالي"، تسبب في انتشار الشك لدى حلفاء الولايات المتحدة حول ضرورة المزيد من التعاون مع واشنطن، ودفع ذلك بقية الدول لكي تتحد وتصبح أقوى بشكل تدريجي.

ولكن رغم ذلك، تواصل واشنطن ووسائل الإعلام الأمريكية الترويج لفكرة صمود وتفوق الولايات المتحدة، الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى عواقب وخيمة على كل من الغرب وأمريكا نفسها. وشدد الكاتب، على أن الأزمة الأوكرانية أظهرت في الواقع، أن نفوذ الولايات المتحدة بات يتلاشى تدريجيا.

وأضاف: "على عكس الادعاءات العديدة بأن الروس سيسقطون في حالة صدمة ورهبة من عقوبات الجحيم، لم ينهار الروبل كما توقع جو بايدن. وأخذت الذخيرة والأسلحة تتلاشى من مستودعات الولايات المتحدة وعملائها في الناتو بسبب إرسالها إلى أوكرانيا المضرجة بالدماء بسبب إيعازات واشنطن والناتو. ويبدو أن روسيا ستتمكن في المحصلة من القضاء على الجيش الأوكراني".

ودعا كاتب المقالة، الأمريكيين إلى "الاستيقاظ أخيرا" وتحرير أنفسهم من تأثير الدعاية وإجبار قادتهم على التوقف عن دعم هذا النزاع حتى لا يتصاعد إلى حرب عالمية ثالثة.

من جانبه صرح المستشار السابق لرئيس البنتاغون دوغلاس ماكغريغور، بأنه فور هزيمة أوكرانيا عسكريا، ستتخلى واشنطن عن زيلينسكي وفريقه وستحاول نسيان كل الفظائع التي تسببوا فيها في البلاد.

وعندما سئل في مقابلة نشرت مع الصحفي الأمريكي ستيفن غاردنر، عما إذا كانت أوكرانيا ستتمكن من الانتصار في ساحة المعركة، أجاب المستشار بالنفي.

وصرح ماكغريغور: "من المحتمل أن تكون كييف آخر من يعرف هذا الأمر، وبالتأكيد لن يكونوا قادرين على التأثير في ذلك بأي شكل من الأشكال، سيفعل الأمريكيون مرة أخرى ما فعلوه بالفعل بعد فيتنام، لقد ألقوا المعدات المتبقية، والتي رأوا أنها لا قيمة لها، في بحر الصين الجنوبي، وأبحروا بعيدا ولم يتذكرها أحد".

وأضاف، برأي الجيش، فإن الأمريكيين كقوة جوية وبحرية، لديهم دائما فرصة ركوب طائرة أو سفينة والإبحار إلى الوطن إذا لم تكن الأمور في صالحهم.

 

أحلام يقظة 

 

مع قرب انتهاء الربع الأول من سنة 2023 يقدر عدد من المحللين في الغرب والشرق على السواء أن واشنطن ودول الناتو أخطأت كثيرا في تقديراتها لمسار الحرب الدائرة في وسط شرق أوروبا منذ 24 فبراير 2022 وأن توقعاتها بإمكانية هزيمة روسيا ليست أكثر من أحلام ونفس الأمر بالنسبة لإمكانية دفع الصين للتخلي عن تحالفها مع موسكو. ويشير هؤلاء إلى أن الكرملين يتبع سياسة استنزاف ذكية ضد جيش كييف والمتحالفين معه من الناتو.

بداية شهر مارس 2023 أكدت وزيرة الجيش الأمريكي، كريستين ورموت، أن واشنطن يجب ألا تتهور في التقليل من قدرات روسيا العسكرية، حيث لم تستخدم موسكو بعد إلا جزءا يسيرا من قدراتها الجوية والبحرية والسيبرانية. وأضافت ورموت: "لو لم نقلق لقدرات روسيا العسكرية لكنا من الحمقى".

وأضاف أن روسيا لم تستخدم حتى الآن إلا ما تيسر من قواتها الجوية والبحرية وقدراتها الإلكترونية في النزاع في أوكرانيا.

وفي وقت سابق، أكد الجنرال البريطاني المتقاعد، ريتشارد بارونز، أن دور القوات الجوية الروسية سيزداد في العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، مما سيغير مسارها.

دعت صحيفة “واشنطن بوست”، في افتتاحيتها قرب نهاية شهر مارس 2023، الولايات المتحدة لأن تكون واعية وحذرة من محور بكين- موسكو. وقالت إن القرار الأمريكي الزلزالي، في السبعينات من القرن الماضي، لتطبيع العلاقات مع الصين ورفع الحظر عن بيع الأسلحة للصين عرف “بلعب الورقة الصينية” بهدف إحباط الاتحاد السوفييتي. إلا أن زيارة الرئيس الصيني شي جينبينغ شهر مارس 2023 إلى موسكو، والتي استمرت ثلاثة أيام، أظهرت أن شي مستعد للعب الورقة الروسية لوقف المحاولات الأمريكية الهادفة لمحاصرة الصين واحتواء صعودها العسكري والاقتصادي.

وترى الصحيفة أن التحالف المتزايد بين أكبر المتحدين الإستراتيجيين لأمريكا يحمل إمكانية حرف النظام الدولي بطريقة عميقة، كما فعلت الولايات المتحدة قبل نصف قرن. وعليه، يجب أن تكون أمريكا ونخبتها السياسية جاهزة للرد.

وتشترك الصين وروسيا بنفس المخاوف، ومحاولات تطويقهما من الولايات المتحدة والناتو. وترى روسيا في توسع حلف الناتو شرقا كتهديد وجودي عليها، وكان هذا السبب الرئيسي وراء قرار فلاديمير بوتين شن الحرب على أوكرانيا.

وفي الوقت نفسه، تخشى الصين من محاولة الولايات المتحدة خلق مظلة عسكرية جديدة، وهي “ناتو إندو- باسيفكي”، عبر عقد سلسلة اتفاقيات أمنية من الفلبين إلى أستراليا عبر اليابان وكوريا الجنوبية وكندا.

وعندما التقى الزعيمان، هنأ بوتين شي على انتخابه لولاية ثالثة غير مسبوقة، ورد شي بأنه يتوقع فوز بوتين في حملته الانتخابية عام 2024.

وهناك مسألة أخرى تتعلق بملكية روسيا أكبر مخزون للأسلحة النووية، إلى جانب الصين التي تملك ثلث ترسانة العالم النووية. وتعمل الصين على توسيع ترسانتها النووية لكي تعادل المستوى مع الترسانة النووية الأمريكية خلال العقد المقبل.

وباتت موسكو الشريك الأصغر في شراكة “بلا حدود” بين البلدين، فهي تحتاج إلى الصين كي تشتري نفطها وغازها وحبوبها نظرا لإغلاق الأسواق الأوروبية أمامها والعقوبات التي فرضتها أمريكا وحلفاؤها في أوروبا وأماكن أخرى ضدها، وهي بحاجة لإمدادات من البضائع الغربية.

 

أسوأ من الحرب الباردة

 

تنذر التحذيرات الأمريكية الأخيرة للصين بشأن تقديم المساعدة العسكرية لروسيا في حربها ضد أوكرانيا بحدوث "صراع عالمي" وفق تحليل لصحيفة واشنطن بوست سلط الضوء على مدى تأزم العلاقات الأمريكية الصينية، وإستراتيجية واشنطن لثنيها عن الانخراط في حرب أوكرانيا بعدما التزمت الحياد العسكري منذ بدء الغزو.

وكان وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، قد صرح في مناسبات عدة، أن الصين تدرس مسألة تزويد روسيا بأسلحة.

وأفاد مسؤولون أمريكيون لشبكة "سي أن أن"، إن الولايات المتحدة رصدت مؤخرا توجهات "مزعجة" تشير أن بكين تريد "التسلل إلى خط" تقديم المساعدة العسكرية الفتاكة إلى موسكو.

ولم يوضح المسؤولون بالتفصيل ما وجدته الولايات المتحدة من معلومات استخباراتية تشير إلى حدوث تحول أخير في موقف الصين، لكنهم قالوا إن المسؤولين قلقون بدرجة كافية لدرجة أنهم تبادلوا هذه المعلومات الإستخباراتية مع الحلفاء والشركاء خلال مؤتمر ميونيخ للأمن.

وذكر مسؤولون إن بلينكن أثار القضية عندما التقى نظيره الصيني، وانغ يي، على هامش المؤتمر.

وكان الوزير أكد أنه "تقاسم هذه المخاوف" مع وانغ، غير أن المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، وانغ وينبين، وصف، الاتهامات الأمريكية بأنها "معلومات زائفة".

ونفى أن تكون بكين تعتزم إمداد روسيا بأسلحة لدعمها في حربها ضد أوكرانيا، متهما واشنطن بـ"صب الزيت على النار" بتوجيهها مثل هذه الاتهامات، مكررا الدعوة لدعم مقترح صيني من أجل إنهاء الحرب.

وعلى خط التحذير الأمريكي، قال مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، إن تسليم الصين أسلحة إلى روسيا سيشكل "خطا أحمر" للاتحاد، وأكد أن وزير الخارجية الصيني "قال لي إنهم لن يقوموا بذلك، وإنهم لا يخططون للقيام بذلك. لكن سنبقى يقظين".

 

تحسب لانهيار النظام العالمي

 

ذكر يوم الخميس 23 مارس في واشنطن أن رئيس الأركان الأمريكية المشتركة، مارك ميلي، طالب بمضاعفة ميزانية الدفاع إن انتهت أزمة أوكرانيا "بانهيار النظام الدولي القائم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية".

وأشار ميلي إلى أن "الحفاظ على أوكرانيا كدولة ذات سيادة، هو شرط للحفاظ على النظام الذي تم تشكيله بعد الحرب العالمية الثانية، والذي ينقذ البشرية من حرب أخرى من هذا القبيل".

وأضاف ميلي: "إذا كان النظام العالمي القائم على القواعد، والذي يبلغ من العمر 80 عاما بالفعل، سوف ينهار.. سنضاعف ميزانياتنا الدفاعية، لأن العصر لن يبدأ بالمنافسة، ولكن صراع القوى العظمى".

مقابل ذلك وفي واشنطن أكدت عضو الكونغرس الأمريكي، مارغوري تايلور غرين، أن النزاع الذي تقوده الولايات المتحدة في أوكرانيا سيكون له عواقب وخيمة على الاقتصاد الأمريكي.

وعلقت تايلور غرين على اقتراح الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، استخدام اليوان الصيني في التسويات مع الدول الأخرى، قائلة: "إذا انهار الدولار، فإن أهالي الولايات المتحدة سيواجهون صعوبات مالية غير مسبوقة، وكل ذلك بسبب العسكريين الأمريكيين، مؤلفو الأزمة الأوكرانية".

وأشارت إلى أنه يجب أن تتوقف الحرب بالوكالة مع روسيا قبل أن يلحق ضرر لا يمكن إصلاحه بالولايات المتحدة.

وكانت روسيا والصين قد اشارت خلال القمة التي عقدت في موسكو يوم 23 مارس 2023، إلى الطبيعة السريعة للتغييرات التي تحدث في العالم والتحول العميق في الهيكل الدولي، وأعلنت عن تسريع عملية إنشاء نظام عالمي متعدد الأقطاب.

وأشار البيان المشترك حول تعميق علاقات الشراكة الشاملة والتفاعل الاستراتيجي بين روسيا والصين: "يلاحظ الطرفان الطبيعة السريعة للتغييرات التي تحدث في العالم، والتحول العميق في الهيكل الدولي".

وذكر البيان أن موسكو وبكين تعترفان بأنه في الوقت الحالي "لا تزال مظاهر الهيمنة الأحادية منتشرة في العالم" وتعتبران أنه "من غير المقبول محاولة استبدال المبادئ والمعايير المعترف بها عموما في القانون الدولي".

وأكد البيان أن روسيا والصين تعلنان "عن تسريع عملية إنشاء نظام عالمي متعدد الأقطاب، وتعزيز مواقف البلدان النامية، وزيادة عدد القوى الإقليمية التي تظهر الرغبة في الدفاع عن مصالحها الوطنية المشروعة ".

 

رسائل مقلقة

 

واشنطن تابعت بقلق شديد زيارة الرئيس الصيني لموسكو وصرح وزير الدفاع الأمريكي، لويد أوستن، إن زيارة الرئيس الصيني، شي جين بينغ، إلى روسيا، وبقاءه هناك لبضعة أيام ترسل رسالة مقلقة للغاية.

ولفت أوستن، الخميس 23 مارس 2023، إلى أن واشنطن لا ترى أن الصينيين يقدمون أي دعم مادي لروسيا "في الوقت الحالي"، لكنه أعقب ذلك بالقول "لكننا نراقب هذا عن كثب".

وزار شي موسكو، مقدما نفسه على أنه وسيط بين روسيا وأوكرانيا، غير أنه أسهب في تصريحاته الداعمة للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين.

وبعد إعادة انتخابه للمرة الثالثة لرئاسة الصين، كانت أول زيارة دولة يقوم بها شي هي زيارته إلى موسكو، وهي تعد من وجهة نظر واشنطن رمزية جدا وعززت العلاقات بين الزعيمين ووضعت حدا لحياد بكين المفترض في الحرب في أوكرانيا.

تصريح أوستن يضاف لما قاله وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، الأربعاء، إن الصين لم "تتجاوز خط" تسليم أسلحة فتاكة لروسيا بعد، في إطار حربها في أوكرانيا.

وأضاف بلينكن في رده على سؤال خلال إفادته أمام مجلس الشيوخ في واشنطن "حتى الآن، لم نجد أنهم تجاوزوا هذا الخط".

ويحذر بلينكن علنًا منذ أسابيع من أن الصين تنظر في طلب روسيا الحصول على أسلحة للقتال في أوكرانيا، وتشير معلومات إلى شحنات محدودة أرسلتها شركات صينية إلى موسكو.

أما بخصوص احتمال أي عمل عسكري في تايوان، فقال أوستن " لا أعتقد أن العمل العسكري في تايوان وشيك أو أنه لا مفر منه" مشيرا إلى أن الولايات المتحدة تمتلك أقوى سلاح بحرية في العالم "وسنعمل على بقائه في هذه المرتبة" وفق تعبيره.

وتعيش تايوان في ظل تهديد دائم بعمل عسكري من بكين، وأدى الهجوم الروسي على أوكرانيا إلى زيادة المخاوف في الجزيرة من أن تحاول الصين شن هجوم مماثل. 

يذكر أن حكومة تايبيه الموالية لواشنطن نددت، الأربعاء، بإعلان بكين وموسكو المشترك الذي وصف الجزيرة بأنها جزء "لا يتجزأ" من الصين، متهمة روسيا "بالانصياع لمطالب الصين".

وتعتبر الصين أن جزيرة تايوان ذات الإدارة الذاتية إحدى مقاطعاتها التي ستستعيدها يوما ما، بالقوة إذا لزم الأمر.

وأكدت روسيا في الإعلان المشترك التزامها بمبدأ "الصين الواحدة"، ووصفت تايوان بأنها "جزء لا يتجزأ من الأراضي الصينية"، وفقا لوكالة الصين الجديدة.

ينظر إلى تايوان التي تحتضن قرابة 23 مليون نسمة على أنها بلد شديد الأهمية للعالم الغربي، وعلى رأسه الولايات المتحدة، كونها أحد مراكز القوة الاقتصادية في آسيا، لاسيما مع استحواذها على نصيب كبير من الصناعة العالمية لأشباه الموصلات (التي تستخدم في الصناعة)، إلى جانب أنها تمثل للغرب جزيرة استطاعت توطيد حكم موالي للغرب بجوار عملاق شيوعي وحد البلاد بإستثناء تايوان سنة 1949، وهي فرصة وجدت فيها الولايات المتحدة موطئ قدم لمحاصرة التمدد الصيني في جنوب وشرق آسيا.

ارتبط التاريخ الحديث لتايوان بحقبة الهزيمة والإذلال كما يسميها الحزب الشيوعي الصيني الحاكم، فالجزيرة التي تبعد عن البر الرئيسي 160 كم، وتقارب مساحتها مساحة سويسرا، رزحت في القرن السابع عشر تحت الحكم الاستعماري الهولندي، ثم خسرتها الصين بعد معركة مع اليابان عام 1895، فتنازلت عن الجزيرة، وصارت تايوان "جزيرة "فورموزا" آنذاك" مستعمرة يابانية، وبقيت تحت سيطرتها لمدة 50 عاما حتى نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945. وفي تلك الأثناء، وقعت أجزاء أخرى من الصين تحت وطأة الاستعمار مثل هونك كونغ تحت الاحتلال البريطاني، وقبلها جزيرة ماكاو بوصفها مستعمرة برتغالية.

بكين استعادت كل اراضيها التي كانت تحت الاحتلال بإستثناء تايوان.

 

عمر نجيب

[email protected]

 

 

عمر نجيب

 

تعاني الولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص والدول الغربية بشكل عام ومنذ بداية العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين من تقلص متسارع لنفوذها في غالبية أجزاء العالم، وإقدام دول على التمرد أو معارضة ما يصفه الغرب بالنظام العالمي القائم على القواعد والذي يفترض أنه ساد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية والذي لم يكن في الحقيقة سوى تبييض الاختيارات المتعجلة للدول القوية على حساب الأقل قوة، ولكن استخدامه كان مقيدا إلى حد ما بالتوازنات المفروضة بسبب وجود قوتين عالميتين شبه متعادلتين في القوة حتى سنة 1990.

بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في نهاية العقد الأخير من القرن الماضي وانفراد الولايات المتحدة بمركز القطب الواحد أصبحت رغبات الأقوياء تحل محل القواعد بحيث صبغت هذه الرغبات بمبررات مختلفة، كما حدث في غزو واحتلال أفغانستان سنة 2001 والعراق سنة 2003 وليبيا في 2011 وغيرها.

تصف الولايات المتحدة النظام الدولي السائد بالعادل وأنه "قائم على القواعد"، وتعتبر محاولات تعديله أو تغييره مدخلا إلى الفوضى وتكريسا لشريعة الغاب. وهذا قول لا توافق عليه دول وتكتلات إقليمية ودولية وازنة، ترى في النظام الدولي القائم وقواعده تجسيدا للمصالح الغربية، وتغليبا لها على مصالح بقية الدول في ضوء ما انطوت عليه هذه القواعد من إجحاف وافتئات على مصالحها.

إن وصف وتمسك الولايات المتحدة بما تسميه النظام دولي القائم على القواعد، ينطوي على مراوغة بين منطقية الوصف من حيث الشكل ومحاباته المنتصرين من حيث المضمون، لما تنطوي عليه قواعده من تمييز يجوفها ويجعلها وبالا على حقوق دول كثيرة ومصالحها.

العناصر الرئيسية للقوة الأمريكية التي برزت مع نهاية الحرب العالمية الأولى سنة 1918 كانت التفوق العسكري والقوة الاقتصادية ومنها هيمنة عملتها الدولار على الاقتصاد العالمي ووضعها الجغرافي بين محيطين الأطلسي والهادئ بدون حدود مع قوى معادية. 

على مر السنين تقلصت عناصر القوة هذه، حيث استعادت روسيا قدراتها العسكرية وبرزت الصين كمنافس قادر على التفوق، فيما توسعت وتتوسع دائرة الدول المسلحة نوويا، اقتصاديا تقلصت القدرات الصناعية لواشنطن وتحولت الصين إلى ما أصبح يوصف بمصنع العالم وبرزت قوى جديدة اقتصاديا وعسكريا في آسيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية، فيما انكشفت واشنطن اقتصاديا بسبب تضخم ديونها الهائلة وشروع الكثير من الدول في رفض الاستمرار في الارتهان بعملة الدولار غير المغطاة والتي يمكن في حال وقوع أزمة مالية عالمية أن تتحول إلى مجرد أوراق مطبوعة للذكرى.

 

الشرق الأوسط

 

شكل رفض السعودية والإمارات العربية خلال الربع الأول من سنة 2022 لطلب واشنطن ولندن وباريس وبرلين رفع إنتاج النفط وبالتالي دفع الأسعار للانخفاض لإلحاق الضرر بالاقتصاد الروسي، أحد المؤشرات البارزة على تحول في سياسة البلدين.

تتابعت التطورات في نفس الاتجاه المبتعد عن الإملاءات حتى وصل الأمر بالبيت الأبيض إلى ممارسة سياسة التهديد بالعقوبات من مختلف الأنواع ضد السعودية والإمارات. في شهر مارس 2023 وبوساطة صينية تم الشروع في تطبيع علاقات الرياض وطهران مما شكل ضربة قوية جديدة للسياسة الأمريكية في منطقة الخليج العربي.

في مقاله المنشور في ذي هيل"The Hill"، يشير سايمون هندرسون، زميل معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى. إلى أن الاختراق الدبلوماسي الجديد بين المملكة العربية السعودية وإيران، برعاية صينية في 10 مارس 2023، قد يكون مقدمة لإزاحة الولايات المتحدة من المشهد السياسي في الشرق الأوسط. متناولا تأثير ما جرى على جهود إحياء الاتفاق النووي، ومحاولات التطبيع السعودي الإسرائيلي.

لم تمر سوى أيام قليلة حتى قررت الرياض ودمشق استئناف عمل القنصليات وتتحدث تقارير غربية عن تطبيع كامل مع نهاية شهر رمضان. خطوة الرياض وزيارة الرئيس السوري الرسمية للإمارات وسلطنة عمان أثارت غضبا شديدا في البيت الأبيض واعتبرت صفعة جديدة لمشروع المحافظين الجدد.

المتحدث بإسم وزارة الخارجية الأمريكية فيدانت باتيل ذكر في تصريح للصحافيين "لن نطبع العلاقات مع نظام الأسد" مشددا على أن الإدارة الأمريكية لا تشجع أحدا على هذا التطبيع بغياب أي تقدم حقيقي نحو حل سياسي.

وتابع المتحدث "نحض جميع المنخرطين مع دمشق بالتفكير بصدق وتمعن في الكيفية التي يمكن أن يساعد بها انخراطهم في تلبية احتياجات السوريين أينما كانوا يعيشون".

وزير الخارجية الأمريكي بلينكن قال أن بلاده لا تؤيد التطبيع وقامت بتوضيح موقفها لجميع الدول التي تسعى للتطبيع مع الأسد، كاشفا عن سر حين أضاف أنه" خاطبهم شخصيا وبشكل مباشر لكن لم تتم الاستجابة".

في نفس المسار المعاكس لرغبات واشنطن تتحرك تركيا ومصر ودول عربية أخرى، وتخشى الإدارة الأمريكية من تفاهم بين دمشق وأنقرة يؤدي إلى تعاونهما عسكريا ضد الانفصاليين الأكراد من تنظيم قسد الذين تحميهم القوات الأمريكية في شرق سوريا، وتعدهم ليصبحوا نواة دولة انفصالية تنتزع أراض من سوريا والعراق وتركيا وإيران.

يسجل أنه تزامنا مع هذه التطورات أخذت القواعد العسكرية الأمريكية في شرق سوريا تتعرض بشكل متصاعد لهجمات مسلحة بهدف إجبار الجيش الأمريكي على الانسحاب ووقف الاستغلال غير القانوني للنفط السوري.

 

تعثر المخططات الأمريكية

 

الدكتور ريتشارد هاس، رئيس مجلس العلاقات الخارجية والمدير السابق لتخطيط السياسات بوزارة الخارجية الأمريكية، ذكر في تعليق على تعثر المخططات الأمريكية في الشرق الأوسط:

في عنفوان الانفراد الأمريكي بزعامة العالم وخاصة مع نظرية القرن الأمريكي التي روج لها المحافظون الجدد قبل سنوات كان من أهم أهداف الهيمنة الأمريكية خلق شرق أوسط جديد تهيمن فيه الولايات المتحدة على المقدرات والأوضاع، ولو عن طريق إشاعة مناخ من "الفوضى الخلاقة" لإعادة رسم خريطة دول المنطقة.

ولكن جاءت الرياح بما لا يشتهي السـفن وأخفق غرور القوة في تحقيق مآربه في المنطقة، بل وأخذت أمريكا تفقد احترامها شيئا فشيئا كما أدى اضطلاع أطراف إقليمية بإدارة مشاكل المنطقة إلى ضياع قدر كبير من هيبتها.

ويرى الدكتور ريتشارد هاس، أن العالم بصدد الانتقال إلى نظام عالمي جديد مختلف. فبعد أن انفردت الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة بزعامة العالم، تصاعدت حدة المشاعر المناهضة للولايات المتحدة في أنحاء العالم وتصاعدت الشكوك في حكمة وشرعية السياسات الخارجية للولايات المتحدة، وخاصة مبدأ الضربات الاستباقية والانفراد بقرار غزو العراق، بشكل جعل أطرافا دولية عديدة تنظر إلى الولايات المتحدة، ليس كقوة عظمى وحيدة في عالم اليوم، بل كتهديد لمصالحها القومية.

الدكتور منذر سليمان، خبير شؤون الأمن القومي الأمريكي وردا على سؤال "لسويس إنفو" عما إذا كانت الولايات المتحدة قد فقدت الاحترام أم تعاني من ضياع هيبتها كقوة عظمى، خاصة في الشرق الأوسط، قال: "الولايات المتحدة لا تزال تشكل قوة اقتصادية وعسكرية وتكنولوجية مهيمنة على المسرح الدولي، لكنها فقدت انفرادها بالتحكم الكلي في مجريات الأمور في العالم من خلال سياساتها الفاشلة، الأمر الذي شجع قوى عالمية وإقليمية على انتزاع ما تستطيع انتزاعه من أدوار على الساحة الدولية، خاصة في ظل عجز إدارة واشنطن، وفقدان الهيبة لمكانة الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة في عالم اليوم، حتى على المسرح الأوروبي، وبالتالي، لم تعد أمريكا تحظى بالهيبة المعنوية التي كانت تدفع خصومها إلى الشعور بالرهبة من تحديها والتي كانت تجبر الحلفاء على الالتزام الكامل بكل ما تريده منهم واشنطن، حتى ولو جاءت في شكل إملاءات أمريكية، مما فتح أمام كل من الخصوم والحلفاء هامشا أوسع من المناورة وهم يراقبون فقدان الولايات المتحدة للاحترام وتعرض هيبتها للضياع".

 

تجاهل أعمى

 

كتب المحلل روبرت رابيل، في مقال نشره عبر صحيفة" ذي ناشينوال إنترست" The National Interest آخر أيام سنة 2022:

أثبتت الأزمة الأوكرانية للعديد من دول العالم، أن النظام العالمي متعدد الأقطاب ذو كفاءة أفضل من نظام القطب الواحد، المتمركز حول الولايات المتحدة.

وأضاف، أن الأزمة الأوكرانية دفعت العديد من الدول للسعي وراء مصالحها الخاصة، وعدم الرضوخ لإرادة واشنطن، مشيرا إلى أن الولايات المتحدة تدير سياستها الخارجية بأعين مغلقة، وتتجاهل عن عمد الإشارات التي تشير إلى أن قوتها العالمية تتراجع ببطء، ولكن بثبات.

وأوضح رابيل، أن الكثيرين ممن اتخذوا قرار البحث عن مصالحهم هم حلفاء لواشنطن، لكنهم في ذات الوقت، ليسوا أعداء أو معارضين لروسيا والصين، بسبب الأزمة الأوكرانية، فهم يدركون أنه لا يمكنهم فرض عقوبات على روسيا، التي تعتبر أكبر دول العالم من حيث المصادر، والصين صاحبة ثاني أكبر اقتصاد عالمي، في الوقت الذي يتنافس فيه العالم على الموارد الشحيحة، كما وتبقى هذه الدول حريصة على عدم الإضرار بعلاقاتها مع الولايات المتحدة، في ظل صراع الأقطاب.

وأضاف، أن جاذبية الدولار على المستوى الدولي تكمن في القوة الاقتصادية والجيوسياسية الأمريكية، مشيرا إلى أن عامل الجذب هذا فقد بريقه، وأن قرار بعض الحلفاء في استخدام أو تخزين عملات مختلفة في احتياطاتهم التجارية والعملات الأجنبية، لم يأت من قبيل الصدفة، فمن المنظور الدولي، تجاوز الدين القومي للولايات المتحدة الـ 31 تريليون دولار، ما يضعها في موقف خطير جدا.

وتابع، اليوم الدولار هو عملة التداول العالمية الرئيسية، تعود هيمنتها العالمية إلى مؤتمر بريتون وودز عام 1944 عندما اتفقت أربع وأربعون دولة حليفة على إنشاء نظام نقدي دولي جديد، وربط عملاتها بالدولار.

حيث منذ ذلك الحين، تم تصنيف معظم المعاملات المالية والديون الدولية وفواتير التجارة العالمية بالدولار ومعظم احتياطيات النقد الأجنبي العالمية محتفظ بها بالدولار.

لكن منذ عام 2000، تحاول الصين تدويل استخدام عملتها، اليوان. اكتسب هذا الجهد مؤخرا زخما حيث احتشدت دول الناتو حول أوكرانيا، وفرضت عقوبات غير مسبوقة ضد روسيا، وأظهرت تضامنا عاما مع تايوان.

وأردفت الصحيفة، زادت التوترات في العلاقات بين الولايات المتحدة والصين بشكل كبير بعد زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي إلى تايوان، مما أدى فعليا إلى القضاء على أي نوايا حسنة أو ثقة موجودة بين القوتين. وفي الوقت نفسه، تشارك الصين وجهات نظرها بأن العالم اليوم يمر بفترة من الاضطراب والتحول، تستكشف العديد من الدول طرقا لتقليل اعتمادها على الدولار الأمريكي باعتباره العملة الرئيسية للتجارة العالمية والاحتياطي الأجنبي.

 

التخلص من الدولار

 

أشار روبرت رابيل، إلى أن إيران أعلنت بدء استخدامها لعملتها الوطنية، الريال الإيراني، أو الروبل الروسي، في تجارتها مع روسيا، وكذلك الإمارات بدأت في إصدار سنداتها بالدرهم الإماراتي عوضا عن الدولار.

في يونيو 2022، في قمة البريكس الرابعة عشرة، بحث التجمع الدولي في تطوير عملة احتياطي دولية جديدة. في مارس 2022، توصل الاتحاد الاقتصادي الأوراسي (المكون من روسيا وأرمينيا وكازاخستان وقيرغيزستان وبيلاروسيا) إلى اتفاق بشأن الحاجة إلى تطوير عملة دولية جديدة. جعلت روسيا بالفعل اليوان الصيني عملتها الاحتياطية الفعلية.

في أغسطس، أعلنت مصر تخطط لإصدار سندات تزيد قيمتها عن 500 مليون دولار باليوان الصيني، علاوة على ذلك، تقوم مصر بمقايضات ثنائية للعملات مع الصين.

والأهم من ذلك، أن الصين كانت تضع إستراتيجية لإدخال العقود الآجلة للنفط الخام المقومة باليوان والدفع مقابل النفط الخام المستورد بعملتها الخاصة بدلا من الدولار الأمريكي. في الواقع، انخرطت الصين والمملكة العربية السعودية في محادثات نشطة حول تسعير الرياض بعض مبيعاتها النفطية إلى بكين باليوان.

كان هذا هو الهدف الرئيسي لزيارة الرئيس شي جين بينغ إلى الرياض في الأسبوع الثاني من شهر ديسمبر 2022، وحضر ثلاث قمم: القمة الأولى بين الصين والدول العربية، وقمة مجلس التعاون الصيني الخليجي، والقمة الصينية السعودية.

كانت رسالة شي واضحة، لقد كشفت الأزمة الأوكرانية عن عالم يعاني من الاضطرابات ويخضع لتحول جذري. على هذا النحو، يقع على عاتق الصين والدول العربية والعديد من الدول الأخرى تشكيل الحقبة الجديدة.

كانت الرسالة الأساسية للسعوديين والعرب الآخرين هي أن الصين، على عكس الولايات المتحدة، لن تملي أو تؤثر أو تقوض السياسات والازدهار العربي. ستعمل الصين والدول العربية على تنمية علاقاتهما على أساس الاحترام والمساواة والتضامن وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لبعضهما البعض.

لا شك أنه إذا بدأت المملكة العربية السعودية في تداول النفط باليوان، فإن هيمنة الدولار الأمريكي في سوق البترول العالمية ستعاني.

 

سكرات ما قبل الموت

 

بداية شهر مارس 2023 قال جورج أونيل الابن، عضو مجلس مدراء "معهد الأفكار الأمريكية"، في مقال لمجلة The American Conservative، إن الولايات المتحدة تفقد هيمنتها في العالم بسبب أوكرانيا.

وأضاف: "نشهد سكرات ما قبل الموت المؤلمة لهيمنة الولايات المتحدة أحادية القطب على كثير من أنحاء العالم. على مدى عقود، اعتبرت أمريكا نفسها القوة العالمية المهيمنة التي لا مثيل لها، ولكن الآن تغير كل شيء".

ويرى كاتب المقالة، أنه مع تضاؤل هيبة الولايات المتحدة وقوتها، بدأت المزيد من الدول في التجمع لحماية نفسها من "المفترس الأمريكي".

وأشارت المقالة إلى أن الانسحاب المذل لــ"أقوى القوات المسلحة في تاريخ البشرية" من أفغانستان، والعقوبات الأمريكية المفروضة على روسيا والتي ألحقت أضرارا كبيرة بأوروبا وكذلك سلوك واشنطن بعد تفجير خطوط "السيل الشمالي"، تسبب في انتشار الشك لدى حلفاء الولايات المتحدة حول ضرورة المزيد من التعاون مع واشنطن، ودفع ذلك بقية الدول لكي تتحد وتصبح أقوى بشكل تدريجي.

ولكن رغم ذلك، تواصل واشنطن ووسائل الإعلام الأمريكية الترويج لفكرة صمود وتفوق الولايات المتحدة، الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى عواقب وخيمة على كل من الغرب وأمريكا نفسها. وشدد الكاتب، على أن الأزمة الأوكرانية أظهرت في الواقع، أن نفوذ الولايات المتحدة بات يتلاشى تدريجيا.

وأضاف: "على عكس الادعاءات العديدة بأن الروس سيسقطون في حالة صدمة ورهبة من عقوبات الجحيم، لم ينهار الروبل كما توقع جو بايدن. وأخذت الذخيرة والأسلحة تتلاشى من مستودعات الولايات المتحدة وعملائها في الناتو بسبب إرسالها إلى أوكرانيا المضرجة بالدماء بسبب إيعازات واشنطن والناتو. ويبدو أن روسيا ستتمكن في المحصلة من القضاء على الجيش الأوكراني".

ودعا كاتب المقالة، الأمريكيين إلى "الاستيقاظ أخيرا" وتحرير أنفسهم من تأثير الدعاية وإجبار قادتهم على التوقف عن دعم هذا النزاع حتى لا يتصاعد إلى حرب عالمية ثالثة.

من جانبه صرح المستشار السابق لرئيس البنتاغون دوغلاس ماكغريغور، بأنه فور هزيمة أوكرانيا عسكريا، ستتخلى واشنطن عن زيلينسكي وفريقه وستحاول نسيان كل الفظائع التي تسببوا فيها في البلاد.

وعندما سئل في مقابلة نشرت مع الصحفي الأمريكي ستيفن غاردنر، عما إذا كانت أوكرانيا ستتمكن من الانتصار في ساحة المعركة، أجاب المستشار بالنفي.

وصرح ماكغريغور: "من المحتمل أن تكون كييف آخر من يعرف هذا الأمر، وبالتأكيد لن يكونوا قادرين على التأثير في ذلك بأي شكل من الأشكال، سيفعل الأمريكيون مرة أخرى ما فعلوه بالفعل بعد فيتنام، لقد ألقوا المعدات المتبقية، والتي رأوا أنها لا قيمة لها، في بحر الصين الجنوبي، وأبحروا بعيدا ولم يتذكرها أحد".

وأضاف، برأي الجيش، فإن الأمريكيين كقوة جوية وبحرية، لديهم دائما فرصة ركوب طائرة أو سفينة والإبحار إلى الوطن إذا لم تكن الأمور في صالحهم.

 

أحلام يقظة 

 

مع قرب انتهاء الربع الأول من سنة 2023 يقدر عدد من المحللين في الغرب والشرق على السواء أن واشنطن ودول الناتو أخطأت كثيرا في تقديراتها لمسار الحرب الدائرة في وسط شرق أوروبا منذ 24 فبراير 2022 وأن توقعاتها بإمكانية هزيمة روسيا ليست أكثر من أحلام ونفس الأمر بالنسبة لإمكانية دفع الصين للتخلي عن تحالفها مع موسكو. ويشير هؤلاء إلى أن الكرملين يتبع سياسة استنزاف ذكية ضد جيش كييف والمتحالفين معه من الناتو.

بداية شهر مارس 2023 أكدت وزيرة الجيش الأمريكي، كريستين ورموت، أن واشنطن يجب ألا تتهور في التقليل من قدرات روسيا العسكرية، حيث لم تستخدم موسكو بعد إلا جزءا يسيرا من قدراتها الجوية والبحرية والسيبرانية. وأضافت ورموت: "لو لم نقلق لقدرات روسيا العسكرية لكنا من الحمقى".

وأضاف أن روسيا لم تستخدم حتى الآن إلا ما تيسر من قواتها الجوية والبحرية وقدراتها الإلكترونية في النزاع في أوكرانيا.

وفي وقت سابق، أكد الجنرال البريطاني المتقاعد، ريتشارد بارونز، أن دور القوات الجوية الروسية سيزداد في العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، مما سيغير مسارها.

دعت صحيفة “واشنطن بوست”، في افتتاحيتها قرب نهاية شهر مارس 2023، الولايات المتحدة لأن تكون واعية وحذرة من محور بكين- موسكو. وقالت إن القرار الأمريكي الزلزالي، في السبعينات من القرن الماضي، لتطبيع العلاقات مع الصين ورفع الحظر عن بيع الأسلحة للصين عرف “بلعب الورقة الصينية” بهدف إحباط الاتحاد السوفييتي. إلا أن زيارة الرئيس الصيني شي جينبينغ شهر مارس 2023 إلى موسكو، والتي استمرت ثلاثة أيام، أظهرت أن شي مستعد للعب الورقة الروسية لوقف المحاولات الأمريكية الهادفة لمحاصرة الصين واحتواء صعودها العسكري والاقتصادي.

وترى الصحيفة أن التحالف المتزايد بين أكبر المتحدين الإستراتيجيين لأمريكا يحمل إمكانية حرف النظام الدولي بطريقة عميقة، كما فعلت الولايات المتحدة قبل نصف قرن. وعليه، يجب أن تكون أمريكا ونخبتها السياسية جاهزة للرد.

وتشترك الصين وروسيا بنفس المخاوف، ومحاولات تطويقهما من الولايات المتحدة والناتو. وترى روسيا في توسع حلف الناتو شرقا كتهديد وجودي عليها، وكان هذا السبب الرئيسي وراء قرار فلاديمير بوتين شن الحرب على أوكرانيا.

وفي الوقت نفسه، تخشى الصين من محاولة الولايات المتحدة خلق مظلة عسكرية جديدة، وهي “ناتو إندو- باسيفكي”، عبر عقد سلسلة اتفاقيات أمنية من الفلبين إلى أستراليا عبر اليابان وكوريا الجنوبية وكندا.

وعندما التقى الزعيمان، هنأ بوتين شي على انتخابه لولاية ثالثة غير مسبوقة، ورد شي بأنه يتوقع فوز بوتين في حملته الانتخابية عام 2024.

وهناك مسألة أخرى تتعلق بملكية روسيا أكبر مخزون للأسلحة النووية، إلى جانب الصين التي تملك ثلث ترسانة العالم النووية. وتعمل الصين على توسيع ترسانتها النووية لكي تعادل المستوى مع الترسانة النووية الأمريكية خلال العقد المقبل.

وباتت موسكو الشريك الأصغر في شراكة “بلا حدود” بين البلدين، فهي تحتاج إلى الصين كي تشتري نفطها وغازها وحبوبها نظرا لإغلاق الأسواق الأوروبية أمامها والعقوبات التي فرضتها أمريكا وحلفاؤها في أوروبا وأماكن أخرى ضدها، وهي بحاجة لإمدادات من البضائع الغربية.

 

أسوأ من الحرب الباردة

 

تنذر التحذيرات الأمريكية الأخيرة للصين بشأن تقديم المساعدة العسكرية لروسيا في حربها ضد أوكرانيا بحدوث "صراع عالمي" وفق تحليل لصحيفة واشنطن بوست سلط الضوء على مدى تأزم العلاقات الأمريكية الصينية، وإستراتيجية واشنطن لثنيها عن الانخراط في حرب أوكرانيا بعدما التزمت الحياد العسكري منذ بدء الغزو.

وكان وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، قد صرح في مناسبات عدة، أن الصين تدرس مسألة تزويد روسيا بأسلحة.

وأفاد مسؤولون أمريكيون لشبكة "سي أن أن"، إن الولايات المتحدة رصدت مؤخرا توجهات "مزعجة" تشير أن بكين تريد "التسلل إلى خط" تقديم المساعدة العسكرية الفتاكة إلى موسكو.

ولم يوضح المسؤولون بالتفصيل ما وجدته الولايات المتحدة من معلومات استخباراتية تشير إلى حدوث تحول أخير في موقف الصين، لكنهم قالوا إن المسؤولين قلقون بدرجة كافية لدرجة أنهم تبادلوا هذه المعلومات الإستخباراتية مع الحلفاء والشركاء خلال مؤتمر ميونيخ للأمن.

وذكر مسؤولون إن بلينكن أثار القضية عندما التقى نظيره الصيني، وانغ يي، على هامش المؤتمر.

وكان الوزير أكد أنه "تقاسم هذه المخاوف" مع وانغ، غير أن المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، وانغ وينبين، وصف، الاتهامات الأمريكية بأنها "معلومات زائفة".

ونفى أن تكون بكين تعتزم إمداد روسيا بأسلحة لدعمها في حربها ضد أوكرانيا، متهما واشنطن بـ"صب الزيت على النار" بتوجيهها مثل هذه الاتهامات، مكررا الدعوة لدعم مقترح صيني من أجل إنهاء الحرب.

وعلى خط التحذير الأمريكي، قال مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، إن تسليم الصين أسلحة إلى روسيا سيشكل "خطا أحمر" للاتحاد، وأكد أن وزير الخارجية الصيني "قال لي إنهم لن يقوموا بذلك، وإنهم لا يخططون للقيام بذلك. لكن سنبقى يقظين".

 

تحسب لانهيار النظام العالمي

 

ذكر يوم الخميس 23 مارس في واشنطن أن رئيس الأركان الأمريكية المشتركة، مارك ميلي، طالب بمضاعفة ميزانية الدفاع إن انتهت أزمة أوكرانيا "بانهيار النظام الدولي القائم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية".

وأشار ميلي إلى أن "الحفاظ على أوكرانيا كدولة ذات سيادة، هو شرط للحفاظ على النظام الذي تم تشكيله بعد الحرب العالمية الثانية، والذي ينقذ البشرية من حرب أخرى من هذا القبيل".

وأضاف ميلي: "إذا كان النظام العالمي القائم على القواعد، والذي يبلغ من العمر 80 عاما بالفعل، سوف ينهار.. سنضاعف ميزانياتنا الدفاعية، لأن العصر لن يبدأ بالمنافسة، ولكن صراع القوى العظمى".

مقابل ذلك وفي واشنطن أكدت عضو الكونغرس الأمريكي، مارغوري تايلور غرين، أن النزاع الذي تقوده الولايات المتحدة في أوكرانيا سيكون له عواقب وخيمة على الاقتصاد الأمريكي.

وعلقت تايلور غرين على اقتراح الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، استخدام اليوان الصيني في التسويات مع الدول الأخرى، قائلة: "إذا انهار الدولار، فإن أهالي الولايات المتحدة سيواجهون صعوبات مالية غير مسبوقة، وكل ذلك بسبب العسكريين الأمريكيين، مؤلفو الأزمة الأوكرانية".

وأشارت إلى أنه يجب أن تتوقف الحرب بالوكالة مع روسيا قبل أن يلحق ضرر لا يمكن إصلاحه بالولايات المتحدة.

وكانت روسيا والصين قد اشارت خلال القمة التي عقدت في موسكو يوم 23 مارس 2023، إلى الطبيعة السريعة للتغييرات التي تحدث في العالم والتحول العميق في الهيكل الدولي، وأعلنت عن تسريع عملية إنشاء نظام عالمي متعدد الأقطاب.

وأشار البيان المشترك حول تعميق علاقات الشراكة الشاملة والتفاعل الاستراتيجي بين روسيا والصين: "يلاحظ الطرفان الطبيعة السريعة للتغييرات التي تحدث في العالم، والتحول العميق في الهيكل الدولي".

وذكر البيان أن موسكو وبكين تعترفان بأنه في الوقت الحالي "لا تزال مظاهر الهيمنة الأحادية منتشرة في العالم" وتعتبران أنه "من غير المقبول محاولة استبدال المبادئ والمعايير المعترف بها عموما في القانون الدولي".

وأكد البيان أن روسيا والصين تعلنان "عن تسريع عملية إنشاء نظام عالمي متعدد الأقطاب، وتعزيز مواقف البلدان النامية، وزيادة عدد القوى الإقليمية التي تظهر الرغبة في الدفاع عن مصالحها الوطنية المشروعة ".

 

رسائل مقلقة

 

واشنطن تابعت بقلق شديد زيارة الرئيس الصيني لموسكو وصرح وزير الدفاع الأمريكي، لويد أوستن، إن زيارة الرئيس الصيني، شي جين بينغ، إلى روسيا، وبقاءه هناك لبضعة أيام ترسل رسالة مقلقة للغاية.

ولفت أوستن، الخميس 23 مارس 2023، إلى أن واشنطن لا ترى أن الصينيين يقدمون أي دعم مادي لروسيا "في الوقت الحالي"، لكنه أعقب ذلك بالقول "لكننا نراقب هذا عن كثب".

وزار شي موسكو، مقدما نفسه على أنه وسيط بين روسيا وأوكرانيا، غير أنه أسهب في تصريحاته الداعمة للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين.

وبعد إعادة انتخابه للمرة الثالثة لرئاسة الصين، كانت أول زيارة دولة يقوم بها شي هي زيارته إلى موسكو، وهي تعد من وجهة نظر واشنطن رمزية جدا وعززت العلاقات بين الزعيمين ووضعت حدا لحياد بكين المفترض في الحرب في أوكرانيا.

تصريح أوستن يضاف لما قاله وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، الأربعاء، إن الصين لم "تتجاوز خط" تسليم أسلحة فتاكة لروسيا بعد، في إطار حربها في أوكرانيا.

وأضاف بلينكن في رده على سؤال خلال إفادته أمام مجلس الشيوخ في واشنطن "حتى الآن، لم نجد أنهم تجاوزوا هذا الخط".

ويحذر بلينكن علنًا منذ أسابيع من أن الصين تنظر في طلب روسيا الحصول على أسلحة للقتال في أوكرانيا، وتشير معلومات إلى شحنات محدودة أرسلتها شركات صينية إلى موسكو.

أما بخصوص احتمال أي عمل عسكري في تايوان، فقال أوستن " لا أعتقد أن العمل العسكري في تايوان وشيك أو أنه لا مفر منه" مشيرا إلى أن الولايات المتحدة تمتلك أقوى سلاح بحرية في العالم "وسنعمل على بقائه في هذه المرتبة" وفق تعبيره.

وتعيش تايوان في ظل تهديد دائم بعمل عسكري من بكين، وأدى الهجوم الروسي على أوكرانيا إلى زيادة المخاوف في الجزيرة من أن تحاول الصين شن هجوم مماثل. 

يذكر أن حكومة تايبيه الموالية لواشنطن نددت، الأربعاء، بإعلان بكين وموسكو المشترك الذي وصف الجزيرة بأنها جزء "لا يتجزأ" من الصين، متهمة روسيا "بالانصياع لمطالب الصين".

وتعتبر الصين أن جزيرة تايوان ذات الإدارة الذاتية إحدى مقاطعاتها التي ستستعيدها يوما ما، بالقوة إذا لزم الأمر.

وأكدت روسيا في الإعلان المشترك التزامها بمبدأ "الصين الواحدة"، ووصفت تايوان بأنها "جزء لا يتجزأ من الأراضي الصينية"، وفقا لوكالة الصين الجديدة.

ينظر إلى تايوان التي تحتضن قرابة 23 مليون نسمة على أنها بلد شديد الأهمية للعالم الغربي، وعلى رأسه الولايات المتحدة، كونها أحد مراكز القوة الاقتصادية في آسيا، لاسيما مع استحواذها على نصيب كبير من الصناعة العالمية لأشباه الموصلات (التي تستخدم في الصناعة)، إلى جانب أنها تمثل للغرب جزيرة استطاعت توطيد حكم موالي للغرب بجوار عملاق شيوعي وحد البلاد بإستثناء تايوان سنة 1949، وهي فرصة وجدت فيها الولايات المتحدة موطئ قدم لمحاصرة التمدد الصيني في جنوب وشرق آسيا.

ارتبط التاريخ الحديث لتايوان بحقبة الهزيمة والإذلال كما يسميها الحزب الشيوعي الصيني الحاكم، فالجزيرة التي تبعد عن البر الرئيسي 160 كم، وتقارب مساحتها مساحة سويسرا، رزحت في القرن السابع عشر تحت الحكم الاستعماري الهولندي، ثم خسرتها الصين بعد معركة مع اليابان عام 1895، فتنازلت عن الجزيرة، وصارت تايوان "جزيرة "فورموزا" آنذاك" مستعمرة يابانية، وبقيت تحت سيطرتها لمدة 50 عاما حتى نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945. وفي تلك الأثناء، وقعت أجزاء أخرى من الصين تحت وطأة الاستعمار مثل هونك كونغ تحت الاحتلال البريطاني، وقبلها جزيرة ماكاو بوصفها مستعمرة برتغالية.

بكين استعادت كل اراضيها التي كانت تحت الاحتلال بإستثناء تايوان.

 

عمر نجيب

[email protected]