الحرب الروسية الأوكرانية..وأسلحة الحسم العسكري والاقتصادي

ثلاثاء, 2022-03-15 08:20

تقترب الحرب الروسية الأوكرانية من إكمال أسبوعها الثالث دون أن يتم حسمها عسكريا أو سياسيا. العسكريون والسياسيون والمحللون في المعسكر الغربي أي الولايات المتحدة ودول حلف الناتو يطرحون ويضعون الكثير من التحليلات والفرضيات والسيناريوهات بشأن مسار الحرب وتأثير المعركة الاقتصادية التي يشنوها على روسيا. البعض يتحدث عن فشل أو تعثر مخططات الكرملين العسكرية وتأخر تقدم قواته بسبب شدة المقاومة الأوكرانية، وزيادة فرص وقوع ثورة تسقط زعيم الكرملين بسبب المصاعب الاقتصادية التي تواجهها بلاده، وآخرون يتوقعون سقوط العاصمة الأوكرانية كييف وكل شرق البلاد تحت سيطرة الجيش الروسي خلال الأسابيع القليلة القادمة بعد معارك طاحنة ودموية مع بقاء غرب أوكرانيا خارج سيطرة موسكو إلى حين. فريق آخر وهم أقلية أو على الأقل يظهرون كذلك لأن وسائل الإعلام الغربية المتحكم في غالبيتها من طرف الأوليغارشية اليمينية تتجاهلهم ولا تعكس أفكارهم، فيرون أن معركة الغرب مع روسيا حول أوكرانيا لا يمكن كسبها وأن تكتيك موسكو يستند على تجربتها الناجحة في الحرب شبه الدولية التي تدور على أرض بلاد الشام منذ منتصف شهر مارس 2011 والتي تقوم على القضم التدريجي للأراضي التي يتحكم فيها الخصوم وكسب مزيد من التأييد محليا وإقليميا ودوليا وفي نفس الوقت السعي للوصول إلى تسويات سياسية يفرضها تيقن الخصم المحلي الحاكم أنه لا يمكن أن يكسب الحرب. ويشير هؤلاء أنه بإستثناء دول الناتو الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية وكندا واستراليا واليابان لا تساند بقية دول العالم التي تضم 6600 مليون نسمة من سكان العالم البالغ 7800 مليون، الحرب التجارية أو المقاطعة ضد الكرملين.

ربما لخص رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان موقف جزء كبير من دول العالم، فيوم الأحد 6 مارس 2022 قال مخاطبا مبعوثي الاتحاد الأوروبي بنبرة قاسية نادرة: “باكستان ليست عبيدة لكم”، في إشارة لمطالبة الاتحاد الأوروبي إسلام أباد بإدانة التدخل الروسي العسكري في أوكرانيا.

وذكر خان في الخطاب الذي ألقاه أمام تجمع في منطقة فيهاري، شمال شرقي إقليم “البنجاب”، بحضور سفراء الاتحاد الأوروبي.

لقد “كتب سفراء الاتحاد الأوروبي رسالة تطالبنا بإدانة العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.. أريد أن أسأل عما إذا كنتم قد وجهتم أي رسالة من هذا القبيل إلى الهند”. وأضاف: "هل نحن عبيدكم.. نفعل أي شيء تقولونه؟".

في الغرب المتحالف يسجل أن الكثير من الشركات ورغم الضغوط التي تتعرض لها من حكوماتها تتهرب من إتباع سياسة المقاطعة. حتى أنه يوم السبت 12 مارس 2022 دعا وزير المالية البريطاني ريشي سوناك مزيدا من الشركات البريطانية إلى إنهاء استثماراتها الحالية في روسيا، وقال إنه يجب وقف الاستثمارات الجديدة.

وبحسب "رويترز"، قال سوناك في رسالة مصورة على تويتر "بينما أعترف بأنه قد يكون من الصعب للغاية إنهاء الاستثمارات القائمة أعتقد أنه لا يوجد ما يبرر أي استثمار جديد في الاقتصاد الروسي". وأضاف "أطالب ملاك الشركات والمديرين بالتفكير بإمعان في أي استثمار يدعم النظام الروسي بأي شكل" ووعد بتقديم مكافآت للذين يتجاوبون معه. نفس الوضع يسجل في الولايات المتحدة حيث تنقل بعض شركاتها نشاطاتها خاصة عبر المؤسسات متعددة الجنسية والمسجلة في دول خارج التحالف الغربي. داخل الحلف الغربي في أوروبا وحتى الآن لم يقبل تقريبا أحد مقاطعة الغاز والنفط الروسي، لندن الأكثر تحمسا في الخصومة تجاه موسكو ذكرت أنه ستنهي استيراد النفط والغاز من روسيا مع نهاية سنة 2022. بقية دول الاتحاد الأوروبي تعطي لنفسها مهلة من ثلاث إلى سبع سنوات. واشنطن بعد حظرها العلني لإستخدام البترول الروسي تحاول تعويض نسبة 10 في المئة من استهلاكها من النفط الروسي وخفض أسعاره في السوق الدولية ولكنها تفشل في ذلك حتى الآن خاصة بعض رفض السعودية والإمارات زيادة الإنتاج والخروج على إجماع اوبك زائد. البيت الأبيض تنازل مؤقتا عن عدائه تجاه إيران وفنزويلا وأرسل مبعوثيه إليهما في محاولة لزيادة إنتاج النفط.

إخراج واشنطن وحلفائها روسيا من جزء من نظام المبادلات والتجارة الدولية متعثر لأن هناك منافذ بديلة خاصة عبر الصين ودول جنوب آسيا والمؤسسات والبنوك النافذة في منطقة الخليج العربي.

عندما تتبدل تلك المعطيات غير المواتية للتحالف الغربي يمكن تصور تطورات مختلفة، والبديل الآخر هو حرب عالمية ثالثة.

غموض

يوم السبت 12 مارس ذكرت وكالة "أسوشيتد برس" الأمريكية: المحللون العسكريون منقسمون حول ما إذا كان انتشار الرتل العسكري الروسي الضخم الذي يبلغ طوله 64 كلم داخل أوكرانيا يشير إلى بدء حصار وشيك على كييف.

فقد توسعت القوات الروسية في هجماتها على أوكرانيا، يوم الجمعة، فقصفت مطارات في المناطق الغربية، واستهدفت مدينة صناعية كبرى في شرق البلاد، في حين بدا أن رتلها العسكري الذي كان متوقفا منذ أكثر من أسبوع خارج كييف قد انتشر قرب العاصمة.

بعض المحللين العسكريون يفسرون انتشار الرتل العسكري، على أنه مجرد محاولة لإبقاء المركبات العسكرية في مواقع أكثر حماية وزيادة الضغط من أجل الوصول إلى تسوية تفاوضية تلبي مطالب موسكو.

وأظهرت صور أقمار صناعية أن القافلة الروسية انقسمت وانتشرت المدرعات العسكرية في المدن والغابات، كما تم سحب مدافع الهاوتزر إلى مواقع إطلاق نار جديدة، حيث شوهدت وحدات مدرعة في بلدات بالقرب من مطار أنتونوف، بحسب صور رصدتها شركة "ماكسار تكنولوجيز".

وذكر باحث من مركز أبحاث تشاتام هاوس، ماثيو بوليغ إن إعادة الانتشار قد تعني أن المعركة التي طال انتظارها في كييف قد لا تبعد سوى ساعات أو أيام، وتوقع حصارا مطولا، وليس اقتحاما فوريا للمدينة.

وأضاف أنها ستكون معركة استنزاف طويلة، مروعة وخسائرها فادحة، وقد تكون حصارا لم نشهد مثله في التاريخ.

مسئول دفاعي أمريكي، فضل عدم ذكر اسمه، قال إن الولايات المتحدة تعتقد أن هذه الجهود تهدف إلى إخفاء المركبات وحمايتها بشكل أفضل، وهي مخصصة إلى حد كبير للإمدادات. وأضاف أن أي تحركات للمركبات والمدرعات العسكرية لم تكن جزءا من جهد تكتيكي للتقدم نحو كييف، مشيرا إلى أن قوات روسية تتحرك على مقربة من كييف وهي تبعد عن مركزها بما بين 20 إلى 30 كيلومترا. 

بخصوص البحث عن تسوية سياسية قال الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إن هناك "تطورات إيجابية معينة" في المحادثات بين روسيا وأوكرانيا، من دون الكشف عن أية تفاصيل. الرئيس الأوكراني، زيلينسكي ذكر إن القوات الأوكرانية "وصلت إلى نقطة تحول إستراتيجية"، من دون الخوض في التفاصيل أيضا.

يوم الأحد 13 مارس أعلن وزير الدفاع الأوكراني، أوليكسي ريزنيكوف، أن القوات الروسية قصفت بالصواريخ قاعدة عسكرية ضخمة، قرب مدينة لفيف المتاخمة للحدود البولندية والتي تبعد عنها بحوالي 28 كيلومتر حيث تخزن المعدات العسكرية التي يرسلها تحالف الناتو ويتجمع بها المتطوعون الأجانب الذين قدموا لمساعدة كييف. مكسيم كوزيتسكي، حاكم مدينة لفيف صرح إن القصف الروسي أسفر عن مقتل 35 شخصا وإصابة 134 آخرين. في موسكو أعلن الجيش الروسي قصفه مركز تدريب للأجانب في لفوف وقتل 180 من المرتزقة وتدمير شحنة من الأسلحة فيما نفى البنتاغون الأمريكي وجود قتلى له هناك مشيرا أنه تم سحب المدربين الأمريكان منذ مدة.

المتعاونون

في كييف هدد الرئيس الأوكراني، زيلينسكي، المتعاونين والداعمين المحتملين لروسيا في أوكرانيا. وأضاف في رسالة فيديو أن هؤلاء، الذين أغوتهم عروض من المحتلين الروس، يوقعون على حكمهم.

قبل هذا التحذير بأيام ومساء يوم السبت 5 مارس 2022 أكدت وزارة الدفاع الأوكرانية مقتل عضو الوفد الأول لكييف إلى المفاوضات مع روسيا دينيس كيرييف.

وقالت الإدارة العامة للاستخبارات التابعة لوزارة الدفاع الأوكرانية، في بيان: “لقي 3 استخباراتيين من عناصر الإدارة العامة للاستخبارات بوزارة الدفاع الأوكرانية مصرعهم خلال تنفيذ عمليات خاصة، وهم أليكسي دولا، وفاليري تشيبينييف، ودينيس كيرييف”.

ويأتي ذلك بعد أن ذكر النائب في البرلمان الأوكراني، ألكسندر دوبينسكي، ووسائل إعلام محلية أن كيرييف قتل أثناء محاولة اعتقاله من طرف جهاز الأمن الأوكراني في كييف.

وأوضحت المصادر المذكورة أن كيرييف، الذي كان بين أعضاء الوفد الأوكراني في الجولة الأولى من المفاوضات مع روسيا والتي جرت يوم 28 فبراير في مقاطعة غوميل البيلاروسية، قد يكون أبدى مقاومة لدى محاولة اعتقاله ما أدى لمقتله، مرجحة أن تكون محاولة القبض عليه على خلفية شبهة ارتكاب خيانة دولة.

مصادر رصد في العاصمة الألمانية برلين أفادت أن المسئولين الأوكرانيين القتلى كانوا ضمن مجموعة من العسكريين والسياسيين أوكرانيين غير محددين حتى الآن بصدد عقد صفقة مع روسيا لإنهاء الحرب دون مصادقة زيلينسكي وجزء من طاقمه.

لا إجماع في أمريكا

في الولايات المتحدة يتعرض تعامل إدارة الرئيس الأمريكي بايدن مع الأزمة في وسط أوروبا لانتقادات داخلية من جانب بعض الديمقراطيين وأكثر من طرف الجمهوريين.

طالب 43 عضوا بمجلس النواب الأمريكي من الديمقراطيين والجمهوريين الرئيس، جو بايدن بـ "عدم إشراك قوات أمريكية في الصراع الروسي الأوكراني إلا بعد موافقة الكونغرس. الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب هاجم خلفه جو بايدن بسبب تعامله مع أزمة أوكرانيا، مشيرا إلى أنه “يزحف على ركبتيه ويتوسل” دولا أخرى من أجل النفط بعد تخليه عن الطاقة الروسية. وذكر ترمب "لا أحد بهذا الغباء"، ليتوجه إلى دول أخرى بحثا عن النفط بدلا من استغلال الموارد الطبيعية على الأراضي الأمريكية. وأضاف إن بايدن بتحركه هذا "يبيع أيضا الشعب الشجاع في كوبا وفنزويلا، يتذلل تحت أقدام نظام مادورو الغني بالنفط والوحشي". "العالم كله يضحك على الولايات المتحدة"، معتبرا أن أمريكا لن تكون قادرة على إنهاء اعتمادها على النفط الروسي قبل أن تلتزم بـ "إنهاء حرب بايدن السخيفة على قطاع الطاقة الأمريكية".

اعضاء في الكونغرس انتقدوا إدارة البيت الأبيض لتفاوضها مع فنزويلا وإيران وتعاملها اللين مع ما سموه ابتزاز بعض دول الخليج.

مع اقتراب الانتخابات النصفية للكونغرس الأمريكي في شهر نوفمبر كثف الجمهوريون حملتهم على البيت الأبيض كذلك بسبب الأزمة الاقتصادية التي تلوح في الأفق مع تذبذب الوضع في أسواق الأسهم وارتفاع الأسعار والتضخم.

الرئيس بايدن أكد في دفاع عن سياسته بأن التضخم في الولايات المتحدة وصل إلى مستوياته القياسية هذه بسبب أعمال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وأضاف بايدن إن "المسؤولية عن التضخم يتحملها فلاديمير بوتين إلى حد كبير... الديمقراطيون ليسوا من خلق هذه المشكلة. بل بوتين، ونحن نعمل على تصحيح ذلك".

وأشار بايدن إلى أن الوضع حول أوكرانيا أثر على ارتفاع أسعار البنزين في الولايات المتحدة.

وارتفعت أسعار النفط إلى أعلى مستوى لها منذ عام 2014، وشهدت الولايات المتحدة ارتفاعا حادا لأسعار البنزين ونسبة تضخم سجلت مستويات قياسية في الأيام الأخيرة لم تشهدها الولايات المتحدة في أربعين عاما.

وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين توقعت أن يستمر معدل التضخم بالارتفاع حتى نهاية العام بعد أن أظهرت بيانات وزارة العمل أن التضخم ارتفع إلى أعلى مستوى في 40 عاما شهر فبراير.

وقالت يلين لشبكة cnbc: "لا أريد أن أتوقع بالضبط ما سيحدث في النصف الثاني من العام، لكن من المحتمل أن نشهد عاما آخر تظل فيه أرقام التضخم على مدى 12 شهرا مرتفعة بشكل غير مريح".

وتأتي تصريحات وزيرة الخزانة بعد ساعات فقط من إصدار وزارة العمل بيانات تظهر أن التضخم قد وصل إلى أعلى مستوى في فبراير، مدفوعا جزئيا بالعقوبات الدولية المفروضة على روسيا.

وارتفع مؤشر أسعار المستهلك بنسبة 7.9 بالمئة في الأثني عشر شهرا المنتهية في فبراير وهو أعلى معدل تضخم سنوي منذ يناير 1982.

نهاية حقبة

موقع "The American Spectator" نشر مقالا ناقش فيه ضرورة اعتراف أمريكا بتبدل التوازنات الدولية حيث قال “يجب على الولايات المتحدة أن تقبل بنهاية العالم أحادي القطب وأن تنتهج سياسة رصينة، انتهى عصر الهيمنة أحادية القطب، لذا فإنها بحاجة لسياسة خارجية رصينة وموجهة نحو المصلحة الوطنية.

إن انهيار الاتحاد السوفييتي في عام 1991 كان بمثابة بداية لعالم أحادي القطب و”التفوق الاقتصادي والدبلوماسي والعسكري والجيوسياسي الأمريكي الذي لا يمكن إنكاره” على المسرح العالمي. ومع عودة التنافس بين القوى العظمى، انتهى هذا العصر أحادي القطب بكل معنى الكلمة وأولى بوادر انهيار العالم أحادي القطب ظهرت على أنقاض الحروب المشينة لمحاولات الوعظ الأمريكية لتغيير الأنظمة الأجنبية.

المغامرات العسكرية الطموحة والمتعجرفة لعناصر اليمين المحافظ الجديد، بشكل أساسي في أفغانستان والعراق، واليساريين الناشئين محليا في السلطة في ليبيا بشكل أساسي، الذين كانوا يختبئون وراء اعتبارات إنسانية.. كانت إخفاقاتهم بالفعل واضحة قبل عقد من الزمان على الأقل، لكنه، مع ذلك أدى إلى الانسحاب الكارثي عام 2021 لقواتنا من أفغانستان، الأمر الذي كلف الشعب الأمريكي غاليا.

لقد كلفت الإخفاقات الواضحة لحروب تغيير النظام الولايات المتحدة دماء هائلة وأموالا ضخمة. لكن الأهم ربما كانت الرمزية التاريخية: "أمريكا ليست كلية القدرة". يتعزز هذا الاستنتاج الرصين فقط عندما يأخذ المرء في الاعتبار جميع المشاكل الداخلية التي يواجهها سكاننا الهزيلون: أعلى معدل تضخم منذ عقود، ومعدل المواليد خارج إطار الزواج، والحدود الجنوبية "المنفلتة"، وارتفاع معدل جرائم القتل والعنف.

إن الجرائم والمؤشرات العنصرية العلنية "نظرية العرق النقدي" والمعتقدات شديدة الانقسام في "أيديولوجية النوع الاجتماعي" الحالية يجب أن تشجع السياسيين الأمريكيين على إظهار الإبداع وتفكير الدولة غير القياسي.. ينبغي أن تهدف الحنكة السياسية الأمريكية إلى إنشاء تحالف إقليمي لاحتواء الصين. في الوقت نفسه، وبعد الانتهاء من العملية الخاصة الروسية في أوكرانيا، ستكون محاولة إقامة علاقات طويلة الأمد مع روسيا أمرا معقولا للغاية.

إن السياسة العامة الفعالة تتطلب الاعتراف بالعالم كما هو، وليس اختراع ما يمكن أو يجب أن يكون. وهذا يعني الإعتراف بنهاية عصر القطب الواحد، وهو الأمر الأكثر أهمية بالنسبة لبلدنا".

خارج العالم الغربي

جاء في تقرير نشر يوم 11 مارس في لندن: في الوقت الذي تستمر فيه الحرب، يقوم القادة الغربيون في واشنطن وعواصم أوروبا بفرض عقوباتٍ واحدة تلو الأخرى على موسكو. حيث أصبح ينظر في الغرب إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أنه "شخصيةٌ كاريكاتورية شريرة" وخصم لـ فولوديمير زيلينسكي، "البطل المحبوب للملايين". 

لكن خارج العالم الغربي، كان الوضع مختلفا، إذ لا تزال أجزاء واسعة من العالم تتجنب أو ترفض صراحة عزل روسيا وزعيمها بوتين، ففي الهند امتنعت حكومة رئيس الوزراء ناريندرا مودي عن إدانة الهجوم الروسي على أوكرانيا، واصفة إياه بأنه مأزق بين موسكو وحلف شمال الأطلسي. وقال الرئيس البرازيلي جايير بولسونارو إن بلاده "لن تنحاز إلى أي طرف"، وذلك بعد أن وصف زيلينسكي بأنه "ممثل كوميدي". ولا يزال مسئول كبير في جنوب إفريقيا يصف روسيا بأنها "صديقة دائمة".

ليس هناك شك في أن بوتين قد دفع نفسه وشعبه في أزمة خطيرة. ومع ذلك، إذا نظرت بشكل أعمق، فإن الطرح القائل بأن بوتين معزول قد يظل شيئا من التحيز الغربي كما تصف ذلك صحيفة Washington Post الأمريكية. ذلك الافتراض القائم على تعريف "العالم" كمناطق امتياز، إلى حد كبير الولايات المتحدة وأوروبا وكندا وأستراليا واليابان. من بين 193 عضوا في الأمم المتحدة، صوت 141 لإدانة هجوم موسكو غير المبرر على أوكرانيا، لكن تصويت الأغلبية هذا لا يروي القصة بصورة دقيقة. 

يقول ريتشارد غوان، مدير مجموعة إدارة الأزمات الدولية في الأمم المتحدة: "هناك شعور بأن مستوى الدعم من الكثير من الدول غير الغربية لهذا القرار كان ضعيفا للغاية".

العديد من الدول في العالم النامي، بما في ذلك بعض أقرب حلفاء روسيا، لم يستقر قرارها بشأن اجتياح بوتين لأوكرانيا. ومع ذلك، فإن كبار اللاعبين في دول الجنوب– بما في ذلك الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا- تتحوط رهاناتها بينما لا تزال الصين تدعم بوتين علنا. 

وفي الأمم المتحدة، في 2 مارس، كانت جنوب إفريقيا من بين 24 بلدا إفريقيا رفضت الانضمام إلى التصويت الذي يدين حرب روسيا على أوكرانيا، حيث امتنع 16 بلدا إفريقيا عن التصويت، فيما لم تصوت 7 بلدان بالأساس، وصوت بلد واحد إريتريا ضده.

بالنسبة للعالم خارج المحيط الغربي.. فإن حرب بوتين لا ناقة لهم فيها ولا جمل مثلما يتجاهل المتفرِجون الغربيون في كثير من الأحيان الصراعات البعيدة في الشرق الأوسط وإفريقيا، فإن بعض المواطنين في الاقتصاديات الناشئة ينظرون إلى أوكرانيا ويرون أنفسهم لا ناقة لهم ولا جمل في هذه المعركة- لكن مع مصالح قومية مقنعة لعدم عزل روسيا. وفي رقعة واسعة من العالم النامي، تتسرب نقاط حديث الكرملين إلى الأخبار السائدة ووسائل التواصل الاجتماعي. لكن التقييمات الأدق تصور أوكرانيا على أنها ليست المعركة العظمى بين الخير والشر، ولكنها أشبه بلعبة شد الحبل بين واشنطن وموسكو. 

تقول واشنطن بوست، إن التردد حول بوتين يعكس صدى حركة عدم الانحياز لتلك الدول التي سعت إلى موقف وسط بين القوى العظمى المتصارعة خلال الحرب الباردة. لكن الهوة بين الغرب والجنوب العالمي قد تزداد سوءا أيضا خلال الجائحة وعصر تغير المناخ، حيث يزداد استياء الدول النامية من ردود أفعال المصلحة الذاتية في الولايات المتحدة وأوروبا.

قال كريس لاندسبيرغ، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة جوهانسبرغ: "إنهم على استعداد لبعث رسالة مفادها أنهم لا يتقبلون فكرة أن يكونوا محاصرين أو يجبروا على الاختيار".

لا تترجم عدم الرغبة في إدانة بوتين بالضرورة إلى تصميم على مساعدته.

رفضت الهند دعم قرارات الأمم المتحدة التي تدين الغزو، مشيرة إلى علاقة إستراتيجية تعود إلى الحرب الباردة. أكثر من 60 في المئة من أسلحة الهند تأتي من روسيا. 

مجموعة الأزمات الدولية ذكرت في تقرير جديد إن "الهند ردت على الهجوم الروسي بواقعية فظة لقوة صاعدة وطموحة لا تريد أن تعلَق بين روسيا وما يسميه مودي مجموعة الناتو".

وتقول صحيفة نيويورك تايمز، إن التعاطف الإفريقي مع أوكرانيا مؤخرا تضاءل كذلك بعد تقارير أفادت بإجبار قوات حرس الحدود الأوكرانية الطلبة الأفارقة على العودة إلى أواخر الطوابير أثناء محاولتهم مغادرة البلاد. وقد شجب الرئيس النيجيري، محمدو بخاري، الذي تملك بلاده 4 آلاف طالب في أوكرانيا هذه التصرفات العنصرية.

ولسنوات طويلة، كان بوتين يستحضر أحداثا تعود إلى الحرب الباردة، حين دعمت موسكو حركات التحرر الإفريقية وقدَمت نفسها باعتبارها حصنا ضد النزعة الاستعمارية الغربية، التي تحمل إرثا تاريخيا مشينا في القارة السمراء. كما قسم بوتين أيضا الرأي العام الإفريقي بفضل جهوده لتوسيع النفوذ الروسي في أرجاء القارة عبر مزيج فذ من الدبلوماسية والسلاح والمساعدة الأمنية.

وفي محاولة لاستعادة بعض النفوذ الذي فقدته موسكو عام 1991، بانهيار الاتحاد السوفييتي، استضاف بوتين قمة كبيرة في مدينة سوتشي، الواقعة غربي البلاد، عام 2019، حضرها 43 من قادة الدول الإفريقية. ومن المقرر عقد قمة ثانية بين روسيا وإفريقيا هذا الخريف.

في المنطقة العربية وحسب تقارير إستخبارية غربية سربت في برلين فإن أقلية هي التي تساند سياسة البيت الأبيض، واشنطن متهمة من غالبية الرأي العام بالمسؤولية عن كل كوارث دول المنطقة وتجاهلها لمطالب الفلسطينيين ودعمها المطلق لإسرائيل وغزوها للعراق وتدميرها لسوريا وليبيا.

الواقع أن ساسة الغرب وخاصة في واشنطن يعيشون حالة إنكار للواقع ولا يرضون بالاعتراف أنه في المنطقة العربية تساند الغالبية العظمى من زهاء أكثر من 500 مليون إنسان موسكو في حربها، ويقدر هؤلاء من أغلبية العرب أن أوكرانيا جزء من روسيا والغرب مسئول عن عملية فصلها بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، فهو يتبع نفس أساليب سياسات التفرقة والتقسيم التي مارسها ويمارسها في المنطقة العربية وخارجها، في العراق صنع صراعا،سنة ضد شيعة أكراد ضد عرب، في سوريا سنة ضد علويين وعرب ضد أكراد، في ليبيا اسقط نظاما تحت غطاء حماية ثورة شعبية فصنع بلدا فاشلا، لعبة فرق تسد الاستعمارية.

جل سكان الوطن الممتد من الخليج إلى المحيط فطنوا إلى المؤامرةفي بلادهم وهم يرفضون أكاذيب الغرب الآن عن الحرب في وسط أوروبا. يقول دبلوماسي أوروبي طلب عدم التعريف به: انظر كيف رحب غالبية العرب برفض الإمارات العربية والسعودية طلب البيت الأبيض لزيادة صادرات النفط رغم أنهم غير راضين عن التقارب مع الكيان الصهيوني.

المثير للسخرية أن القارئ عندما يتابع وسائل الإعلام الأمريكية بشأن مواقف شعوب الشرق الأوسط وأفريقيا وغيرها من الحرب الروسية الأوكرانية يجد تحليلات مبنية أما على الجهل المطلق، أو مسلسل أكاذيب وتفسيرات هزلية.

غربيا يرى البعض أن نفوذ روسيا أفريقيا ينبع من مبيعات الأسلحة، فوفقا لوكالة تصدير الأسلحة الروسية والمنظمات التي ترصد عمليات نقل السلاح، تصدر روسيا قرابة نصف واردات السلاح في إفريقيا. وكان أحد أشرس المدافعين عن بوتين، منذ بداية الحرب في أوكرانيا، شخصية نافذة في أوغندا، التي تمثل "زبوناً رئيسيا" للسلاح الروسي. فقال الجنرال موهوزي كاينيروغابا، نجل الرئيس الأوغندي يوري موسيفيني، في تغريدة: "معظم البشرية من غير ذوي البشرة البيضاء تدعم موقف روسيا في أوكرانيا".

ليست المتضرر الوحيد

جاء في تقرير غربي نشر يوم 12 مارس 2022 باتت روسيا الدولة الأكثر تعرضا للعقوبات حول العالم، متقدمة بذلك على إيران وسوريا وكوريا الشمالية من حيث عدد العقوبات الغربية. 

ومنذ 22 فبراير 2022، خضع 2778 كيانا روسيا لعقوبات جديدة، ليصل عددها الإجمالي إلى 5530، الأمر الذي جعل مراقبين يشبهون هذه القيود الصارمة بـ"حرب نووية مالية" على موسكو.

ووفقا لموقع "بلومبيرغ" نقلا عن منصة "كاستيلوم"، وهي قاعدة بيانات عالمية لتتبع العقوبات، يتجاوز عدد الكيانات أو المؤسسات الروسية الخاضعة للعقوبات الآن 5530.

وقبل روسيا، كانت إيران في الصدارة من حيث عدد العقوبات التي طالت 3616 كيانا، وفرضت على مدار عقد من الزمن، تليها سوريا (2608) وكوريا الشمالية (2077) وفنزويلا (651) وميانمار (510) وكوبا (208).

وتعد سويسرا الدولة التي فرضت أكبر عدد من العقوبات على روسيا بواقع 568، متجاوزة الاتحاد الأوروبي (518) وكندا (454) وأستراليا (413) والولايات المتحدة (243).

تقول الباحثة في العلاقات الدولية والأوروبية في مدرسة الاقتصاد العليا في موسكو لانا بدفان، إن وصف العقوبات بالحرب النووية المالية "دقيق وتشبيه بليغ يعكس حقيقة هذه العقوبات المفروضة على روسيا، وهي الأقسى والأولى من نوعها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.

ولكن لا يمكن توقع تأثير كبير لهذه العقوبات على المدى القصير كما تقول الباحثة الاقتصادية الروسية، التي أوضحت ذلك لموقع "سكاي نيوز عربية": "على المدى الطويل أو على الأقل بعد أشهر عديدة مثلا يمكننا معرفة ما إذا كانت مدمرة للاقتصاد الروسي، فكما نلاحظ في موسكو الآن العملة الوطنية في تراجع أمام الدولار، لكن وزير المالية الروسي يعلن دوما عن ضخ مالي كبير للبنوك الروسية من العملات الصعبة، ولهذا نشهد استقرارا في الأسعار نوعا ما".

وعن البدائل والخطط الروسية لمواجهة هذه الحرب الاقتصادية، تقول لانا: "بدأت الشركات الروسية المالية بالاعتماد على المؤسسات والبنوك الصينية بدلا من الأوروبية، لذلك ثمة انفتاح كبير من البنوك الروسية على نظيرتها الصينية في مؤشر على أن روسيا ستلتف على العقوبات الغربية وتفرغها من محتواها، عبر الاعتماد على الدول الآسيوية خاصة الصين. هكذا سيكون بمقدور موسكو إلى حد كبير مواجهة هذه العقوبات الغربية، واستعادة عافيتها الاقتصادية".

وشرحت الباحثة والخبيرة في العلاقات الدولية طبيعة العقوبات الغربية، بالقول: "هي قاسية جدا وبوتيرة تصاعدية حادة طيلة الأيام الماضية، وحسبما أطلعت فإن الاتحاد الأوروبي يحضر حزمة جديدة من العقوبات على روسيا تستهدف كافة القطاعات حتى في مجال النقلين الجوي والبري، وإغلاق العديد من الشركات الأوروبية العاملة في روسيا، مما يؤثر بشكل كبير مثلا على صناعة السيارات، لكن موسكو ردا على ذلك بادرت بوقف الصادرات التكنولوجية الفضائية للولايات المتحدة، علما أن واشنطن تستورد لوازم ومواد أساسية تدخل في صناعاتها بالمجال الفضائي من روسيا".

واختتمت حديثها بالقول: "العقوبات سيف ذو حدين، وستنعكس سلبا ليس فقط على روسيا بل وعلى الاتحاد الأوروبي وكذلك الولايات المتحدة، والسؤال هنا كيف يمكن للدول الأوروبية الاستغناء عن روسيا اقتصاديا؟ حيث تتمتع موسكو بحضور اقتصادي قوي جدا في أوروبا عبر صادراتها من الطاقة كالغاز والنفط، والتعاملات النقدية والمالية والتجارة، وهذه العقوبات ربما تنجح موسكو في تذليل تداعياتها عليها، لكن على الاتحاد الأوروبي وهو المستورد الأول للنفط والغاز الروسيين وغيرهما من الصادرات. علينا التفكير مليا في التداعيات الخطيرة عليه من جراء هذه العقوبات، فقد ارتفعت أسعار الغاز والوقود بشكل مهول في ألمانيا مثلا، لكن الأسعار في روسيا لا زالت تتمتع باستقرار نسبي". 

الصين والخليج العربي

باتت روسيا تواجه صعوبات في التعامل مع بعض الأسواق، بعد تعرضها لعقوبات اقتصادية من قبل القوى الغربية، ما يثير تساؤلات عن الدور الذي ستلعبه الصين وبعض بنوك الخليج العربي كمراكز أساسية في خرق العقوبات مثلما تم من قبل مع إيران وسوريا وكوريا الشمالية.

ومن المرجح أن يتسبب حظر بعض البنوك الروسية من نظام سويفت الدولي للمدفوعات، والذي يسمح بانتقال سلس وسريع للمال عبر الحدود، في مشاكل وصعوبات كبيرة في عملية الدفع لروسيا مقابل صادراتها.

وفي هذا السياق، قالت هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" البريطانية، إن روسيا باتت في وضع محرج، متسائلة: "هل تستطيع الصين أن تقوم بدور المنقذ من خلال مساعدة روسيا اقتصاديا؟".

وأوضحت أن الصين أكدت مرارا وتكرارا أنها ستواصل "التعاون التجاري الطبيعي" مع روسيا. وكانت الصين قبيل الهجوم الروسي على أوكرانيا تتحفظ في الحصول على القمح والشعير من مناطق معينة من روسيا بسبب المخاوف من كثافة استعمال المبيدات، إلا أنها مع بدء الحرب رفعت جميع القيود المفروضة على القمح والشعير الروسي.

وأشارت الاذاعة البريطانية إلى أنه في السنوات الأخيرة، عملت كل من روسيا والصين، على تطوير أنظمة الدفع البديلة الخاصة بهما، بغية تقليل اعتمادهما على الأنظمة القائمة على الدولار مثل سويفت، مشيرة إلى أن روسيا تمتلك نظاما خاصا للدفع والحوالات المالية، في حين تمتلك الصين نظام الدفع بين البنوك عبر الحدود، إلا أن هذه الأنظمة تعمل بالعملات الخاصة لكل من البلدين.

من جهته، قال مركز كارنيغي في موسكو، إن أنظمة الدفع المحلية لدى روسيا، ليست بديلا عن نظام سويفت، مشيرا إلى أنه في عام 2021، انضم بنك صيني واحد فقط إلى نظام الدفع والحوالات المالية الروسي، في حين ارتبطت العديد من البنوك الروسية والمؤسسات المالية العالمية بالنظام الصيني.

وأشار إلى أنه في الوقت الحالي، يعتمد 17 في المئة فقط من التجار بين روسيا والصين على العملة الصينية اليوان، في حين يعتمد تجار الطاقة في الغالب على الدولار الأمريكي.

وأوضح أن التجارة بين روسيا والصين، نمت بشكل ملحوظ خلال السنوات الأخيرة، مضيفا: "خلال عام 2021، وصل حجم التجارة بين البلدين إلى مستوى مرتفع جديد بنحو 147 مليار دولار أي ما يقرب من 36 في المئة مقارنة بالعام السابق - وشكل حوالي 18 في المئة من إجمالي التجارة الروسية في عام 2021".

وبين أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أشار خلال زيارته الأخيرة إلى بكين، إلى أن البلدين يخططان لتعزيز تجارتهما ليبلغ حجمها 250 مليار دولار بحلول عام 2024، مؤكدا أن الصين تعد حاليا أكبر سوق منفرد للصادرات الروسية، مثل النفط والغاز والفحم والمنتجات الزراعية.

وقال: "من الواضح أن روسيا بدأت في تصدير المزيد إلى الصين في السنوات الأخيرة، بصورة أكبر مما كانت عليه في السابق، إلا أنه على الرغم من ذلك، يبقى الاتحاد الأوروبي، الشريك التجاري الأكبر مع روسيا، إذ بلغ إجمالي التجارة بين روسيا والاتحاد الأوروبي عام 2021 ضعف قيمة تجارتها مع الصين".

من جانبها، قالت خبيرة الاقتصاد والتجارة، الدكتورة ريبيكا هاردينغ، إن الوضع التجاري بين أوروبا وروسيا من الممكن أن يتغير خلال الأيام أو الأسابيع القليلة القادمة، ومن المحتمل أن تتقلص التجارة بين الاتحاد الأوروبي وروسيا في ضوء العقوبات، حيث إن الأزمة الحالية عززت التركيز داخل الاتحاد الأوروبي على الحاجة إلى تنويع الإمدادات ومصادرها.

وفي ما يتعلق باستطاعة الصين شراء المزيد من الغاز الروسي، أكدت الخبيرة أن الاقتصاد الروسي يعتمد بشكل كبير على تصدير النفط والغاز، إلا أن العقوبات الأخيرة لم تستهدف تلك القطاعات حتى الآن، مشيرة إلى أن بوتين كشف مؤخرا عن صفقات نفط وغاز روسية جديدة مع الصين تقدر قيمتها بنحو 117.5 مليار دولار.

وأوضحت أنه في العام الماضي، كانت روسيا ثاني أكبر مورد للنفط للصين وثالث أكبر مورد للغاز، حيث بلغت الصادرات 41.1 مليار دولار و 4.3 مليار دولار على التوالي، مؤكدة أن الاتحاد الأوروبي، لا يزال أكبر سوق للطاقة بالنسبة لروسيا، فموسكو تزود الاتحاد بنسبة 40 في المئة من غازه وحوالي 26 في المئة من نفطه.

أبعاد تاريخية

يطغى أسلوب الإنكار المطلق للحقائق على تعامل غالبية الساسةالغربيين مع مواجهة موسكو ضد كييف، ولكن من حين لآخروخاصة عندما لا يمكن عكس مسار عجلة التاريخ يضطر البعضفي الغرب للحديث بنوع من الموضوعية المشبعة رغم كل شيءبمسلسلات طويلة من الأكاذيب وتحريف للحقائق واللعب علىكلمات الديمقراطية والأخلاق والتنوير والقانون.

في 11 مارس 2022 نشر موقع فورين بوليسي الأمريكي تقريراتضمن ضمن سطوره جزء من الحقائق جاء فيه: 

تعود أسباب عداوة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، للغرب إلى"تاريخ روسيا بأكمله" وستظل هذه العداوة "مستمرة لفترةطويلة".

استعرض تقرير المجلة المطول الأسباب الحقيقة لموقف بوتينالمعادي للغرب، الذي قالت إنه أبعد من مجرد استعادة أمجادالحقبة السوفييتية بل يرتبط بفكرة روسيا كإمبراطورية لا تعرفحدودا معينة، كما أنها أيضا مرتبطة بتاريخ شخصي لبوتين الذيكان طفلا أثناء الحرب العالمية الثانية ,ويعمل بالمخابرات الروسيةعند تفكك الاتحاد السوفييتي. 

ويلفت التقرير إلى أن هذه الأفكار ليست حكرا فقط على بوتينفقط، ولكن تتشاركها النخبة التي دعمته على مدى عقدين منالزمن.

وحتى لو تمت الإطاحة ببوتين، فإن الجنرالات وكبار المسئولينالأمنيين المحيطين به سيكونون عدوانيين أيضا تجاه الغرب.

ويشير التقرير إلى كتابات فلاديسلاف سوركوف، الإيديولوجيالروسي، الذي كتب بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في عام2014 أن ذلك سيشكل "نهاية رحلة روسيا الملحمية إلى الغرب،وتوقف المحاولات المتكررة وغير المثمرة لتصبح جزءا من الحضارةالغربية". وتوقع أن تعيش روسيا في عزلة جيوسياسية لمئة عامقادمة على الأقل.

جذور العقيدة

ويقول التقرير إن بوتين وأنصاره اعتبروا أوكرانيا، "الأمة الشقيقةالتاريخية"، الخط الأحمر الأخير في "سلسلة طويلة من الإذلالالغربي".

وتعود هذه الإهانات إلى أمد بعيد: ليس فقط خلال الثلاثين عاماالتي انقضت منذ انتهاء الحرب الباردة، ولا خلال المئة عام منذتشكيل الاتحاد السوفيتي في عام 1922، لكن إلى عصر التنويرالأوروبي، أي منذ أكثر من ثلاثة قرون مضت.

وهذه الحركة الأوروبية أدت إلى ظهور فكرة الحرية والديمقراطيةوحقوق الإنسان، لكن بالنسبة للقوميين الروس مثل بوتين، فإن هذهالتطورات قد طغت تدريجيا على الطابع المميز لروسيا كحضارة.

ولا يرى بوتين نفسه باعتباره وريثا للسوفييت، ولكن باعتبارهنصيرا للحضارة الروسية وإمبراطورية موسكو الأوراسية، التيتمتد جذورها إلى الأمير فلاديمير الأول، في الفترة من سنة 980 إلى 1015 ميلادية.

وكان فلاديمير حاكما لما يعتبره الروس إمبراطورتيهم الأولى، وهيالدولة السلافية المعروفة باسم "كييف روس" ومقرها كييف،عاصمة أوكرانيا الآن.

وأدى تحول الأمير فلاديمير إلى المسيحية عام 988 إلى ظهورفكرة أن روسيا ستكون "روما الثالثة"، وستكون وريثةالإمبراطوريتين الرومانية والبيزنطية التي سقطت بعد استسلامالقسطنطينية للعثمانيين.

ولهذا السبب، يشير العديد من الروس، مثل بوتين، إلى "كييفروس" على أنها "مهد الحضارة الروسية" وكييف على أنها "أمالمدن الروسية". 

ويهدف التركيز التاريخي لبوتين أيضا إلى نقل إيمانه الراسخ بأنروسيا تمثل حضارة متميزة لا تشترك كثيرا مع الغرب.

وتقول كيلي أونيل، المؤرخة بجامعة هارفارد، إنه يتبنى أيديولوجيةإمبريالية ضد ما يرى أنه "نزعة تافهة" للغرب و"فساد" ديمقراطياته. 

وأشارت إلى أن إحجام بوتين عن الاندماج الكامل لروسيا الحديثةفي الاقتصاد العالمي، بخلاف بيعها الكثير من النفط والغاز،يستند إلى الاعتقاد "الأوراسي" بأن روسيا والأراضي التابعة لها"اقتصادات متميزة تنتمي إلى هذا الكل الإمبراطوري الجميل. إنها آلية دفاعية. إذا قمت بالاندماج، فإنك تصبح أكثر عرضةللخطر. وجهة نظرهم هي "نحن حصن روسيا. لسنا بحاجة إلىأي شخص آخر".

ويشير التقرير إلى سبب آخر وهو "الاعتقاد الروسي بأنالمسيحية الأرثوذكسية تتفوق على المسيحية المتحررة في الغرب"،التي يعتبرها بوتين وغيره من الروس المحافظين "فاسدة" بفعلأفكار التنوير.

وفي أوائل القرن التاسع عشر، كان الرد الروسي على عقيدةالتنوير للثورة الفرنسية التي نادت بـ"الحرية، المساواة، الأخوة" هو "الأرثوذكسية، الأوتوقراطية، والقومية".

وقد اعتبرها سيرغي أوفاروف، وزير التعليم العام في عهد القيصرنيكولاي الأول، الأساس التعريفي للإمبراطورية الروسية.

وبينما لم يتم ذكر هذه العقيدة الثلاثية في خطابات وكتاباتبوتين، لأنه لايزال يحب التظاهر بأن روسيا ديمقراطية، استشهدبها كتاب يمينيون متطرفون يمتلكون تأثيرا على الرئيس الروسي.

ويقول بيتر إلتسوف، الأستاذ بجامعة الدفاع الوطني الأمريكية: "تشرح صيغة أوفاروف سبب قيام روسيا دائما بإعادة إحياءإمبراطورية استبدادية في فترات الأزمات، كما فعلت بعد الثورةالبلشفية عام 1917، والآن في أعقاب سقوط الاتحادالسوفييتي".

وبالنسبة لبوتين، تبدو فكرة إعادة بناء "إمبراطورية أوراسية" تحتحكمه، التي يجب أن تكون أوكرانيا جزءا منها، فكرة أساسيةلشعوره بأنه قائد.

ويشر التقرير إلى روسيا، وهي أرض شاسعة تمتد عبر أوروباوآسيا، لم تكن قادرة على تحديد ما إذا كانت أوروبية أو آسيويةأكثر، ولم تستطع تاريخيا الاتفاق على ما يجب أن تكون عليهحدودها.

توماس غراهام، الدبلوماسي الأمريكي السابق، قال إنه "لم تكنهناك دولة قومية روسية في التاريخ. إنها كانت دائما إمبراطوريةنوعا ما. حدود روسيا اليوم، هي إلى حد كبير حدود روسيا فيعام 1721، العام الذي تأسست فيه الإمبراطورية بالطريقة التييرونها الآن. أدى عام 1991 إلى القضاء على ما يقرب من 200 إلى 300 عام من التقدم الجيوسياسي".

وكان الهدف الرئيسي لبوتين في منصبه هو عكس هذا الاتجاهقدر الإمكان. أو كما قال سوركوف في عام 2019: "بعد الانهيارمن مستوى الاتحاد السوفيتي إلى مستوى الاتحاد الروسي،توقفت روسيا عن الانهيار، وبدأت في التعافي والعودة إلى حالتهاالطبيعية، ولذلك "ستعود روسيا قريبا إلى مجدها السابق وإلىالمرتبة الأولى في الصراع الجيوسياسي".

ويرى غراهام وخبراء روس آخرون إنه من الخطأ النظر إلى بوتينعلى أنه مجرد عضو سابق في المخابرات السوفييتية غاضبومستاء من سقوط الاتحاد السوفييتي و"تعدي" حلف شمالالأطلسي بعد الحرب الباردة.

إن بوتين "هو بالأحرى قومي روسي أوراسياني"، ويجب اعتباراستحضاره المستمر للتاريخ الذي يعود إلى "كييف روس"، أفضلتفسير لوجهة نظره القائلة بأن أوكرانيا يجب أن تكون جزءا منمجال نفوذ روسيا.

وفي مقال له نشر في يوليو 2021، وصف بوتين فكرة إنشاء دولةأوكرانيا بأنها مثل "استخدام أسلحة الدمار الشامل" ضد روسيا.

ووصف بوتين أوكرانيا بأنها معقل تاريخي للشعب السلافي وحذرالغرب من محاولة قلبها ضد روسيا. وكتب في المقال: "لن نسمحأبدا باستخدام أراضينا التاريخية والأشخاص القريبين منا الذينيعيشون فيها ضد روسيا.. وللذين سيشرعون في محاولة مماثلة،أقول لهم إنهم بهذه الطريقة سيدمرون بلادهم".

ويذكر التقرير إنه بعد فترة ديمقراطية وجيزة في عهد سلفه فيعهد بوريس يلتسين، لم يظهر بوتين أي تعاطف مع النظام الغربيوركز على فكرة إعادة رسم الحدود والقوة. 

وكان بوتين مدفوعا بشكل أساسي بمفهوم استراتيجي قديم، تبناهنابليون بونابرت، وأدولف هتلر، وهو الحاجة إلى "عمقاستراتيجي".

وبالنسبة لبوتين وللعديد من الروس، كان الحدث المميز في حياتهمهو صدمة غزو هتلر وموت عشرات الملايين من أبناء وطنهم. وقدشبه ذلك بحرب نابليون على روسيا في القرن السابق. 

ويشير وعد بوتين بـ"إزالة النازية" من أوكرانيا رغم أن الرئيسالأوكراني، فلاديمير زيلينسكي، يهودي، إلى أنه يعتقد أنه يعتقدأنه لايزال يخوض الحرب العالمية الثانية، التي انضم فيها عددكبير من الأوكرانيين إلى النازية.

وتقول مارلين لارويل، الباحثة الروسية في جامعة جورج واشنطنللمجلة: "ربما يعتقد فعلا أنه يعيد إنتاج الحرب، ويقاتل ضدالنازية مرة أخرى".

ويقول العديد من الخبراء الروس إنه يجب النظر إلى بوتين علىأنه آخر قيصر لروسيا.

الجدير بالذكر أن الهجوم الروسي أدى إلى تأجيل الإدارةالأمريكية إصدار استراتيجية الأمن القومي الأمريكي، وفقالتقرير.

ويذكر مسؤولون أمريكيون إن التأخير جاء ربما للتركيز علىتحديات جديدة بعد الحرب، مثل إعادة تنشيط دور الناتووالتحالف الغربي وعسكرة دول الاتحاد الأوروبي الكبرى مثلألمانيا.

وكان الرئيس الأمريكي السابق، جون كينيدي، قد قال إن الولاياتالمتحدة تعيش "صراعا طويل الأمد" مع موسكو .

وفي كتابه: "من الحرب الباردة إلى السلام الساخن.. سفيرأمريكى في روسيا بوتين"، يشرح السفير الأمريكي السابق،مايكل ماكفول، الذي عمل خلال إدارة الرئيس الأسبق، باراكأوباما، وشارك في صياغة سياسة "إعادة ضبط العلاقة" معروسيا، أن هناك "صراعا أيديولوجيا جديدا بين روسيا والغرب،ليس بين الشيوعية والرأسمالية ولكن بين الأوتوقراطيةوالديمقراطية ".

المحللة المختصة بالشأن الروسي، آنا بورشفسكايا، قالت سابقالموقع الحرة أن بوتين يؤمن بنظام عالمي "مختلف تماما عن النظامالليبرالي القائم على القواعد الذي تقوده الولايات المتحدة. وهويعتقد أن الدول الصغيرة، مثل أوكرانيا، ليست دولا حقيقية تتمتعبسيادة" ولا تعتقد أنه سيتراجع عن موقفه الآن، متمسكا بهذهالعقيدة.

عمر نجيب

[email protected]