لماذا نرى أن جهود الحكومة الجزائرية لإسترداد الأموال المهربة للخارج خطوة في الطريق الصحيح؟

خميس, 2022-02-17 21:06

أشرت في مقال “عالم ما بعد الجائحة مقدم على مرحلة صراع وتحولات  كبرى، يمكن استغلالها بفعالية لبناء الذات و إعادة إحياء الحلم في وطن عربي – إسلامي موحد يملك نموذج حضاري أكثر إنسانية…” إلى “قصة صاحبة الحليب و الخطأ الذي إرتكبته هو نفسه الذي ترتكبه بلداننا حكومات و شعوب، أغلبية و معارضة، نخب و عامة..الخطأ هو إفلات قبضتنا على الواقع، الخطأ هو أن يضع الحلم على العين غمامة فتتعثر أقدامنا، لكن إن إستطعنا أن نحلم وأعيننا مفتوحة لموضع أقدامنا، ومتنبهين  لمخاطر الطريق فمن الممكن أن نصنع المعجزات… فالحلم الحضاري بإحياء الحدود و الحقوق الحقة مسألة مشروعة و مقبولة ، و لكن حذاري من أن تكون على حساب التحديات الأنية و المستعجلة : كالصحة و التعليم و الشغل و توسيع خيارات الناس…فالتأسيس للحكم الصالح و تحرير إرادة الشعوب و منحها القدرة على إختيار من يمثلها و من يحكمها ، الخطوة الأولى في إعادة إحياء الحدود و الحقوق الحقة ، و لعل فشل ثورات الربيع العربي، و التي أكدت أن الحدود الحقة ليست هي الحدود الموروثة عن الاستعمار الغربي، و نجاح الثورات المضادة في وأد حلم الشعوب بالتحرر و الوحدة و الحرية و الكرامة ، هو نتاج لتغليب الحلم عن المطالب الأنية و المستعجلة، الاستجابة للمطالب الاقتصادية و الاجتماعية ( بيع اللبن أولا)، فالشعوب العربية التي خرجت للشوارع و الميادين عام 2011  و مابعده، مطالبة بالحرية و الكرامة ، لم تكن بدورها تتوفر على قيادة شعبية حكيمة و راشدة ، قادرة على وضع أولويات الشارع على رأس إهتمامها، و هو الأمر الذي أفقد الثورات بريقها و قلص من زخمها، و بالتالي هيأ الأرضية لعودة الثورات المضادة و جعل من تضحيات الشعوب من أجل التغيير تضحيات جسيمة و مستمرة و صعبة…

أيها السادة لا نكتب من أجل الكتابة أو نكتب لغاية في نفس يعقوب، فنحن جزء أصيل من هذه الأوطان من “طنجة إلى جاكرتا “، و أي إنتصار في هذا الإقليم الواسع و المتنوع يفرحنا، و أي إنكسار يؤلمنا.. بعض إخواننا المغاربة يتهمونني بأني غير وطني أو ضعيف الوطنية، لأني أحرص على كشف سوءات الوطن للخارج و انتقد السياسات العمومية المتبعة، و هؤلاء للأسف لديهم عمى ألوان، و لا يعلمون حقا معنى الوطنية و معنى الانتماء، المغرب مسقط رأسي و لدي جذور تاريخية هناك ، أفتخر بتاريخ هذا الوطن ..لكن أرى أن حاضرنا يختلف كثيرا عن ماضينا..و عندما أهتم بالشأن الدولي فإني مؤمن أن التنمية في حاجة إلى بيئة داخلية و خارجية موائمة و إلى جوار جغرافي داعم… و أومن أن مستقبل المغرب و الجزائر و باقي البلدان المغاربية في الوحدة و التكتل و في الابتعاد عن السياسات القطرية ضيقة الأفق…و كذلك الشأن بالنسبة لباقي البلدان العربية و الإسلامية و قد شرحت موقفي في أكثر من مقال و محاضرة …و أي نقطة ضوء إيجابية في هذا الوطن الواسع الشاسع ندعمها ، خاصة عندما تكون في صلب إهتمامنا…

فقد أوردت جريدة رأي اليوم اللندنية قبل يومين خبرا عن الجزائر الشقيقة مفاده أن ” الجزائر تستغل الموقع الهام الذي أصبحت عليه بسبب الغاز وأزمة أوكرانيا، وبدأت تطالب الدول الأوروبية بإعادة الأموال المودعة في بنوكها ومصدرها النهب الذي تعرضت له الجزائر في الماضي. وتقدر هذه الأموال بعشرات المليارات من الدولارات.. وأوردت جريدة “الشروق الجزائرية” أمس فتح الجزائر مباحثات مع اسبانيا لاستعادة ممتلكات المسؤولين ورجال الأعمال الجزائريين المعتقلين على خلفية الفساد في الجزائر، وتعد اسبانيا من الدول الرئيسية في أوروبا الى جانب سويسرا وفرنسا التي استقبلت أموال وزراء سابقين ورجال أعمال… وتقدر الأموال المنهوبة التي تم وضعها في حسابات بنكية في سويسرا وفرنسا وإيرلندا واسبانيا والصين وبنما وبريطانيا وألمانيا وكندا بعشرات المليارات من الدولارات، وتم نهب الحصة الكبيرة خلال حقبة عبد العزيز بوتفليقة، ونهج المهربون تضخيم الفاتورات وعمليات الاستيراد الوهمية في الخارج والتلاعب بالعملة…”

و لا يسعنا إلى دعم هذا المجهود الحكومي الإيجابي في استرداد ثروات الجزائر المنهوبة، و بنظرنا هذا هو المدخل الصحيح لبناء الجزائر و إخراجها من دورة الأزمات..

ففي مثل هذه الأيام من العام 2011 كانت الشعوب العربية في قيمة نشوتها و فخرها، فقد نجحت أخيرا في كسر قيود العبودية و الاستبداد التي إمتدت لثلاثة عقود و نيف، فلقد تم إسقاط نظام بن علي في تونس و نظام حسني مبارك في مصر ، ثم في ما بعد نظام القدافي و عبد الله صالح، و نحن في الذكرى الحادية عشر لهذه الأحداث، يسترجع الكاتب ذكريات هذه الفترة التي حملنا فيها أمالا و أحلاما كبيرة، تم إجهاضها و كسرها بفعل تفاعل و تداخل عدة عوامل منها: ماهو ذاتي مرتبط بنا نحن معشر شباب الثورة و قياداتها، و منها ما يعود للدولة العميقة و أباطرة الفساد و شبكاته، و أيضا الدور الذي لعبته القوى الخارجية الغربية و الخليجية في دعم الثورات المضادة ، فبدورنا في المغرب خرجنا للشارع بكثافة، و كلنا أمل في بناء وطن يسوده العدل و الحرية و المساواة و يحترم كرامة و أدمية كل مواطنيه، و لأخفيك أخي القارئ ، أن خروجنا أو سعينا للتغيير لم يكن نتاج لمطلب شخصي أو سعي لمنصب أو مغنم ، و لكن لأننا نريد بناء دولة تدار و تحكم  على نفس شاكلة كوريا الجنوبية و ماليزيا و اليابان…لكن و نحن نرى الشعوب العربية استسلمت للظلم و الفساد و الاستبداد مجددا، و أضاعت البوصلة و فرطت في حقوق الشهداء و المعتقلين  نصاب باليأس و الحزن الشديدين…ففي هذه الفترة قدمنا جميعا تضحيات بالغة من أجل التغيير، لكن للأسف الثورات تم سرقتها من قبل شداد أفاق  و منافقين يسرون غير ما يعلنون…و إرتكبنا كنخب وقادة للحراك أخطاء جسيمة، ليس المجال لذكرها ، و نتمنى أن نكون قد إستفدنا جميعا من أخطاءنا …لأن الانتفاضات الشعبية قادمة لا محالة ، فالأسباب التي أشعلت حراك 2011 لازالت على حالها ، إن لم نقل أنها تضخمت و توسعت و الاستبداد تعمق و تجبر و الفساد تفشى و طغى…

فصمت الشعوب العربية على الرغم من الفساد و الاستبداد، يدعونا حقيقة إلى ضرورة تحليل سيكولوجية الشعوب العربية، و كيف تحكم على الأشياء و ما رؤيتها للمستقبل، و خاصة في ظل الأوضاع القائمة و التي لا تزداد إلا سوءا و انحدارا للقاع، و قد رأينا أن أغلب شعوب العالم لا تتعاطف مع الفساد و الاستبداد و تنتفض ضده..و في الذكرى الحادية عشر  لثورات الربيع و في مثل هذه الأيام من عام 2011 تم إسقاط نظام مبارك، و الذي كشفت القصاصات الإخبارية أن أمواله المهربة إلى الخارج قدرت بنحو 70 مليار دولار، نفس الأمر ينطبق على الرئيس التونسي الهارب بن علي ، و القدافي و صالح و غيرهم ، بل إن الفساد في مختلف بلدان العالم له جذور عربية…

فقد أصبح من الشائع في قضايا الفساد العابر للحدود حضور قيادات بعض بلدان الخليج، ففي ماليزيا تم الكشف عن الدور الذي لعبته السعودية والإمارات في قضايا الفساد التي تم إثارتها في عهد رئيس الوزراء السابق نجيب عبد الرزاق ، إذ كشفت التحقيقات أن الرجل و بعض أقاربه  تلقي رشى خارجية منها 681 مليون دولار من الأسرة المالكة بالسعودية، كما كشفت قضايا الفساد التي تورط فيها وزراء سابقون، ومسؤولون اقتصاديون جانبا آخر،  لعلاقة ولي عهد أبوظبي “محمد بن زايد” وإخوته في تدمير التجربة الماليزية، وهو ما جعلهم بالوثائق مرتكبين لجرم و معرضين للمتابعة القضائية الماليزية… إذ كشف اتصال أجراه “نجيب عبد الرزاق” بولي عهد أبوظبي، و طلب منه بشكل صريح المساعدة في تهم غسل الأموال التي يواجهها ابن زوجته صانع الأفلام في هوليوود “رضا عزيز”، وذلك في أوج فضيحة الصندوق الماليزي السيادي العالمي، التي بدأت الولايات المتحدة التحقيق فيها منذ عام 2016…

كما  تم الكشف على أن ملك إسبانيا السابق “خوان كارلوس” تلقى أموالا من ملك السعودية الراحل “عبد الله” ، وقد تم فتح تحقيق في ذلك مع ملك إسبانيا و أفراد أخرين من العائلة الحاكمة، لكن من يستطيع محاسبة حكامنا العرب الذين يتصرفون في أموال و ثروات شعوبهم كأنها ملك خاص لهم اكتسبوه بجهدهم و عرقهم متناسين أن هذه الثروات نعمة من الله يشترك فيها جميع المسلمين..و ليست حكرا على الحاكم و من يدور في فلكه..؟ فلو كان هؤلاء الحكام مقاولين أو تجار أو حتى مقامرين لا صلة لهم بالسياسة والشأن العام لما كلفنا نفسنا بالحديث عنهم ، أو السعي إلى محاسبتهم فهم أحرار فيما كسبوه و فيما ينفقونه..نفس الأمر ينطبق على باقي البلدان العربية بما فيها بلدي المغربي و أوراق باناما و ذهب دبي شاهد على حجم الفساد، و ما خفي أعظم…

و الحقيقة أن غياب المساءلة و المحاسبة و غياب الحكم الرشيد سبب رئيس فيما نراه من تبذير لثروات الشعوب العربية، و لعل هذا التبذير و الإسراف هو الذي دفع صندوق النقد الدولي إلى إصدار تقرير يحذر فيه البلدان النفطية أنها ستفقد ثرواتها النفطية بعد حوالي عقدين من هذا التاريخ، فأين تبخرت أموال الخليج ؟ و هل نجحت هذه البلدان في الخروج من دائرة الاقتصاد الريعي كما فعلت العديد من البلدان التي تتوفر على ثروات طبيعية؟..للأسف فالثروات العربية تنفق في الهدم و التدمير و الإفساد، و لم يتم توجيهها للبناء و التنمية و التعمير…

فالأموال العربية أنفقت في تدمير أغلب بلدان العالم العربي و إعاقة تحرر الشعوب العربية، فبأموال الخليج دمرت سوريا و ليبيا و اليمن، و بأموال الخليج تم دعم الانقلاب العسكري في مصر و تمويل مشاريع السيسي الشخصية و الفئوية..و بأموال الخليج يبنى سد النهضة الذي يشكل أكبر تهديد لمصر و شعبها..و بنفس الأموال تم تدمير اليمن و تشريد هذا الشعب..و بأموال النفط تم تمويل الانقلاب على حكومة “أردوغان” في تركيا..و بأموال النفط تم تأجيج الفتنة الطائفية بين السنة و الشيعة في العراق و لبنان..و بأموال النفط تم الاتفاق على تمويل “صفقة العار” و تصفية القضية الفلسطينية، و التخلي عن القدس و حق اللاجئين و إقبار الحقوق الفلسطينية في أرض فلسطين لصالح الكيان الصهيوني المغتصب للأرض و العرض..بإيجاز أموال العرب تم استثمارها في تدمير الوطن العربي و خدمة المصالح الغربية التوسعية الإمبريالية…

و الشعوب بالنهاية هي من تدفع و ستدفع ثمن هذا الفساد من قوتها و مستقبلها و مستقبل أبنائها..فهناك عملية لتوريث الفقر و الجهل و انعدام التنمية، و المستقبل في ظل الظروف الراهنة لن يكون حتما إلا أكثر سوءا و سوداوية، و تغيير هذه الحتمية ، رهين بموقف الشعوب حاضرا من الفساد و النخب الفاسدة، و صمت الشعوب و قبولها بالوضع القائم و استسلامها لمنطق القمع و التضليل سيحكم عليها بالاستمرار في نفس الحلقة المفرغة من الفقر و التفقير و التجهيل و التهميش و القمع المنظم…

فلا يمكن  أن يتحقق إقلاع اقتصادي دون وجود منافسة حرة و تكافؤ في الفرص وسيادة القانون و استقلال القضاء و الشفافية في تداول المعلومات الاقتصادية ،  فلا يعقل أن ينافس تاجر عادي –مهما كان حجم رأس ماله – وزيرا أو مسئولا حكوميا فهذا الأخير يتوفر على ميزة تنافسية أفضل بحكم المنصب أو القرب من دائرة صنع القرار، لأجل ذلك يحرص العالم المتقدم على محاسبة أي مسئول عمومي حقق مكسبا تجاريا أو غيره من المنافع بحكم المنصب، لكن في العالم العربي أقرب الأبواب لتحقيق الثروة  الاستثمار في السياسة …

فتهريب الأموال العمومية للخارج و نهبها من قبل مسؤولين عموميين يقود بالتبعية إلى شح الموارد العمومية،  و بالتالي  إحجام الدولة عن الاستثمار الفعال و الرشيد في قطاعات الصحة والتعليم والنقل العمومي و هو ما له تأثير مباشر على  ميزانيات الأسر، فلو تم بالفعل إشباع هذه الحاجيات عبر تقديم سلع عمومية مقبولة الجودة والتكلفة لتم خلق دورة تنموية حميدة بإمكانها تحفيز إدخار الأسر و تقوية دالة الاستثمار عبر رؤوس أموال محلية …و التجربة التنموية “الكورية الجنوبية” أو “الصينية” استندت في إقلاعها الاقتصادي على هذه الدورة التنموية …

هذه الدورة التنموية لن تكون فعالة دون مكافحة الفساد و نهب المال العام، فالتساهل في هذا الجانب يدمر كل عملية تنموية مهما كانت سليمة نظريا، و كلمة المفتاح في أي تحول ناجح هو مكافحة الفساد و الفصل الصارم بين التجارة والسلطان، و هو أهم تحدي يواجه الشعوب العربية في المستقبل القريب،  و على خلاف التفاؤل الذي يبديه حكام المنطقة و داعميهم بأن الشعوب العربية لن تكرر ما قامت به في 2011 ، فإني على قناعة أن التغيير قادم لا محالة ،  و الموجة الثالثة للربيع العربي ستكون أكثر فعالية و قطار التغيير لن يحمل هذه المرة بين عرباته الفاسدين و المنافقين و المنتفعين و المطبلين للأنظمة الحاكمة التي تأكد بأنها  تخدم مصالحها الشخصية و مصالح القوى الكبرى التي تحميها، و من يعتقد عكس ذلك فهو لم يقرأ التاريخ جيدا…و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون…

د. طارق ليساوي إعلامي و أكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني و الشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية و السياسات العامة..