لولا دول أميركا اللاتينية، لما كانت "إسرائيل" موجودة الآن في الخارطة أساساً. انطلاقاً من هذه الحقيقة، أولت الحركة الصهيونية منذ نشأتها أميركا اللاتينية، القريبة من معقلها الرئيسي في الولايات المتحدة، اهتماماً خاصاً، حصدت ثماره خلال التصويت على قرار التقسيم في 29 كانون الأول/ديسمبر 1947.
خلال التصويت على هذا القرار، أدى مندوب البرازيل أوسفالدو كروز، الذي ترأس اجتماع الجمعية العمومية للأمم المتحدة، دوراً مهماً في تمرير القرار بأغلبية صوت واحد، فبعد أن فشل التصويت الأول في 26 كانون الأول/ديسمبر من ذاك العام في الحصول على أغلبية الثلثين، قرر كروز، وبطلب من الرئيس الأميركي ترومان، تأجيل جلسة اليوم التالي، بحجّة أنه يصادف عيد الشكر الأميركي، وهو ما استغلّه ترومان ورجال الأعمال الأميركيون والقيادات اليهودية والصهيونية للاتصال بزعماء دول أميركا اللاتينية، لإقناعها بالرشوة أو بالتهديد بضرورة التصويت لمصلحة القرار.
وقد أدى مندوب غواتيمالا خورخوي غارسيا غرانادوس دوراً مهماً في التأثير في ممثلي دول أميركا اللاتينية، فردّت "تل أبيب" على جميله هذا بتسمية العديد من الشوارع في المستوطنات الإسرائيلية باسمه.
وفي جلسة 29 كانون الأول/ديسمبر، صوّتت 13 دولة أميركية لاتينية لمصلحة القرار، وامتنعت 6 منها (من أصل 10 دول امتنعت عن التصويت) عن التصويت. وكانت كوبا الدولة الوحيدة التي صوّتت آنذاك ضد القرار الَّذي حصل على أغلبية الثلثين، وبفارق صوت واحد، إذ أيّدته 33 دولة، ورفضته 13 دولة.
واعترفت كلّ من غواتيمالا وأوروغواي وفنزويلا ونيكاراغوا وباناما وكوستا ريكا بـ"إسرائيل" فور إعلانها في أيار/مايو 1948، بعد اعتراف واشنطن بها، فيما اعترفت الدومينيكان والسلفادور وهوندوراس وباراغواي بها في أيلول/سبتمبر 1948، لتلحق بها تشيلي والأرجنتين والبرازيل وبوليفيا وكولومبيا وكوبا وهايتي والبيرو في كانون الأول/ديسمبر 1948. وكانت الأرجنتين، وبعدها البرازيل، في مقدمة الدول التي افتتحت سفاراتها في "تل أبيب"، ليصل عدد هذه السفارات إلى 14 سفارة في العام 1972.
في المقابل، افتتحت "إسرائيل" أوّل سفارة لها في الأوروغواي في كانون الأول/نوفمبر 1949، لتحوّل عاصمتها مونتيفيديو إلى معقل مهم لنشاط "الموساد" في القارة المذكورة، لتلحق بها سفارتها في الأرجنتين، ثم البرازيل والمكسيك. وكان "الموساد"، بالتنسيق والتعاون مع المخابرات الأميركية، خلف كلّ الانقلابات الفاشية، ومحاولات التمرد في كوبا، واغتيال الزعيم الثوري جيفارا، وأخيراً محاولة الانقلاب الفاشل في فنزويلا عبر حدود الجارة كولومبيا.
وكان "الموساد"، مع رجال الأعمال اليهود الَّذين يسيطرون على الإعلام، طرفاً أساسياً في المؤامرة التي استهدفت الرئيس اليساري في البرازيل دي سيلفا لولا، ومنعته من المشاركة في الانتخابات التي فاز بها اليميني الفاشي بولسونارو؛ صديق "إسرائيل".
وقد اعترف بولسونارو بعد فوزه فوراً بالقدس عاصمة لـ"إسرائيل" اليهودية، ونقل سفارة بلاده من "تل أبيب" إليها، وهو ما فعلته دول أخرى في القارة المذكورة، في الوقت الّذي يشنّ "الموساد" والحركات الصهيونية، بالتنسيق مع المخابرات الأميركية، حملات تضليل ضد أنشطة حزب الله وإيران، وهما معاً مصدر قلق بالغ لـ"تل أبيب"، التي ترى في هذه القارة عمقاً استراتيجياً لها. وبخسارتها، قد تخسر كلّ شيء، بما في ذلك زعزعة الكيان الصهيوني برمّته.
وحتى إن تركنا العلاقات الاقتصادية والتجارية والمكاسب التي تحقّقها "تل أبيب" من علاقاتها مع العديد من الدول اللاتينية الغنية بالثورات الطبيعية، فإنَّ ما يهمّها هو منع دول القارة من الانحياز إلى جانب القضيّة الفلسطينيّة التي خانها أصحابها من الفلسطينيين والعرب والمسلمين في العديد من فترات التاريخ القريب والبعيد.
آخر شاهد على ذلك لقاء محمود عباس ووزير الأمن الصهيوني بيني غانتس، وقبلها تآمر بعض القيادات من "حماس" (وما زال) على الدولة السورية، التي لم تكن "حماس" موجودة أساساً لولاها، ناهيك بالخلافات الفلسطينية – الفلسطينية، وعمالة بعض الفلسطينيين للصهاينة بشكل مباشر أو غير مباشر، في الوقت الذي كانت القضية الفلسطينية، وما زالت، في ضمير جميع ثوار أميركا اللاتينية، وفي مقدمتهم من دون شك كاسترو وجيفارا وتشافيز، والآن مادورو، الَّذي افتخر في مقابلته مع الأستاذ غسان بن جدو على شاشة "الميادين" بصداقته الشخصية مع الشهيد قاسم سليماني، ثم هتف من أجل فلسطين، وهو ما فعله وسيفعله الرئيس التشيلي المنتخب غابرييل بوريك، وهو على طريق كاسترو وتشافيز وجيفارا، حالهم حال العديد من ثوار أميركا اللاتينية الّذين لقّنوا الإمبريالية الأميركية وعملاءها المحليين المدعومين من الرأسمالية الصهيونية دروساً لن ينسوها من الرجولة والبسالة والتضحيات، في الوقت الذي تتسابق أنظمة عربية وإسلامية للتطبيع مع "تل أبيب". ولولا خيانتها وعمالتها وعمالة أجدادها، لما استطاعت الصهيونية أن تخترق دول أميركا اللاتينية، كما هو الحال في أفريقيا أيضاً.
ولا ننسى فشل الجاليات العربية الموجودة (باستثناء حالات فردية قليلة) في جميع دول أميركا اللاتينية (قوامها ليس أقل من 25 مليوناً) في أداء دور أهم وأكبر تأثيراً في القرارات السياسية للدول المذكورة. ويبدو واضحاً أنها، وباستلام اليسار للسلطة فيها، ستنحاز إلى جانب القضية الفلسطينيّة، وإن اختلف أطرافها الفلسطينيون في ما بينهم حول كيفية معالجتها سياسةً وسلاحاً، وهو ما سيجعل انتخاب الشاب الثوري غابرييل بوريك (35 سنة) حدثاً تاريخياً قد يحدّد مسار النضال العربي والإسلامي الصادق من أجل فلسطين.
وسيكون ذلك كافياً لهزيمة "إسرائيل"، بعد أن تخسر العديد من مواقعها الاستراتيجية في هذه القارة، وأهمها البرازيل، في انتخابات نهاية العام الجاري، كما سبق أن خسرت الأرجنتين والمكسيك، وانتصر فيها اليسار، وهو ما سيتطلب المزيد من التنسيق والتعاون بين قوى المقاومة والممانعة وزعماء اليسار في أميركا اللاتينية، ويجب أن يكون الشاب بوريك في مقدمتهم، لأنه مرشح للتأثير في شعور شباب أميركا اللاتينية، بل شباب العالم أجمع، فقد أيَّد بوريك عندما كان في البرلمان في العام 2016 مشروع قانون يقترح مقاطعة البضائع الإسرائيلية المنتجة في المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية والقدس المحتلة ومرتفعات الجولان، ووصف "إسرائيل" آنذاك بأنها "دولة مجرمة".
وفي العام 2018، زار بوريك الضفة الغربية المحتلة مع نائبين في البرلمان، والتقى الرئيس محمود عباس (ليته لم يلتقِ به)، كما التقى الشابة عهد التميمي، وحيّاها باسم مناضلي بلاده. وما على دمشق أو طهران أو الجزائر إلا أن تساعد عهد على السفر إلى سانتياغو لحضور مراسم القسم في 11 آذار/مارس القادم، لتلتقي حينها الرئيس الشاب، ويرى الشعب التشيلي بطولة الفتاة الفلسطينية.
وفي العام 2019، أرسلت منظمة يهودية تشيلية هدية للرئيس بوريك بمناسبة رأس السنة، فردَّ عليها في حسابه على "تويتر": "شكراً لكم على هذه المبادرة اللطيفة، ولكنني كنت أتمنى أن تطلبوا من إسرائيل أن تنسحب من فلسطين المحتلة بشكل غير شرعي".
وخلال حملته الانتخابية، وفي مقابلة تلفزيونية على الهواء مباشرة، ورداً على سؤال من مقدم البرنامج، قال بوريك: "نعم، ومن دون أي شك، إنَّ إسرائيل دولة إبادة ودولة إجرامية، وعلينا جميعاً أن نتصدى لها وندافع عن حقوق الشعب الفلسطيني، مهما كانت قوة الدول التي تتجاهل هذه الحقوق".
وللتذكير، إنَّ عدد العرب، ومعظمهم من الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين، في تشيلي، ليس أقل من 250 ألفاً. وقد آن الأوان لهؤلاء جميعاً، ومعهم كل الأصول العربية في دول أميركا اللاتينية، أن يتركوا خلافاتهم جانباً، مهما كان سببها، ويتفقوا على الحد الأدنى من القواسم المشتركة، وهي التصدي للصهيونية والدفاع عن فلسطين. هذا بالطبع إن كانوا ما زالوا مؤمنين بها، وليسوا من أتباع التطبيع، أي الاستسلام والخيانة والتآمر.
وعلى الدول والشعوب العربية والإسلامية المخلصة للقضية الفلسطينية أن تتذكَّر كيف وقف كاسترو وجيفارا، وأخيراً تشافيز، إلى جانب حركات التحرر العربية، وفي مقدمتها الجزائر، التي زارها جيفارا بعد عام من استقلالها، وبعد الزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس بن بيلا إلى كوبا يوم 16 تشرين الأول/أكتوبر 1962، على الرغم من اعتراض الرئيس الأميركي كنيدي على هذه الزيارة التي صادفت أزمة الصواريخ بين واشنطن وموسكو.
وفي غياب الموقف العربي الموحّد، تستطيع سوريا وإيران، ومعها هذه المرة الجزائر وتونس، بمواقفها القومية، أن تبني علاقات وطيدة مع دول أميركا اللاتينية التي يحكمها اليسار، ليكون الهدف المشترك الوحيد لهذا العمل هو التصدي لـ"إسرائيل" ومنع بعض الأنظمة العربية المتآمرة (كالمغرب والإمارات) من التغلغل في هذه الدول بغطاءات مختلفة، لتخفيف وطأة السياسات المستقبلية ضد "تل أبيب"، وإن اختلفت الدول الأربع ومن معها من دول وقوى وطنية في الأسلوب والنهج والأهداف مع هذه الحكومات اليسارية، فمن الواضح جداً أن عملها المشترك سيصب في نهاية المطاف في خانة المصالح المشتركة لشعوب منطقتنا وشعوب أميركا اللاتينية.
ولا بدَّ من التّذكير بأنَّ كلّ هذه الشّعوب عانت الأمرّين من ظلم المستعمرين واستبدادهم وإرهابهم، بدءاً من كريستوفر كولومبوس، وانتهاء بترامب. ولا يختلف بايدن ومن معه عنهما وعن كلّ الذين أجرموا بحقّ البشرية جمعاء، وفلسطين وجدانها وضميرها، لأنها أرض الرسالات الثلاث.
وعلى الجميع أن لا ينسوا أنَّ خسارة "إسرائيل" لأميركا اللاتينية ستكون بداية النهاية لكيانها العنصري الإرهابي الذي سيستنفر كلّ إمكانياته لحماية مواقعه، بعد أن يضمن ظهره بتآمر الأنظمة العربيّة والإسلاميّة على القدس، التي قد تتحول قريباً إلى قبلة للملايين من رفاق جيفارا بعد أن خانها أصحابها!
حسني محلي
باحث علاقات دولية ومختصص بالشأن التركي