هل يعاد رسم خرائط دول منطقة القرن الأفريقي ؟... مخلفات الحقبة الاستعمارية والصراعات الدولية تفجر الحروب

ثلاثاء, 2021-11-09 23:31

هل يعاد رسم خارطة منطقة القرن الأفريقي ؟. سؤال يطرح بشكل ملح منذ بداية صيف سنة 2021 مع تفاقم الصراع العسكري والعرقي والسياسي في إثيوبيا. القرن الأفريقي أو شبه الجزيرة الصومالية كما يطلق عليها في الموسوعات، هي منطقة تقع في شرق أفريقيا في المنطقة الواقعة على رأس مضيق باب المندب من الساحل الأفريقي، ويحدها المحيط الهندي جنوبا، والبحر الأحمر شمالا، وتقع بها حاليا: جيبوتي والصومال وإريتريا وإثيوبيا.

القرن الأفريقي يكاد يكون على مسافة واحدة من خط الاستواء و مدار السرطان. ويتكون بشكل رئيسي من الجبال المرتفعة من خلال تكوين الوادي المتصدع الكبير، وهو شق في قشرة الأرض يمتد من تركيا إلى موزمبيق ويمثل فصل الصفائح التكتونية الأفريقية والعربية.

زيادة على أهمية موقعها الجغرافي تشكل أثيوبيا موردا لأهم نهر في المنطقة الشمال أفريقية أي نهر النيل، ففي هضبة وسط إثيوبيا تتلقى العديد من المناطق أكثر من 2000 ملم من الأمطار سنويا وهو ما يزود العديد من الأنهار بالمياه ومنها فرع نهر النيل الأزرق، وتتلقى أسمرة عاصمة جمهورية إريتريا في المتوسط 570 ملم من الأمطار.

هذه الأمطار والأنهار تشكل في يد أطراف الصراع على النفوذ في المنطقة وما وراءها سلاحا يتحكم في مصير أكثر من 160 مليون إنسان.

 

تعديلات

 

خرائط القرن الأفريقي عرفت تعديلات كثيرة خلال منذ منتصف القرن التاسع عشر.

منذ ما يقرب من قرن ونصف كانت منطقة القرن الأفريقي مسرحا لصراعات القوى الاستعمارية الغربية منذ أن ترسخت الرغبة لدى بريطانيا في السيطرة على البحر الأحمر، في إطار خطتها لتأمين خطوط الإمداد بينها والهند، وقد زادت هذه أهمية المنطقة للندن بعد افتتاح قناة السويس في سنة 1869. 

ايطاليا وإبتداء من ثمانينات القرن التاسع عشر نافست القوى الأوروبية الأخرى في استعمار القرن الأفريقي.

منطقة الصومال حكمت في القرن 19 من قبل سلطنة هوبيو الصومالية وسلطنة ماجرتين. وتم الاستحواذ عليها، واحتلال أراضيها عن طرف إيطاليا تدريجيا من خلال معاهدات مختلفة.

حوالي عام 1895، أطلقت إيطاليا أولى حروبها ضد الحبشة من أراضيها في اريتريا والصومال ولكنها انتهت بهزيمة القوات الإيطالية.

في عام 1936، دمجت أراضي الصومال الإيطالي إلى دولة أفريقيا الشرقية الإيطالية، واعتبرت كجزء من الإمبراطورية الإيطالية. واستمر الوضع ثابتا حتى عام 1941. خلال الحرب العالمية الثانية، ظلت مستعمرة أرض الصومال الإيطالي بهذا الاسم حتى نهاية الصراع رغم سيطرة القوات البريطانية عليها، بعد ذلك أصبحت تحت حكم الإدارة البريطانية لغاية عام 1949، ثم تحت وصاية الأمم المتحدة، وسميت بإقليم الصومال الإيطالي. في يوم 1 يوليو عام 1960، اتحد إقليم الصومال الإيطالي التابع للأمم المتحدة، مع الصومال البريطاني، وأُعلن الاستقلال، وتشكلت جمهورية الصومال الحالية.

بعد الحرب العالمية الثانية قدمت القوى الاستعمارية الغربية إريتريا غنيمة لإثيوپيا. زعمت إثيوپيا أن هذه البلاد جزءاً منها. تحققت أمنيات إثيوبيا بعدما ضمت الجمعية العامة للأمم المتحدة إريتريا كمقاطعة إلى إثيوبيا في أوائل 1950.

ثار الشعب الإريتري وخاض الحرب لمدة 30 سنة من 1 سبتمبر 1961 حتى 29 مايو 1991 وانتهت باستقلاله وبناء دولته. في هذه الأثناء حاولت جمهورية الصومال استعادة السيطرة على اقليم أوغادين.

أوغادين اسم يطلق في بعض الكتابات بحسب التسمية الاستعمارية على الصومال الغربي، ويعرف بالإقليم الخامس بحسب التقسيم الإداري الإثيوبي، وقد ضم إلى إثيوبيا منذ عام 1954.

ولكلمة "أوغادين" مدلولان: أحدهما جغرافي وآخر عشائري، إذ يشير المدلول العشائري إلى عشيرة أوغادين، وهي غير مرتبطة بالحدود الجغرافية، فنجدها موزعة بين كل من إثيوبيا وكينيا والصومال.

أما المدلول الجغرافي فلا يدل على الإقليم الصومالي الإثيوبي بأكمله، بل يشير إلى الجزء الذي تقطنه عشيرة أوغادين في الإقليم الصومالي من إثيوبيا.

شهد إقليم أوغادين الكثير من التوترات السياسية بين الحكومات الصومالية والإثيوبية كما شهد أعنف الحروب عام 1977 عندما حمل سكان الإقليم السلاح تحت قيادة "جبهة تحرير الصومال الغربي" في وجه الجيش الإثيوبي، بعد سقوط الإمبراطور هيلا سيلاسي، بدعم من نظام الرئيس الصومالي محمد سياد بري.

وسيطر مسلحو الجبهة والجيش الصومالي على معظم الإقليم، غير أن إثيوبيا في عهد الرئيس منغستو هيلا ماريام وبدعم من كوبا والاتحاد السوفياتي، قامت عام 1978 باستعادة السيطرة على الإقليم وهزمت الجيش الصومالي، كما دعمت في الوقت نفسه مسلحي أرض الصومال المنتمين إلى الحركة الوطنية الصومالية وسمحت لهم بإقامة معسكرات على أراضي تحت سيطرتها.

ادت هزيمة الصومال في المعركة ضد اثيوبيا إلى اضطرابات داخلية استغلتها وأججتها قوى أجنبية مما اسفر عن تمزيق الصومال بين أمراء الحرب وفتح الباب للتدخل العسكري الأمريكي ثم الفوضى والدولة الفاشلة.

ساسة اثيوبيا المتعاقبين في السلطة بدلوا تحالفاتهم على مر السنين فمن الكرملين إلى واشنطن مرورا بعلاقات قوية مع كل من تل أبيب وأنقرة.

 

الحرب الوجودية

 

جاء في تقرير لوكالة الأنباء الفرنسية يوم 4 نوفمبر 2021: أعلنت الحكومة الإثيوبية الخميس أنها أوشكت على الانتصار في حربها المستمرة منذ عام ضد جبهة تحرير شعب تيغراي، وتعهدت مواصلة القتال، في رفض واضح للدعوات الدولية لوقف إطلاق النار.

بعد سنة يوما بيوم على إرسال الجيش الفدرالي إلى إقليم تيغراي في أقصى شمال إثيوبيا، قلب المتمردون في جبهة تحرير شعب تيغراي الوضع وأكدوا أنهم باتوا على مسافة مئات الكيلومترات من أديس أبابا.

وأعلن المتمردون خلال عطلة نهاية الأسبوع سيطرتهم على مدن إستراتيجية عدة في أمهرة حيث حققوا تقدما بعدما استولوا على كامل مناطق إقليم تيغراي في يونيو. وأكدوا الأربعاء 3 نوفمبر أنهم سيطروا على بلدة كيميسي على مسافة 325 كيلومترا شمال العاصمة الإثيوبية.

وقال ناطق باسم جبهة تحرير شعب تيغراي إن متمردي تيغراي انضموا إلى مقاتلي جيش تحرير أورومو وهي مجموعة متمردة تابعة لاتينة أورومو وتحالفوا معهم. وقال ناطق باسم جيش تحرير أورومو إن اديس أبابا قد تسقط في غضون أسابيع.

وكتب مكتب اتصالات الحكومة الاثيوبية على فيسبوك بعد تقدم المتمردين نحو العاصمة أن "هذه ليست دولة تنهار تحت الدعاية الأجنبية نحن نخوض حربا وجودية".

وجاء في بيان الحكومة "جرذ يبتعد عن جحره أصبح أقرب إلى الموت" في إشارة على ما يبدو إلى هجمات جبهة تحرير شعب تيغراي التي تقدمت بشكل كبير إلى ما وراء منطقة تيغراي الواقعة في أقصى الشمال في الأشهر الأخيرة.

وأضاف "شعبنا الذي يدرك أننا في الفصل الأخير من إنقاذ اثيوبيا، يجب ان يواصل نضاله البطولي".

وإثيوبيا ثاني أكبر دولة في إفريقيا من حيث عدد السكان "أكثر من 110 ملايين نسمة" هي عبارة عن مجموعة مختلفة من الشعوب المتحدة في نظام يعرف باسم "الفدرالية الإتنية".

 

مرحلة خطيرة

 

في هذه الأثناء وافق البرلمان الأثيوبي في وقت سابق الخميس على حال طوارئ مدتها ستة أشهر قد تمكن المسؤولين من تجنيد "أي مواطن في سن التجنيد لديه أسلحة"، فيما طلبت سلطات العاصمة من سكانها تنظيم صفوفهم للدفاع عن المدينة.

ولا يزال منشور لأبيي أحمد وجهه يوم الأربعاء ويتوعد فيه "بدفن العدو بدمنا وعظامنا وبرفع عزة الإثيوبيين" متوافرا عبر الانترنت رغم الاستنكار الدولي.

وقال كبير المحللين في الشؤون الإثيوبية في مجموعة الأزمات الدولية وليام دايفيسون "بعد عام من الحرب، وصل الصراع الإثيوبي إلى مرحلة خطيرة جدا، ولم يظهر أي طرف بوادر تراجع".

وكان الرئيس الأثيوبي أبيي أحمد قد أعلن الانتصار في 28 نوفمبر 2020 بعدما أوفد جيشه إلى إقليم تيغراي لإطاحة السلطات المنشقة المنبثقة عن جبهة تحرير شعب تيغراي بعدما اتهمها بمهاجمة قواعد عسكرية فدرالية.

لكن في يونيو 2021، استعاد مقاتلون موالون للجبهة الجزء الأكبر من المنطقة وواصلوا هجومهم في إقليمي عفر وأمهرة المجاورين.

وتؤكد الأمم المتحدة أن أكثر من 400 ألف شخص باتوا على شفير المجاعة في تيغراي الخاضع لحصار "بحكم الأمر الواقع".

وتتبادل الحكومة وجبهة تحرير شعب تيغراي الاتهامات بعرقلة نقل المساعدات وبتجويع السكان.

 

أي مصير ينتظر إثيوبيا ؟ 

 

أفاد تحليل نشرته مجلة فورين أفيرز الأمريكية بداية شهر نوفمبر 2021: أن ما يحدث في إثيوبيا يثير تساؤلات حول قدرة رئيس الوزراء آبي أحمد على الحكم، وربما وجود الدولة الإثيوبية في شكلها الحالي.

وكان النزاع بشأن تيغراي قد عاد للاشتعال، عندما أمر آبي أحمد بشن هجوم على قوات متمردين التيغراي شمال البلاد، وهوما أدى إلى حرب أودت بحياة الآلاف وشردت أكثر من 1.7 مليون شخص.

وخلال المعارك منيت القوات الإثيوبية بخسائر "تركت العاصمة أديس أبابا مفتوحة لأي هجوم" وهو ما أجبر آبي أحمد على إعلان "حالة الطوارئ" ودعا السكان لحمل السلاح للدفاع عن المدينة.

وبعد نحو عام على المعارك، لا يزال رئيس الوزراء الإثيوبي يواجه تحديا كبيرا في السيطرة على تيغراي، وهو ما ولد تساؤلات كثيرة حول "قدرته على الحكم".

المحلل السياسي، ريتشار هارتسورن قال لفورين أفيرز " إن قابلية أي دولة للبقاء تعتمد على ما إذا كانت القوى المركزية تفوق القوى الانفصالية، حيث تستطيع الجهة المركزية توفير البنية التحتية وتقديم الخدمات، والحفاظ على الحدود بغض النظر عن الانقسامات العرقية أو الاجتماعية".

ويشير التحليل إلى أن التحدي الأساسي الذي يواجه آبي أحمد هو أن "القوى المركزية" لم تستطع ضم جميع القوى المنقسمة في البلاد، حيث لا يزال هناك إضافة إلى تيغراي حركات تمرد أخرى، مع ازدياد في التوترات العرقية والإقليمية، وانتشار خطاب الكراهية بين الجميع.

وأضاف أن "إثيوبيا أصبحت مصدرا لعدم الاستقرار" وكان الصراع في تيغراي الأكثر زعزعة للاستقرار، وما يواجهه آبي أحمد حاليا هو جيش هائل من المتمردين، يسعى إلى إجراء استفتاء لتحديد مستقبل تيغراي والحصول على الحكم الذاتي.

وزاد خطورة النزاع في تيغراي أنه أتاح لكلا الجانبين تأطير الصراع من منظور عرقي، وهو ما زاد من مخاطر انتشار العنف العرقي.

وحذر التحليل من اجتذاب الصراع في إثيوبيا إلى تدخلات من قوى أجنبية بما في ذلك الصين ومصر وإرتيريا والسودان وتركيا والإمارات والولايات المتحدة، وهو ما قد يزيد من مخاطر حدوث صراعات وحروب بالوكالة بين قوى إقليمية متنافسة عالميا.

ويوضح التحليل أن غياب "رؤية موحدة لكيفية إعادة بناء البلاد، يعني أن مستقبل إثيوبيا في خطر"، وأن الطريق الوحيد لبقاء إثيوبيا عكس ما رسمه آبي أحمد من كونفدرالية فضفاضة، وأنه في حال إعطاء حكم ذاتي لتيغراي فإن هذا قد يعني امتداده للمجتمعات الأخرى الأكبر في البلاد لتطالب بالشيء ذاته.

وقد يكون التحرك نحو اتحاد فيدرالي أكثر مرونة أمرا حتميا في إثيوبيا، ولكنه سيؤدي بالضرورة إلى المزيد من محاولات الانفصال وبالتالي نهاية البلاد "كما يعرفها الإثيوبيون"، وهو ما قد يرفضه آبي أحمد حتى لا يراه التاريخ باعتباره الرجل الذي مزق إثيوبيا.

وحتى مع النصر العسكري لأي من الجانبين، فإن هذا الأمر لا يعني استقرار إثيوبيا، وأحمد ليس بأول زعيم للبلاد يحاول حل التناقضات الداخلية للبلاد، فعلى مدار القرن الماضي لم تستطع البلاد التوصل إلى صيغة قابلة بهوية وطنية موحدة.

وأعلنت مؤخرا تسع جماعات إثيوبية متمردة، من بينها جبهة تحرير شعب تيغراي، تشكيل تحالف ضد الحكومة الفيدرالية، عقب التصعيد المتزايد في الأيام الأخيرة بعد تهديد مقاتلين موالين للجبهة بالزحف نحو العاصمة أديس أبابا.

وتخوض الحكومة الفيدرالية حربا منذ أكثر من عام في شمال البلاد ضد مقاتلين من جبهة تحرير شعب تيغراي الذين تقدموا في الأشهر الأخيرة إلى ما وراء منطقتهم خصوصا في منطقة أمهرة المجاورة، وفق وكالة فرانس برس.

وكانت جبهة تحرير شعب تيغراي قد شكلت تحالفا مع مجموعات إتنية وجغرافية أخرى أواخر الثمانينات، قبل الإطاحة بالحاكم منغيستو هايلي مريم في العام 1991.

وهذا التحالف الذي عرف بالجبهة الديمقراطية الثورية للشعب الإثيوبي والذي هيمنت عليه إلى حد كبير جبهة تحرير شعب تيغراي، حكم البلاد بعد ذلك لنحو 30 عاما، قبل قيام حركة احتجاجية أوصلت آبي أحمد إلى السلطة في العام 2018.

وبعدما أصبح رئيسا للوزراء، قام آبي أحمد باستبعاد الجبهة تدريجا من السلطة في أديس أبابا.

وكان آبي أحمد الحائز على جائزة نوبل للسلام في العام 2019 لدوره في عقد صلح مع اريتريا، قد أعلن الانتصار في 28 نوفمبر 2020 بعدما أرسل جيشه إلى إقليم تيغراي للإطاحة بالسلطات المنشقة المنبثقة من جبهة تحرير شعب تيغراي بعدما اتهمها بمهاجمة قواعد عسكرية فدرالية.

 

المثال اليوغوسلافي

 

نشر موقع "بوليتيكو" الأمريكي، يوم الأحد 17 أكتوبر 2021، مقالا بعنوان "إثيوبيا تغرق في الفوضى" تناول فيه كاتبان تصعيد الحرب الأهلية في إثيوبيا وتداعياتها التي قد تصل إلى تفكك أديس أبابا مثل يوغوسلافيا.

كتب المقال كل من "أليكس روندوس" الذي عمل حتى يوليو 2021 كممثل خاص للاتحاد الأوروبي في القرن الأفريقي، و"مارك ميديش"، العضو في فريق تنفيذ اتفاقية دايتون للسلام وفي وزارة الخزانة الأمريكية ومجلس الأمن القومي الأمريكي في إدارة بيل كلينتون. 

ذكر الكاتبان أن إثيوبيا تقف على شفا تصعيد الحرب الأهلية وفشل الدولة، بعد أن اشتد القتال بشكل كبير، حيث شنت القوات الإثيوبية ضربات قوية على المتمردين من إقليم تيغراي، مشيرين إلى أن الوقت لتفادي الانزلاق إلى الفوضى بدأ ينفد.

أشارا إلى أن هذا هو الوقت المناسب للتحضير لعمل دولي لمنع المزيد من الفوضى، وتركيز الدبلوماسية على تسوية شاملة، واقترحا عملية سلام على غرار عملية "دايتون" مع مشاركة بقيادة الولايات المتحدة والدول المجاورة.

وأضافا أن العقوبات على الحكومة الإثيوبية ستولد ضغطا لكنهليس كافيا، كما أن التدخل العسكري أو الاحتلال ليس خيارافي بلد ضعف حجم أفغانستان، والذي ينزلق بالفعل إلى حرب أهلية، وهو ما يعني ضرورة الاستعانة بالطرق الدبلوماسية والوساطة، على نطاق لم يحدث منذ عملية السلام في دايتون عام 1995 لإنهاء الحرب الدموية في البوسنة.

كانت عملية "دايتون" نموذجا لكيفية جلب الأحزاب العرقية المتحاربة إلى طاولة المفاوضات من خلال الجهود الدبلوماسية المكثفة والمنسقة من جانب الوسطاء النزيهين، تطلبت مشاركة ثابتة من أعلى المستويات في الحكومة الأمريكية بما في ذلك الرئيس ومستشار الأمن القومي ووزيرة الخارجية وكبير المفاوضين مثل السفير الراحل ريتشارد هولبروك.

 

تداعيات تفكك إثيوبيا

 

أشارا الكاتبان في بحثهما إلى أن أزمة إثيوبيا عام 2021 تختلف عن البوسنة في عام 1995، وأضافا أنه إذا لم يكن هناك حل سريع وعاجل، فيمكن لإثيوبيا أن تتفكك مثل يوغوسلافيا - مع تداعيات أكثر خطورة بكثير.

وزعما أن تداعيات انهيار إثيوبيا ستكون مدمرة لمنطقة القرن الأفريقي بأكملها وما وراءها، حيث تقع إثيوبيا في المركز الاستراتيجي للقرن، وتحيط بها السودان وجنوب السودان وإريتريا وجيبوتي وأرض الصومال والصومال وكينيا.

قد يؤثر عدم الاستقرار في إثيوبيا على الطرق البحرية عبر البحر الأحمر، وسيؤدي إلى تدفقات اللاجئين كما سيتم استغلال الفوضى من قبل الجماعات المسلحة مثل حركة الشباب الصوماليةوالجماعات الأخرى التابعة للقاعدة التي تريد بسط قبضتها على المنطقة. 

الحصار الذي تفرضه الحكومة الإثيوبية على تيغراي يحول تلك المنطقة إلى جيتو جديد في القرن الحادي والعشرين. 

في أواخر عام 2020، قيدت إثيوبيا تدفق المساعدات الإنسانية، في انتهاك صارخ للقانون الدولي، وقطعت جميع الخدمات المصرفية والكهرباء والاتصالات عن الإقليم.

كما أطلق رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد العنان لمجاعة، فهو اليوم يقرر من يجوع ومن لا يجوع. بالإضافة إلى ارتكاب فظائع عرقية في المقام الأول ضد تيغراي، فضلا عن أن الأورومو والأمهرة والمجموعات العرقية الأخرى معرضة لخطر جسيم أيضا. 

واختتما المقال محذرين من أنه إذا لم يتم وقف الحرب الأهلية في إثيوبيا، فإن العواقب يمكن التنبؤ بها، بيد أن العالم شهد أشكالا مختلفة من هذا الكابوس من قبل في: رواندا، البوسنة، كوسوفو، ليبيا، سوريا، أفغانستان، ميانمار.

 

الوضع العسكري

 

في أغسطس 2021، فتح متمردو التيغراي عدة جبهات قتال شرقا وغربا وجنوبا، لكن الهجوم المعاكس للجيش الاتحادي أوقف زحفهم، بل واستعاد مناطق واسعة في إقليم العفر، وأجبرهم على التراجع بعيدا عن مدينتي غوندار وبحر دار، بل وكاد الجيش الاتحادي أن يستعيد لالبيلا.

وفي أكتوبر، استغل الجيش الإثيوبي هيمنته على سماء المعركة دون منازع، لتوجيه غارات جوية على "القواعد الخلفية" للمتمردين في إقليم تيغراي.

كما شدد حصاره على الإقليم، الذي يقطنه نحو 4.96 مليوننسمة، يوجدون على حافة المجاعة، بحسب تقارير لمنظمات إنسانية.

وفي محاولة لكسر الحصار، ونقل المعركة إلى الطرف الآخر، ركز متمردو التيغراي هجومهم على الجبهة الجنوبية، بدل القتال على جبهات متعددة، فسيطروا في 17 أكتوبر على بلدة "ووشال"، وتساقطت في طريقهم إلى ديسي عدة بلدات وقرى صغيرة.

ومع نهاية أكتوبر، وصل المتمردون إلى مشارف ديسي، وخاضوا معارك ضارية مع القوات الاتحادية والمليشيات الأمهرية، أخذت طابع الكر والفر، واستمات الطرفان للسيطرة عليها.

وتضاربت الأنباء بين تأكيد المتمردين سيطرتهم على ديسي ونفي حكومي، إلا أنه في 2 نوفمبر، تأكد سقوط ديسي، خاصة بعد إعلان الحكومة قتل المتمردين لـ100 مجند في كومبولشا، ما يعني اعترافا ضمنيا بسقوط ديسي.

ومع التحام متمردي التيغراي مع حلفائهم من الأورومو، فإن الهدف المقبل سيكون فتح الطريق الدولي مع جيبوتي وإبعاد قوات أديس أبابا عنه، للسماح بوصول المساعدات الإنسانية من الخارج إلى الإقليم.

كما لم يخف متمردو الأورومو رغبتهم في السيطرة على أديس أبابا "خلال أشهر إن لم تكن أسابيع"، بحسب أودا طربي، الناطق باسم جيش تحرير أورومو.

وخلال هذه الفترة من المتوقع أن يسعى تحالف التمرد لتطويق العاصمة من الشمال والشرق ومن الغرب أيضا حيث توجد معاقل ممزقة لمتمردي جيش أورومو، لكنها الأقرب إلى أديس أبابا.

إذ لم يعد يفصل متمردي التيغراي والأورومو عن أديس أبابا، سوى مدينة ديبري برهان "58 ألف نسمة" وبعض البلدات الصغيرة مثل ديبري سينا، التي قد تعد الهدف المقبل للمتمردين.

 

البحث عن دعم خارجي

 

توجد حكومة آبي أحمد في وضع جد حرج أمام زحف تحالف متمردي التيغراي نحو العاصمة والتحامهم مع جيش تحرير أورومو.

وليس من المستبعد أن تلجأ أديس أبابا للتحالف مجددا مع إريتريا، لشن هجوم مضاد من الشمال على إقليم تيغراي، لدفع المتمردين إلى التراجع للخلف والدفاع عن عاصمتهم ميقلي، ولكن هذا الاحتمال مستبعد في الظروف الحالية لأسباب متنوعة.

في نوفمبر 2020 لعب الجيش الإريتري، دورا مهما في سقوط إقليم التيغراي سريعا، في يد القوات الحكومية وبأقل الخسائر، لكنه اليوم يقف موقف المتفرج، ما سمح لمتمردي التيغراي بالزحف جنوبا.

السيناريو الآخر، أن تستعين أديس أبابا بمرتزقة أجانب، على غرار السوريين في ليبيا والخبراء والجنود الأتراك والإسرائيليين، وهو ما لمح إليه آبي أحمد، وإن كان يرفضه علنا، حيث قال إن أعداء بلاده "يحاولون فرض سيناريو عليه مماثل لذلك الذي مرت به سوريا وليبيا".

إلا أن آبي أحمد قد يجد نفسه في مرحلة ما مضطرا للخيار بين اللجوء إلى الاستعانة بمرتزقة أجانب، أو إقامة تحالفات مع دول الجوار وحتى دول إقليمية لوقف تقدم المتمردين، وإما الجلوس إلى طاولة الحوار مع المتمردين، وحينها سيكون مجبرا على تقديم تنازلات مؤلمة للوصول إلى السلام.

صحيفة الغارديان البريطانية كتبت:

يبدو أن رئيس وزراء إثيوبيا يسعى إلى الاستفادة من تحالفه مع تركيا، عبر شراء طائرات بدون طيار، تصنعها أنقرة، لمعاونته في الحرب الحالية. في أغسطس، وقع رئيس الوزراء الإثيوبي، اتفاقية تعاون عسكري مع تركيا، خلال زيارته أنقرة، إلا أن تفاصيل ذلك الاتفاق لم تنشر للعلن.

المدير العام لجهاز الأمن والمخابرات الوطني الإثيوبي المعروف اختصاراً بـ "NISS"، اللواء تمسجن طرونه صرح أن الجيش الإثيوبي يبني قاعدة عسكرية للطائرات المسيرة على بعد حوالي عشرة كيلومترات من وسط أديس أبابا، مشيرا إلى أنها مخصصة للمراقبة والاستخدام التكتيكي، في مركز تدريب واستخبارات تابع للوكالة، التي يعد رئيس الوزراء آبي أحمد أحد مؤسسيها في عام 2006.

يذكر أنه في 6 سبتمبر 2021 صرح مسؤول إسرائيلي إن التعاون بين بلاده وإثيوبيا في الشؤون العسكرية والدفاعية يحظى بالاهتمام الواجب على جميع المستويات.

وذكر الملحق العسكري للجيش الإسرائيلي في أفريقيا، العقيد أفييزر سيغال، خلال لقاء مع السفير الإثيوبي في إسرائيل، ريتا أليمو، إن إثيوبيا هي إحدى الدول التي تربطها علاقات تاريخية قوية مع إسرائيل، وفقا لوكالة الأنباء الإثيوبية.

يشار إلى أنه في شهر مارس 2021، أعلنت إثيوبيا وإسرائيل توقيعهما اتفاقية للتعاون الاستراتيجي لتعزيز التعاون في مجال النقل الجوي.

تركيا التي تخوض مواجهة مع مصر على عدة ساحات منها ليبيا والصومال، تجد في أثيوبيا موقعا جيدا للضغط على القاهرة خاصة عبر سد النهضة وهي هنا في تحالف واضح مع إسرائيل.

في 18 أغسطس 2021 زار رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد العاصمة التركية أنقرة، ووقع مع الرئيس رجب طيب أردوغان اتفاقيات للتعاون شملت مجالات التنمية والدفاع العسكري والمياه والعلوم. ويتمتع البلدان بعلاقات جيدة منذ التسعينيات، وهي قائمة بشكل أساسي على التعاون الاقتصادي والتجاري. فبحسب التقارير الحكومية الإثيوبية، تعد تركيا ثاني أكبر مستثمر في البلاد بعد الصين، حيث تصل الاستثمارات التركية إلى حوالي 2.5 مليار دولار، وهناك حوالي 230 شركة تركية في إثيوبيا معظمها يعمل في قطاع المنسوجات، في حين بلغ حجم التجارة بين البلدين 650 مليون دولار بحلول عام 2020.

وإلى جانب العلاقات الاقتصادية والتجارية الكبيرة بين البلدين، حملت زيارة أحمد الأخيرة إلى أنقرة دلالات مهمة من ناحية التوقيت، فبالنظر إلى الأزمات الداخلية والإقليمية التي تواجهها إثيوبيا مؤخرا، سواء في الصراع المسلح في إقليم تيغراي أو الأزمة الحدودية مع السودان، وكذلك استمرار الخلاف حول سد النهضة مع مصر والسودان، ثمة احتمال أن يتبلور دور تركي علني أكثر وضوحا تجاه بعض هذه الأزمات لترجيح الكفة التي تخدم أهداف أنقرة.

وعلى الرغم من تصريح تركيا بأنها تدعم الحل السلمي لنزاع تيغراي، إلا أن الاتفاق الجديد مع حكومة آبي أحمد يهدف على الأرجح إلى نقل التكنولوجيا العسكرية التركية إلى أسواق جديدة. وفي الجهة الأخرى، سيمكن حصول أديس أبابا هذه الطائرات حسب أنصار تركيا ليس فقط من تغيير قواعد الصراع بين الحكومة الفيدرالية وجبهة تحرير شعب تيغراي بالكامل، وإنما إخماد الجبهات الداخلية المتمردة كلها.

ومع ذلك، يبقى الرهان على حسم الصراعات الإثيوبية الداخلية بالقوة العسكرية محفوفا بالمخاطر، وقد يقود اتساع دائرة الصراعات إلى دخول البلاد في حرب أهلية مفتوحة، وهو ما رجحت احتماليته في الأسابيع الماضية من خلال تمدد الحرب في إقليم أمهرا وبني شنقول وإقليم العفر. وقد ينذر هذا الأمر في حال استمراره بانهيار الدولة الإثيوبية، وهو سيناريو كارثي يحمل عواقب وخيمة ليس لدول شرق أفريقيا فقط، بل ستمتد تبعاته السلبية والإيجابية على منطقة الشرق الأوسط برمتها، وذلك على أساس أن هناك أطراف متعادية ومتصارعة فيها طرف سيكون خاسرا وآخر سيكون رابحا.

صحيفة نيويورك تايمز ذكرت بداية شهر نوفمبر إن القادة الأفارقة الذين كانوا مترددين سابقا في التورط في الصراع الإثيوبي، أعربوا الآن عن قلقهم علانية من احتمال حدوث انهيار شامل في ثاني أكبر دولة في أفريقيا من حيث عدد السكان.

وأعلن الرئيس الأوغندي يوويري موسيفيني عقد اجتماع لدول تكتل شرق أفريقيا، في 16 نوفمبر، لبحث الصراع. بينما أصدر الرئيس الكيني أوهورو كينياتا بيانا، يوم الأربعاء 3 نوفمبر، قال فيه: "القتال يجب أن يتوقف"، داعيا الأطراف المتحاربة إلى "إلقاء السلاح ووقف القتال وإجراء محادثات وإيجاد سبيل لسلام دائم".

 

الأمل يتلاشى

 

نشرت صحيفة الإندبندنت أونلاين تقريرا لبورزو داراغاهي المراسل الدولي بعنوان “غارق في أزمة بعد أزمة، الأمل يتلاشى في القرن الأفريقي”.

يقول الكاتب إنه “وعلى الرغم من أن الصراعات في منطقة القرن الأفريقي ليست مرتبطة ببعضها بشكل مباشر، إلا أنها مدفوعة جميعا بعوامل مشتركة، بما في ذلك الضرر المستمر لوباء فيروس كورونا، الذي أدى إلى تفاقم الاستقطاب السياسي وتفاقم اليأس الاقتصادي”.

وبحسب رافاييلو بانتوتشي، الباحث في المعهد الملكي للخدمات المتحدة للدراسات الدفاعية والأمنية “لديك بيئة توقف فيها العالم عن بذل جهود مركزة في محاولة إدارة الموقف وحله .. وهناك قوى خارجية، مثل تركيا أو روسيا، تأتي وتلعب دورا”.

ويرى الكاتب أن “الأزمة الأكثر إلحاحا هي في إثيوبيا، حيث تستعد حكومة آبي أحمد لمواجهة هجوم متمردي تيغراي الشماليين وجيش تحرير أورومو المتحالف معهم.. والهدف هو العاصمة أديس أبابا، والتي تغطي منطقة يبلغ عدد سكانها 5 ملايين نسمة وتعد واحدة من أهم مدن أفريقيا. وأديس أبابا هي المقر الرئيسي للاتحاد الأفريقي، ومركز النقل الرئيسي لشرق القارة، وموقع العديد من المنظمات الدولية”.

أما كاميرون هدسون، المحلل السابق في وكالة المخابرات المركزية فيقول إن “فكرة خوض معارك في الشوارع أمر لا يمكن تصوره”.

ويعتبر الكاتب أن “أزمة إثيوبيا، التي بدأت قبل عام عندما شن أبي أحمد ما كان من المفترض أن يكون هجوما سريعا ضد متمردي تيغراي، اجتذب أيضا إريتريا، التي تدعم حكومة أديس أبابا”.

ويشير الكاتب إلى أن”الأمم المتحدة حذرت مؤخرا من أزمة إنسانية هائلة في إثيوبيا، حيث يواجه أكثر من 400 ألف شخص ظروفا شبيهة بالمجاعة”.

ويذكر الكاتب أنه “في كل من السودان وإثيوبيا، أدى التغيير السياسي الهائل في السنوات الأخيرة إلى فترات انتقالية دقيقة تتطلب قيادة بارعة.. لكن آبي أبدى اهتماما كبيرا بتكوين بيئة سياسية شاملة”.

ويقول أحمد سليمان، المتخصص في شؤون إفريقيا في تشاتام هاوس “ما حدث هو تحول الأسر الحاكمة .. لقد ظهرت أنظمة سياسية جديدة. لديك تحولات هشة للغاية”.

أما هدسون، الذي تقاعد من وكالة المخابرات المركزية في عام 2012، فيصف الأزمة في القرن الأفريقي بأنها “رد فعل متأخر على ابتعاد الولايات المتحدة عن أفريقيا الذي بدأ في عهد الرئيس ترمب، والذي أعطت تحركاته الضوء الأخضر لكل من المستبدين المحتملين والقوى الإقليمية التي تسعى لملء الفراغ، بما في ذلك روسيا وتركيا والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية ومصر”.

ويلفت سليمان إلى أن “القوى التي يعمل معها الغرب على الأرض هي التي ترغب في أن تكون سلطوية تماما”.

ويوضح الكاتب أن “توابع الأزمات ستجعل من الصعب على المنطقة العودة إلى الحياة الطبيعية، أو أي شيء يشبه الحياة الطبيعية”.

 

عمر نجيب

[email protected]