متاهات فرضية الانسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط.... معركة واشنطن وبكين تحسم في المنطقة المركز

ثلاثاء, 2021-11-02 18:04

هل تنسحب الولايات المتحدة من الشرق الأوسط في نطاق تحويل مركز ثقل قوتها في المواجهة على رقعة شطرنج تنافس القوى الكبرى، إلى المحيط الهادي وشرق آسيا ؟. سؤال يطرح بشكل متكرر خاصة منذ التراجع الأمريكي العسكري والسياسي الفوضوي من أفغانستان المكتمل بتاريخ 30 أغسطس 2021 والذي اعترف قادة القوات الأمريكية أمام الكونغرس الأمريكي بأنه "فشل استراتيجي''.

المنطقة الشرق أوسطية تحتل موقعا مركزيا جغرافيا واقتصاديا من حيث الأهمية في خارطة الصراعات الدولية، ورغم كل الجدل الدائر حول تراجع قيمتها، وفي انتظار تحقق تطلع البعض للإستغناء عن البترول كمحرك للإقتصاد العالمي ستبقى المنطقة على أهميتها.

حسب التقديرات تبلغ الكميات المتبقية من احتياطي النفط العالمي بدءا من 2018، تبقى للعالم 1.497 تريليون برميل حيث تملك الدول الأعضاء بأوبك حوالي 79.4 في المئة من احتياطي النفط، من بينها 64.5 في المئة بمنطقة الشرق الأوسط.

هناك خلاف بين المحللين والسياسيين فيما يخص الجواب على السؤال السابق، البعض يرى أن واشنطن ومن أجل تسهيل نقل الموارد لتلبية الأولويات الأمريكية الأكثر إلحاحا على صعيد المنطقة والعالم ستنسحب عسكريا بشكل شبه كامل من منطقة الشرق الأوسط وستترك لحلفائها أساسا إسرائيل وتركيا وبعض الدول الأوروبية مهمة منع سيطرة قوى معادية للغرب أساسا روسيا والصين، آخرون يرون أن واشنطن ستخفض فقط وجودها العسكري في الشرق الأوسط وستحتفظ بقوة عسكرية متوسطة ما بين 6500 و 12000 ألف جندي في كل من قاعدة إنجرليك العسكرية في تركيا والعيديد في قطر بينما سيكون وجودها العسكري في جيبوتي في حدود 1300 جندي، وينضاف إلى هؤلاء قوات الأسطول الأمريكي الخامس الذي توجد قاعدته في مملكة البحرين، ويرى قادة البنتاغون أن تلك القوات إضافة إلى تلك الموجودة في دول أخرى بالمنطقة بشكل مؤقت أو دائم، كافية لإتمام المهام الموكولة لها من طرف البيت الأبيض.

وطبقا لأنصار هذا التوجه فإن واشنطن ستحث أو تفرض على الحكومات الصديقة لها في المنطقة الشرق أوسطية تحديث قواتها المسلحة وشراء مزيد من الأسلحة وإقامة نوع من التحالفات بينها لردع تمدد نفوذ روسيا والصين وإيران. ضمن أنصار هذا التصور من يؤكدون أن التلويح بإنسحاب أمريكي من الشرق الأوسط هو نوع من الإبتزاز السياسي لدول معينة وإمتحان في نفس الوقتلتوجهات وتكتيكات خصومها. 

واشنطن قامت كذلك بوضع تركيبة لحماية مصالحها ومواجهة خصومها حيث أصبحت إسرائيل الطرف رقم 21 في قائمة الدول التي تشملها عمليات القيادة المركزية الأمريكية "سنتكوم"، بعدما أعلن البنتاغون، الجمعة 15 يناير 2021، اعتزامه ضم إسرائيل إلى منطقة قيادتها المركزية في الشرق الأوسط.

ويشمل نطاق مسؤولية القيادة المركزية 20 دولة وهي أفغانستان، البحرين، جيبوتي، مصر، إريتريا، إثيوبيا، الأردن، إيران، العراق، كينيا، الكويت، عمان، باكستان، قطر، السعودية، الصومال، السودان، الإمارات، اليمن، سيشل.

ويقول أوديد بيركويتز، محلل الاستخبارات في مجموعة ماكس سيكوريتي الاستشارية للمخاطر، إن علاقات إسرائيل مع جيرانها "أجبرتها" على أن تكون تحت القيادة الأمريكية الأوروبية "إيكوم" طيلة السنوات الماضية، لكن الوضع تغير في الأعوام الأخيرة، خاصة سنة 2020.

على هذا الأساس وبالنظر إلى التجربة الأمريكية في أفغانستان سيكون من المنطقي التساؤل عما إذا كانت أحداث ما مستقبلية في منطقة الشرق الأوسط ستواجه واشنطن بتحديات كبيرة وتكلفة عالية تجبرها على التخلي عن بعض الحلفاء والتنازل عن بعض مواقع النفوذ خاصة إذا فرض عليها في نفس التوقيت مزيد من التقوقع والتحول إلى قوة عالمية غير مهيمنة أو مرتبة في قمة سلم القوة.

 

الأهمية الإستراتيجية

 

تمتد منطقة الشرق الأوسط من ناحية الشرق، من إيران والخليج العربي وجبال زاجروس، التي تطل على سهول دجلة والفرات حتى شواطئ المغرب وموريتانيا على المحيط الأطلسي في الغرب، ومن الشمال جبال طوروس وسواحل البحر المتوسط وتركيا وحافة هضبة الأناضول الجنوبية المطلة على العراق وسوريا، حتى شواطئ المحيط الهندي وأثيوبيا في الجنوب.

تمثل منطقة الشرق الأوسط، من حيث الموقع الجغرافي، امتدادا إقليميا ككتلة جغرافية واحدة تستند في الشرق على جبال زاجروس والخليج العربي، ومن الغرب المحيط الأطلسي، ومن ثم فهي نطاق إقليمي يتسم بالعمق الإستراتيجي. وهي كتلة جغرافية تقع بين دائرتي عرض 8 و 42 شمالا، وخطي طول 60 شرقا و 25 غربا، وتعد قلب العالم، فهي نطاق الأمن الجنوبي والجنوبي الشرق لأوروبا، وهي خط الحدود الرئيس الذي يجب أن تعبره روسيا، للوصول إلى المياه الدافئة، كما أنها المنطقة الوسطي التي تفصل بين ما يسمى العالم المتقدم في الشمال والعالم النامي في الجنوب.

يزيد من أهمية الموقع الجغرافي أن كتلة اليابس الشرق أوسطية تحيطها وتخترقها العديد من المسطحات المائية ذات الأهمية الإستراتيجية، مثل المحيط الأطلسي غربا، والبحر المتوسط والبحر الأسود وبحر قزوين شمالا، وبحر عمان والمحيط الهندي شرقا وجنوب شرق. كما يخترقها البحر الأحمر والخليج العربي وخليج العقبة. ومن بين المسطحات المائية توجد العديد من المضايق والقنوات تمثل حلقات وصل إستراتيجية، مثل مضيق باب المندب ومضيق جبل طارق ومضيق البوسفور والدردنيل ومضيق باب المسندم "هرمز" ومضيق تيران وقناة السويس، وكلها منافذ بحرية إستراتيجية تربط حركة الملاحة الدولية والتجارة بين الشرق والغرب والشمال والجنوب.

تبلغ مساحة منطقة الشرق الأوسط نحو 17.5 مليون كلم مربع، ويحتل الوطن العربي مساحة 13.86 مليون كلم مربع بنسبة 79.2 في المئة من مساحة الشرق الأوسط، بينما تشغل الدول غير العربية نحو 3.63 مليون كلم مربع تقريبا بنسبة 20.8 من مساحة منطقة الشرق الأوسط.

 

أهداف واشنطن

 

في 7 يونيو 2021 قدم الجنرال كينيث ماكنزي، قائد القيادة المركزية الأمريكية عرضا حول سياسة واشنطن في منطقة الشرق الأوسط قال فيه:

"خلال زيارتي إلى سوريا، التقيت برجالنا ونسائنا الذين يساعدون قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، في مواصلة القتال ضد داعش. لقد سحقنا الخلافة، وما عادوا يسيطرون على أي بقعة من الأرض، لكننا لا نريد تخفيف الضغط الآن، إذ لا يزال لدى داعش طموح إلى إعادة السيطرة على الأراضي ونشر أيديولوجيتها العنيفة. ونحن نريد منع حدوث ذلك. ويبقى الهدف على المدى الطويل هو ضمان أن تتمكن قوات الأمن المحلية من الاستمرار في القيام بهذا العمل بدوننا.

وثمة أولوية أخرى وهي ردع أنشطة إيران المزعزعة للاستقرار، والتي تظل أكبر تهديد للاستقرار في الشرق الأوسط. أعتقد أن موقفنا في المنطقة كان له تأثير رادع على إيران وجعل من الصعب عليهم أن ينكروا دورهم في الأنشطة الخبيثة التي يقومون بها. ولقد أنجزنا ذلك من خلال وضعنا العسكري القوي الذي يشمل السفن والقوة الجوية وقدرات الدفاع الصاروخي الباليستي، وثمة إلى ذلك طبعا أشياء كثيرة نقوم بها بالتنسيق مع أصدقائنا في المنطقة، من شأنها أن تسهم في تحقيق هذه الغاية أيضا.

وباستثناء ذلك، من الواضح أن الصين وروسيا تسعيان إلى نفوذ أكبر وعلاقات أقوى مع دول المنطقة، حيث تحاول كلتا الدولتين استغلال أي تراجع محسوس في انخراط الولايات المتحدة لإقامة علاقات انتهازية وتعزيزها.

انخرطت الصين مع كل دولة تقريبا في المنطقة في عام 2020، مستخدمة الديون كفخ لاستغلال بعض البلدان، ومن خلال مبادرة الحزام والطريق، والدبلوماسية الطبية مع لقاحهم المشكوك في فعاليته، لمحاولة توسيع نفوذها.

كما أن لروسيا دور في إثارة المشاكل أيضا وبنفس القدر في المنطقة، وانخراطها في المنطقة يقوم غالبا على الانتهازية ويقوم إلى حد كبير على أساس المنفعة. وتسعى روسيا إلى إيجاد طرق لوضع نفسها كبديل للغرب من خلال عرض التوسط في النزاعات الإقليمية وبيع الأسلحة وتقديم الخبرة العسكرية والمشاركة في المنظمات الإقليمية والمتعددة الأطراف لتعزيز مصالحها. 

على الرغم من العديد من الصعوبات، لا تزال الولايات المتحدة في وضع جيد مع العديد من شركائها وحلفائها في المنطقة. ومن واقع خبرتي الشخصية، فإن كل دولة في المنطقة تقريبا لا تزال تعتبر الولايات المتحدة الشريك المفضل لها. هذا صحيح حتى بين دول آسيا الوسطى، حيث تتمتع روسيا والصين بميزة القرب من أجل دعم جهودهما لتوسيع نفوذهما".

يقف وراء تبنى الولايات المتحدة سياسة المنافسة الإستراتيجية رغبة مبدئية في إقناع الصين بعدم السعي نحو تهديد طبيعة النظام الدولي القائم والمكانة الأمريكية على قمته، أو إنهاكها وفرض قيود على تحولها إلى قوة تحويلية وتعديلية لهيكل النظام الدولي، وتشمل التحركات الأمريكية في هذا الإطار العمل على: استعادة التوازن الإستراتيجي بمنطقة غرب آسيا بتوجيه الموارد والقوات نحو الشرق الأقصى، وإبقاء المزايا الاقتصادية والتفوق التكنولوجي لصالح الولايات المتحدة، وأخيرا حشد التحالُفات لدعم القيم والمعايير التي ترعاها الولايات المتحدة.

 

أهمية قصوى

 

كشف بحث وضعه أنتوني هـ كوردسمان في مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية "CSIS" نشر في 19 أكتوبر 2021، عن أهمية منطقة الشرق الأوسط لواشنطن في مواجهتها مع الصين، جاء في التقرير:

أدى التحول في التركيز الاستراتيجي لأمريكا من محاربة الإرهاب في الشرق الأوسط – و “حروبها الطويلة” في أفغانستان وكذلك العراق وسوريا – إلى المنافسة مع الصين إلى مستوى متزايد من المواجهة والحروب المحتملة في تايوان وجنوب الصين، في الوقت نفسه، أدت الزيادات في إنتاج الغاز الطبيعي والنفط المحلي في الولايات المتحدة إلى اعتقاد الكثيرين أن الولايات المتحدة لديها حاجة أقل بكثير لضمان التدفق السلس لصادرات الطاقة من الخليج ومنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

هناك أسباب وجيهة لتحدي كلا المجموعتين من الافتراضات. لدى الولايات المتحدة كل الحافز لتجنب الحرب على تايوان وبحر الصين الجنوبي وكذلك لتجنب الاضطرار إلى مواجهة الصين إلى حد كبير في منطقة يمكن للصين فيها الاستفادة القصوى من قوتها العسكرية. تحتاج الولايات المتحدة إلى النظر إلى ما وراء منطقة شرق المحيط الهادئ والتعامل مع الصين على المستوى العالمي – والضغط عليها للتركيز على التعاون والمنافسة السلمية بدلا من المواجهة والصراع.

إن اعتماد الصين المتزايد على واردات البترول يجعلها أكثر عرضة بشكل مطرد لأي انقطاع أو حدود لتدفق الصادرات البترولية من الخليج العربي وعبر المحيط الهندي ومضيق ملقا. إن شراكات أمريكا الإستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا – لاسيما في الخليج العربي– وهشاشة حركة النقل البحري عبر المحيط الهندي ومضيق ملقا، تمنح الولايات المتحدة مصدرا رئيسيا للضغط الاستراتيجي الذي يمكن أن يعوض جزئيا عن المزايا الجغرافية التي تتمتع بها الصين بالقرب من تايوان وبحر الصين الجنوبي بالإضافة إلى توفير مصدر رئيسي للاستقرار والأمن لشركائها وضمان التدفق المستقر للنفط إلى اليابان وكوريا الجنوبية والاقتصاد العالمي. 

 

مسابقة المنطقة العالمية والبيضاء

 

يجب أن يكون لإستراتيجية أمريكا في التعامل مع ظهور الصين كمنافس نظير نفس التركيز الواسع مثل منافسة الصين مع الولايات المتحدة. إن توسع الصين كقوة عظمى، لا يقتصر على شرق المحيط الهادئ وتايوان وبحر الصين الجنوبي. تسعى الصين إلى التنافس مباشرة مع الولايات المتحدة في كل جانب من جوانب التطور العسكري والتكنولوجيا تقريبا. إنها تسعى إلى تطوير قدراتها الخاصة بإسقاط القوة العالمية، ولتوسيع نفوذها وسيطرتها في آسيا الوسطى والمحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسط ​​والخليج العربي ومنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وأوروبا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.

لا تفصل الصين بين جهودها العسكرية والمدنية، وبرامجها الاقتصادية “الحزام والطريق” إستراتيجية بطابعها – وهي مصممة لتكون شكلا من أشكال المنافسة “البيضاء” مع الولايات المتحدة. هي قدرات الصين المتزايدة لحرب المنطقة الرمادية ومستويات أعلى من الصراع.

بشكل عام، لا يمكن للولايات المتحدة أن تدع نفسها تنحصر في التركيز على مجالات المنافسة العسكرية المباشرة حيث تتمتع الصين بأكبر قدر من المزايا من حيث الجغرافيا الإستراتيجية والقدرة القتالية. قد تكون الولايات المتحدة قادرة أو لا تكون قادرة على تحدي الصين إلى أجل غير مسمى في محاولة لتأمين استقلال تايوان أو حرية الملاحة في بحر الصين الجنوبي، ولكن حتى اليوم، تجد الدراسات والمناورات الأمريكية أن الميزة الأمريكية السابقة قد تآكلت بشكل حاد وأنه يمكن للولايات المتحدة أن “تخسر” بعض سيناريوهات الحرب المحتملة.

إذا أرادت الولايات المتحدة ردع الصين بنجاح وإجبارها على التنافس السلمي والتعاون، فيجب على الولايات المتحدة التنافس على المستوى العالمي – مواجهة الصين بخطر المواجهة المحلية ستكون أكثر تكلفة من الناحية العالمية مما يستحق الانتصار. يجب أن تتطابق – أو تتفوق – على مزايا الصين من حيث القوى التعويضية في شرق المحيط الهادئ مع النفوذ الاستراتيجي للولايات المتحدة في مجالات أخرى وأن تفعل ذلك بالطريقة الصينية. 

هذا يعني استغلال كل ميزة رئيسية في المنافسة السياسية والاقتصادية مع الصين، وكذلك في المنافسة العسكرية. قد لا تكون منافسة "المنطقة البيضاء" هذه حربا بالمعنى الحرفي، ولكن – كما توضح كل من العقيدة الإستراتيجية الصينية الحالية وصن تزو – فإن أفضل طريقة لتحقيق النصر هي تجنب الحرب أو الحد منها. إن الاعتماد على الوسائل العسكرية ليس مكلفا فقط في الطرق التي لها فوائد مدنية ضئيلة فحسب، بل إنه يمثل مخاطر هائلة من حيث العبء الذي يضعه الإنفاق العسكري على الاقتصاد الوطني، وتكلفة أي صراع مسلح رئيسي للولايات المتحدة وشركائها الاستراتيجيين، والمخاطر – وإن كانت محدودة – بالتصعيد إلى حرب نووية.

 

الصادرات الخليجية

 

قد يكون اعتماد الولايات المتحدة المباشر على واردات النفط من منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا قد انخفض إلى النقطة التي أصبحت فيها الولايات المتحدة شبه مكتفية ذاتيا في البترول والغاز، لكن إدارة معلومات الطاقة الأمريكية "EIA" توضح أن فترة الولايات المتحدة ”الاستقلال“غير مؤكدة، ويعتمد الكثير على نجاح البرامج التي ستحل بها الطاقة المتجددة محل الوقود الأحفوري – البرامج التي أوضحتها أزمة الطاقة الحالية غير مؤكدة من حيث حجم الإنتاج والسعر.

لكن الأهم من وجهة النظر الإستراتيجية هو أن توقعات الطاقة العالمية التي يصدرها تقييم الأثر البيئي في تقرير آفاق الطاقة الدولي، الصادر في أكتوبر 2021، توضح أن الصين وآسيا ستعتمدان بشكل حاد على صادرات النفط في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والخليج، قد يمتد حتى عام 2050.

علاوة على ذلك، تظهر نفس التوقعات حدود الصادرات الروسية وغيرها من مصادر الصادرات. تمنح درجة تأثير الولايات المتحدة وشراكاتها الإستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا واشنطن ميزة إستراتيجية محتملة رئيسية – ميزة قد تكون أكثر أهمية من الناحية العملية من الجهد السابق لتأمين المصادر الرئيسية لصادرات النفط إلى الولايات المتحدة. 

كما يوضح تقييم الأثر البيئي في العمق – غير مؤكدة، ومستقبل الطاقة المختلفة ممكن حتى مع معرفة اليوم بموارد وتكنولوجيا الطاقة. ومع ذلك، فإن توقعات تقييم الأثر البيئي تسبق الأزمة الحالية في إمدادات الفحم الصينية بالإضافة إلى التخفيضات غير المتوقعة في الإنتاج من مصادر الطاقة المتجددة في أوروبا وبعض أوجه عدم اليقين في المستويات العالمية للطاقة الكهرومائية. 

حتى المراجعة المعيارية السريعة لبيانات تقييم الأثر البيئي توضح أنه من غير المرجح أن تكون توقعات تقييم الأثر البيئي حتى عام 2040 صحيحة على نطاق واسع في تقدير اعتماد الصين المتزايد على صادرات البترول في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ما لم يحدث اختراق تقني هائل حقا في إنتاج الطاقة من المصادر المتجددة أو شكل من أشكال الطاقة النووية.

تظهر توقعات تقييم الأثر البيئي أيضا أن المصدر الوحيد الموثوق به للصين لكثير من مستواها الحالي من الصادرات البترولية – والزيادات المستقبلية التي ستحتاجها – هو منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ستعتمد الصين – كما ستعتمد بقية آسيا – على مصدري الطاقة مثل الجزائر وليبيا ومصر وسوريا، وكذلك دول الخليج العربي – البحرين والكويت وعمان وقطر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة واليمن وإيران.

المصدرين الرئيسيين لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى آسيا هم دول الخليج العربي. إلى الحد الذي توجد به بيانات صلبة حول شيء يقترب من عام “عادي” أو ما قبل كوفيد – تقدر وكالة معلومات الطاقة أن إجمالي هذه البيانات بلغ حوالي 20.7 مليون برميل يوميا "MMBD" عبر مضيق هرمز في عام 2018، بالإضافة إلى 2.7 مليون برميل في اليوم مرت عبر خطوط الأنابيب من السعودية والإمارات إلى موانئ البحر الأحمر والمحيط الهندي. كان هذا إجمالي 23.4 مليون برميل في اليوم أو حوالي 37 في المئة من جميع الصادرات البحرية العالمية و 23 في المئة من إجمالي الاستهلاك العالمي من النفط الخام والمكثفات والمنتجات البترولية. كان المستهلكون الرئيسيون هم الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة و “آسيا الأخرى”، بالإضافة إلى استمرار التدفق المحدود إلى الولايات المتحدة.

 

طريق الحرير البحري

 

كان هذا التدفق جزءا من “طريق الحرير” البحري ذي الأهمية الإستراتيجية الحاسمة للصين، ليس فقط لتدفق الطاقة إلى الصين ولكن أيضا لتدفق الصادرات الصينية إلى آسيا والشرق الأوسط وأوروبا عبر قناة السويس. تدرك الصين بوضوح أهمية هذا الطريق، ليس فقط للتجارة العالمية ولكن للتجارة داخل آسيا ومنطقة المحيط الهندي. في الوقت نفسه تسعى بكين إلى تنويع مصادر وارداتها البترولية.

إن مستوى الاعتماد الصيني يجعل بالفعل أمن منطقة الخليج والسيطرة على الطرق البحرية المؤدية إلى آسيا من المصالح الإستراتيجية الحيوية للولايات المتحدة. نظرا لأهمية حرية الملاحة في بحر الصين الجنوبي وللحفاظ على استقلال تايوان، فإن القدرة العسكرية للسيطرة على الطرق البحرية غرب مضيق ملقا وفي المحيط الهندي أمر بالغ الأهمية للصين، وهي تقدم للولايات المتحدة ميزة كبيرة في القوة التعويضية بالنسبة للصين.

إن النمو الاقتصادي الصيني والآسيوي يعني زيادات هائلة في الطلب على الطاقة وتدفق الواردات من منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

ومع ذلك، ليس اعتماد الصين أو آسيا الحالي على واردات الطاقة هو ما يحدد الأهمية الإستراتيجية لصادرات منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والخليج. كما أشرنا سابقا، أصدرت وزارة الطاقة الأمريكية "DOE" للتو نسخة محدثة من توقعاتها الدولية للطاقة، وتتوقع زيادة هائلة في النمو الاقتصادي الآسيوي في كل من الصين والعديد من البلدان الأخرى و الدول الآسيوية. هذا الارتفاع أصغر بكثير بالنسبة للدول الآسيوية المتقدمة في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية مثل الشركاء الاستراتيجيين الرئيسيين لأمريكا، لكنه لافت للنظر في حالة الهند ومجموعة واسعة من الدول الأخرى – التي يعتمد الكثير منها على صادرات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

وبالنظر لارتفاع استهلاك الوقود السائل في الصين وآسيا. تتوقع ارتفاعا مستداما في الطلب الصيني حتى عام 2035 على الأقل وارتفاعا حادا في الطلب من الهند والدول الأخرى غير الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. وهذا يعني أنه إذا قامت الصين أو روسيا بإزاحة الولايات المتحدة عن نفوذها الاستراتيجي في منطقة الخليج والشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فسيؤدي ذلك إلى زيادة كبيرة في نفوذهما الاستراتيجي على جزء كبير من آسيا.

 

مفتاح القوة

 

يشير كل ما سبق إلى زيادة مطردة في الأهمية الإستراتيجية لمنطقة الخليج والشرق الأوسط وشمال إفريقيا المرتبطة مباشرة بالصين وفي إنشاء قاعدة مستقرة للمنافسة العالمية الأمريكية مع الصين في أجزاء كثيرة من العالم حيث تسعى الصين إلى توسيع “منطقتها البيضاء” النفوذ ويمكن محاولة استخدام خيارات “المنطقة الرمادية” العسكرية. لكن النبأ السار هو أنه من المتوقع أن تحافظ الولايات المتحدة على مستوى عال من الاستقلال عن واردات البترول إذا حققت أهدافها لتوسيع مصادر الطاقة المتجددة. ومع ذلك، فإن الأخبار المختلطة هي مدى أهمية العلاقات الأمريكية مع شركائها الاستراتيجيين في منطقة الخليج والشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

وبالنظر إلى هذه الاتجاهات، فقد تحولت الأولوية الإستراتيجية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من حماية واردات النفط الأمريكية إلى التنافس مع الصين وروسيا إلى الحفاظ على نظام اقتصادي عالمي يحبذ الولايات المتحدة. لا تزال الأهمية الإستراتيجية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والخليج تمثل مصلحة إستراتيجية حيوية للولايات المتحدة كما كانت خلال فترة الذروة لاعتماد الولايات المتحدة على واردات البترول – وقد تكون أعلى في المستقبل.

لقد جعل الاعتماد الآسيوي على الصادرات البترولية من الشراكات الإستراتيجية للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أداة حاسمة في الحفاظ على القوة التعويضية للولايات المتحدة ضد الصين، وفي مساعدة شركاء أمريكا في آسيا، وفي معالجة التهديد المستمر المتمثل في عدم الاستقرار – والإرهاب والتطرف – في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.. وستواصل في جعل قدرة الولايات المتحدة على حماية شركائها الاستراتيجيين من إيران والتهديدات الأخرى داخل المنطقة مصلحة إستراتيجية حيوية.

في الوقت نفسه، يوضح اعتماد الصين المتزايد على واردات البترول الأهمية الحاسمة لتوسيع نهج الولايات المتحدة للتنافس مع الصين بما يتجاوز البعد العسكري لمعالجة القوة السياسية والاقتصادية “المدنية” بالإضافة إلى النفوذ على المستوى العالمي. الطاقة ليست سوى جانب واحد من منافسة “المنطقة البيضاء” في التكنولوجيا وبحوث العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، والقدرة على التصنيع، والتجارة، والبنية التحتية.

مجتمعة، تجعل هذه العوامل القوة المدنية على الأقل بنفس أهمية القوة العسكرية. كما أنها توفر فرصا أكبر بكثير للانتقال من المنافسة والمواجهة إلى شكل من أشكال التعاون القابل للحياة أكثر من سباق التسلح وبناء القوات العسكرية. حتى على المدى القصير، فإن “النصر العسكري” من خلال أي شكل جدي من أشكال القتال الفعلي يهدد بالتحول إلى تناقض لفظي. الجهود المدنية والعسكرية الفعالة لها نتائج محتملة مختلفة تماما. 

 

هل يكمل بايدن الانسحاب ؟

 

بالرغم من المعطيات التي تؤكد محورية منطقة الشرق الأوسط وأهميتها حتى فيما يخص الصراع الأمريكي الصيني لا يزال بعض المحللين في الغرب يروجون لفكرة تخلي واشنطن عن منطقة الشرق الأوسط كما فعلت في أفغانستان.

جاء في تقرير أمريكي نشر في نهاية شهر أكتوبر 2021 تحت عنوان هل يكمل بايدن الانسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط ؟:

في حين بدا كبار المسؤولين الأمريكيين حريصين خلال شهر سبتمبر على طمأنة الشركاء التقليديين في الخليج العربي بشأن التزام واشنطن بأمن الخليج بعد الانسحاب من أفغانستان، فقد تصاعد الجدل حول السياسة المستقبلية للولايات المتحدة وما إذا كان ينبغي لواشنطن أن تبدأ فك الارتباط العسكري بالمنطقة. وإلى أن تصدر إدارة الرئيس "جو بايدن" مراجعة حول "وضعية القوة الأمريكية في العالم"، تظل نوايا الولايات المتحدة غامضة.

وفي أواخر سبتمبر، أرسل "بايدن" مستشاره للأمن القومي "جيك سوليفان" لإجراء محادثات مع الشركاء الخليجيين الرئيسيين. وفي هذه الأثناء، استضاف وزير الخارجية "أنتوني بلينكن" مائدة مستديرة من أعضاء مجلس التعاون الخليجي في نيويورك خلال الاجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة.

وبينما أكد "بلينكن" لضيوفه أن الإدارة الأمريكية ما تزال "ملتزمة بعلاقات مستدامة وطويلة الأمد مع جميع شركائها في مجلس التعاون الخليجي"، فقد تم تلخيص رد الفعل في السؤال الذي قيل إن وزير الخارجية السعودي الأمير "فيصل بن فرحان" طرحه، حين قال: "ما هي الخطة ؟".

وفي حين يتعلق سؤال الأمير "فيصل" على وجه التحديد بمستقبل السياسة الأمريكية تجاه إيران خاصة إذا انهارت مفاوضات إحياء الاتفاق النووي، فإن غياب أجندة أمريكية واضحة تجاه الخليج هو أحد الأسئلة الكبيرة التي تلوح في الأفق في دوائر السياسة الخارجية في واشنطن.

ومع التكهنات حول مستقبل السياسة الخارجية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، ظهر نقاش أكبر في واشنطن يحرض على الدعوة لاستمرار الانتشار العسكري الأمريكي في العالم.

وقال "ريتشارد هاس"، الدبلوماسي الأمريكي السابق ورئيس مجلس العلاقات الخارجية: "يجب أن تكون نقطة البداية هي الاعتراف الواضح بأن السياسة الخارجية تبدأ من الداخل لكن لا يمكن أن تنتهي عند هذا الحد. وفي غياب تفوق عالمي أمريكي، ستكون النتيجة هي عالم أقل حرية وأكثر عنفا وأقل استعدادا أو قدرة على مواجهة التحديات المشتركة".

لكن العديد من الخبراء يعارضون وجهة النظر هذه، حيث يتبنون إنهاء حروب أمريكا إلى الأبد واتباع إستراتيجية دبلوماسية أكثر صرامة. وفي الواقع، أدت بداية الانسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط إلى اعتقاد الكثيرين أن ذلك يخلق فرصا أفضل للقنوات الدبلوماسية بين القادة الإقليميين.

وقالت "تريتا بارسي" من معهد "كوينسي": "لقد أطلق انسحاب بايدن الوشيك من المنطقة العنان لإمكانات غير مستغلة للاعبين في الشرق الأوسط لحل مشاكلهم بأنفسهم ومحاولة بناء الهياكل اللازمة لضمان منطقة أكثر سلاما واستقرارا". وبالفعل، فإن إصدارا موجزا من معهد "كوينسي" كتبه الراحل "مارك بيري" يرفض الفكرة القائلة بأن توسيع عقيدة الأممية الأمريكية يحمي المصالح الأمريكية في المنطقة.

ومن الناحية الواقعية، كان الوجود الأمريكي في المنطقة بشكل عام مزعزعا للاستقرار، ومن خلال الانسحاب، يمكن فتح الباب أمام القادة الإقليميين للانخراط دبلوماسيا. وتزعم هذه المدرسة الفكرية أيضا أنه لا يوجد تهديد حقيقي من انسحاب الولايات المتحدة سوى أن ذلك يؤذي مشاعر القادة المقاتلين فقط. 

 

البقاء والمغادرة

 

وبعيدا عن الحجج الداعية إلى البقاء أو المغادرة، فإن الكثيرين في واشنطن يتجادلون الآن حول إمكانية استمرار "محور" الولايات المتحدة من الشرق الأوسط إلى المحيطين الهندي والهادئ. وقال "بلال صعب"، وهو مسؤول سابق في البنتاغون وزميل أول في معهد الشرق الأوسط: "هناك عدم يقين بشأن أفضل إستراتيجية وأدوات تنفيذها، لكن هناك اتجاه واحد لا لبس فيه هو ضرورة تحرك الموارد العسكرية الأمريكية من الشرق الأوسط إلى منطقة الهند والمحيط الهادئ".

وسوف تعتمد كيفية ظهور هذا المحور على مراجعة "وضعية القوة الأمريكية في العالم" التي من المقرر أن تصدرها إدارة "بايدن" في الأشهر المقبلة. وفي حين أن المراجعة قد تظهر تغييرا في موقف القوة العسكرية الأمريكية، فإن السؤال الأكبر المتعلق بالالتزام طويل الأجل تجاه الخليج في مجالات مثل التعاون متعدد الأطراف مع الشركاء ودعم أساطيل الحلفاء الخليجيين وتأمين ممر آمن للتجارة، لا يزال غير واضح.

وأعرب مستشار رئيس الإمارات للشؤون الخارجية "أنور قرقاش" عن إحباطه فيما يتعلق بالتزام الولايات المتحدة تجاه الخليج. وقال: "سنرى في الفترة المقبلة ما يحدث بالفعل فيما يتعلق بالبصمة الأمريكية في المنطقة. ولا أعتقد أننا نعرف حتى الآن، لكن أفغانستان كانت اختبارا بالتأكيد. ولكي أكون صادقا، فهي اختبار مقلق للغاية".

وتطرح تصريحات "قرقاش" سؤالا خطيرا عن الدور الذي تلعبه دول الخليج في الوقت الذي تعيد فيه واشنطن التفكير في الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة. كما تشير هذه التصريحات إلى حالة القلق لدى قادة الخليج مع استمرار الزخم لإنهاء التدخل العسكري الأمريكي في الخارج.

وفي نهاية المطاف، مهما كانت حالة عدم اليقين في دوائر السياسة الخارجية، فإن الولايات المتحدة على مفترق طرق. وحان الوقت لإدارة "بايدن" لإعادة التفكير في وجودها العسكري في المنطقة. ويتلخص النقاش حول ما إذا كانت واشنطن تريد مواصلة تفوقها العسكري في الشرق الأوسط أو الانخراط في سياسة تقوم على ضبط النفس واتباع إستراتيجية دبلوماسية أكثر صرامة تجاه المنطقة والعالم.

 

عمر نجيب

[email protected]