الجزائر وفرنسا: عندما يتعثر خليفة نابليون!!

ثلاثاء, 2021-10-05 22:36

كنت تناولت العلاقات  مع الجمهورية الفرنسية أكثر من مرة موضحا العديد من القضايا التي تعكر الشأن معها، وأجد نفسي مضطرا اليوم للحديث عن نفس الموضوع، بعد أن ولغت رئاسة الدولة الفرنسية في أمرٍ رأيته أكبر من حجمها، ولعلها أرادت أن تصفي العلاقات مع الدولة العثمانية، التي كان من فضائلها أنها منحت أوربا لذة أكل “الكرواسان” (CROISSANTS) في الصباح الباكر.

وليس سرّا أن العلاقات مع فرنسا كانت ولا تزال عقدة الجزائر المستقلة، بل وقبل استرجاع الاستقلال، ويتذكر الكثيرون أن الوفد الجزائري لم يصافح الوفد الفرنسي خلال مباحثات “إيفيان” إلا بعد أن تم توقيع المباحثات التي أدت إلى وقف إطلاق النار في مارس 1962، وأن الرئيس الجزائري هواري بو مدين رفض دعوة بعث بها الرئيس الفرنسي شارل دوغول للقيام بزيارة “عمل” لباريس، وقال يومها أن الرئيس الجزائري لن يدخل باريس إلا من الباب الكبير وفي إطار زيارة رسمية (يكون من بين عناصرها وضع باقة الزهور المألوفة على قبر الجندي المجهول، وكانت الخلفية هي أن يقال للفرنسيين إن هذا الجندي قد يكون جزائريا أو مغربيا أو سنغاليا مات لتحرير فرنسا نفسها من الغزو الأجنبي)

ولم يكن سرّا أن باريس كانت ترغب في أن يقوم في الجزائر نظام حكم بعيد كل البعد عن الانتماء العربي الإسلامي، وهو ما ينسجم مع التوجه الفرنسي لاعتبار الجزائر “أمة في طور التكوين”، والذي يجسد خداعا لفظيا كان هدفه أن يُدمج في النسيج البشري الجزائري عشرات الآلاف من العناصر الأوربية التي جاء بها الاستعمار الاستيطاني للجزائر من مختلف المناطق الأوربية، وضمت شراذم كان من بينها أرباب سوابق إجرامية ومتقاعدون من القوات العسكرية، وبالطبع كان هناك الفارون من الألزاس واللورين بعد الزحف الألماني.

وبالتوازي مع ذلك بدأت عملية زرع المجتمع الجزائري الأصيل ببذور “فرّق تسُدْ”،  والتركيز على وجود عربٍ وبربرٍ وأحفادِ أتراك وكراغلة (نتيجة الزواج التركي الجزائري) مع إعطاء بعض المناطق الشعور بالتفوق والامتياز على الآخرين، وهو ما سوف نجده في مرحلة ضعف السلطات العمومية في الجزائر، من تفضيل للبعض في منح التأشيرات واختيار المنح الدراسية، وهو ما اعترف به سفير فرنسي منذ عدة سنوات، وسنجد أثر هذا فيما بعد على فكر صانع القرار الفرنسي.

وكان من بين بعض عناصر التشريد الديموغرافي الفرض التعسفيّ للألقاب العائلية على المواطنين الذين كانت أسماؤهم تحدد انتماءاتهم العائلية الكبرى، ففلان هو ابن فلان ابن فلان من القبيلة الفلانية، وهو ما ساهمت في تعميقه عمليات التهجير الجماعي التي استولت بها القوات الاستعمارية على أراضي وممتلكات الجزائريين بعمليات انتقام جماعية مورست فيها أبشع أنواع الوحشية، وباعتراف ضباط فرنسيين من بينهم سانت آرنو وكافينياك وميسونيي وكلوزيل، وبالتشجيع السافر من أسماء كنا نظنها من خيرة البشر مثل جول فيري وفيكتور هوغو وغي دوماباسان وبعدهم أندري جيد وأب الماركسية فريديريك آنجلز.

وكان الهدف النهائي أن يتضاءل، بمرور الزمن، عمق الانتماءات العائلية التي تشكل أساس الارتباط بالوطن، وهكذا تتحول الأمة إلى شعوب، والشعب إلى فتات ديموغرافي وشرائح متنافرة، وتتأكد فكرة “أمّة في طور التكوين”، وتتآكل مقومات الحضارة العربية الإسلامية وعناصر الانتماء التاريخي للمملكة النوميدية مجسدة في يوغورطة (160 – 104  ق.م) وتاكفاريناس (24- 100 ب.م.) ومرحلة البناء المتزامن للمدن الثلاث، جزائر بني مزغنة والمدية ومليانة (944) وذكرى انتصار العاصمة الجزائرية على شارلكان (1541) وحرب الـ 300 سنة ضد الأسبان (1492 -1792).

وفي الوقت نفسه اصطحبت القوات الفرنسية معها جيشا من الرهبان أمِروا بلبس البرنوس الأبيض لاختراق السكان المحليين وخصوصا في المناطق المعزولة، وسيعلن القسيس “لا فيجري” النية لتمسيح إفريقيا بعد الانتهاء من تمسيح الجزائر (وهذا هو سر بناء الرئيس عبد العزيز بو تفليقة للمسجد الأعظم في نفس المكان الذي كان يحتضن كنيسة لافيجري).

وكان أمام القيادة الجزائرية أسلوبان للتعامل مع الجانب الفرنسي، الأسلوب الأول هو الأسلوب الإسرائيلي الذي يمارس التعذيب النفسي للخصوم وزرع عقدة الذنب لديهم بما يُسهّل ابتزازهم، وهو ما حدث مع الألمان الذين ظلوا يدفعون ويدفعون سنوات وسنوات، وهو ما حدث أيضا مع الفرنسيين الذي ما زالوا يعيشون ذعر التذكير بمأساة حكومة “فيشي”.

وكان الأسلوب الثاني، والذي اعتمدته الجزائر، هو بناء المستقبل وطيّ الصفحة تماما، بتعبير هواري بو مدين الذي لم يفهمه جيسكارد ديستان، مما دعا بو مدين إلى استكماله في خطاب تالٍ بتعبير… “لقد طوينا الصفحة، لكننا لم نمزقها”.

وكان وراء هذا الاختيار مجموعة من العناصر، أولها وأهمها وجود جالية جزائرية هامة في المهجر، وكان الشيئ الذي يؤكد سلامة هذا التوجه أن كثيرين من أبناء المهاجرين، بل ومن أبناء وأحفاد “الحركى” ممن جندتهم القوات الفرنسية كانوا أقرب للمشاعر الوطنية من بعض من التحقوا بالضفة الأخرى من المتوسط خلال التسعينيات بحجة الفرار من “الإرهاب” الإسلامي، وهو ما فوجئت به السلطات الفرنسية يوما في مباراة لفريقيْ كرة قدم، أنشد فيها الآلاف النشيد الوطني الجزائري وسخروا من “المارسييز”، وكان ذلك دليلا على فشل سياسة الإدماج، فالفرنسي ظل فرنسيا والعربي ظل عربيا.

وكان العنصر الثاني، والذي برز خلال السنوات الأخيرة من الحرب الباردة شعور جزائري نتج عن تصور متطور لحركة عدم الانحياز، مضمونه شكل جديد للحركة يضم أوربا الغربية من جهة والعالم الثالث، والقارة الإفريقية على وجه التحديد، من جهة أخرى، ليكون قوة ديناميكية في مواجهة القطبين الأعظم، ويتكامل فيه منتجو المواد الخام، نفطا ونحاسا وقهوة، وأسواق البلدان النامية مع الطاقة الصناعية للشمال وقدرته التمويلية وخبرته التقنية، وهو ما عبر عنه الرئيس الجزائري في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في أبريل 1974 وهو يقول: النظام الاقتصادي العالمي تم إقراره في غيبتنا، ولا منطقَ في استمرار تحكمه في بلداننا.

ومن هذا المنطلق كانت زيارة الرئيس الفرنسي للجزائر بعد ذلك في منتصف السبعينيات زيارة فاشلة لأن جيسكارد جاء إلى الجزائر باستعلاء الأرستقراطي الأوربي، متناسيا “أنه ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع”.

ومن هنا كانت نهايته السياسية على يد أسوأ حكام إفريقيا، الإمبراطور جان بيدل بوكاسا، وقصة هدايا الماس التي أسقطته معروفة.

ويأتي العنصر الثالث وهو قضية اللغة الفرنسية.

وعلى عكس ما يظن الكثيرون فإن المستعمر السابق لم “يُفرنِس” الجزائر، وكان النذر اليسير من الفرنسية الذي سمحت به السلطات هو ما يمكنها من تسيير الشؤون العامة للجزائريين، مع بعض الامتيازات لعائلات معينة أو عناصر ممن ترضى عنهم السلطات.

وهكذا تركت فرنسا الجزائر في 1962 فريسة للأمية بعد أن كانت، في القرن السابع عشر، وبمقاييس ذلك العهد، لا تكاد تعرف الأمية، بل إن السلطات مارست نوعا من العنصرية في اختيار المدرسين القلائل الذي كانت تبعث بهم إلى الجزائر، إذ كانوا مجرد جنود يؤدون الخدمة العسكرية الإجبارية، ولم يكن معظمهم من المتخصصين في الأساليب البيداغوجية.

وعلى العكس من ذلك سنجد هنا أن الجزائر أعطت للغة الفرنسية في عدة سنوات اهتماما يفوق عشرات المرات ما قامت به السلطات الفرنسية خلال أكثر من قرن من الزمان.

وكان وراء هذا سببان، أولهما روح التحدي الذي أراد به الجزائري أن يثبت تفوقه على الفرنسي، حتى في لغته الوطنية، وكان السبب الثاني هو المنافسة الشريفة مع الأشقاء في لبنان، حيث كان الأمل أن تتمكن الجزائر إلى جانب لبنان من تقديم الثقافة العربية للفرنسيين، والتعريف بالثقافة الفرنسية لدى المعربين.

لكن ما بدا أنه كان مجرد سوء تعبير من الرئيس الفرنسي في منتصف السبعينيات وجد طريقه إلى لسان رئيس فرنسي آخر في الألفية الثالثة بعد الميلاد.

وأتفق هنا مع الأستاذ عمار براهمية وهو يقول إن “حديث الرئيس الفرنسي عن الحراك الجزائري في  2019 أكبر دليل على التناقض والانفصام الذي تتخبط فيه النخبة الفرنسية، لان واقع الحال يؤكد إن الحراك حمته الدولة الجزائرية لأشهر طويلة وبكل سلمية وحضارية ولم ترق فيه قطرة دم واحدة، في حين أن مظاهرات السترات الصفراء في فرنسا، والتي تزامنت مع الحراك، كانت نموذجا لموجات عنف كبيرة بين المتظاهرين والشرطة الفرنسية، تخللتها أعمال تخريبية وتحطيم للممتلكات، لتصبح المقارنة الزمانية والمكانية جد معبرة عن حالة الانفصام الفرنسية مقابل التحضر الجزائري والوعي الشعبي”.

وأن يقول الرئيس الفرنسي عن الحراك ما نسب له في صحيفة “لو موند” ليس مسيئا له ولصحيفة الجنرال التاريخية فحسب وإنما لكل من تقبل تعبيراته التي لا تصدر عن خليفة مؤسس الجمهورية الخامسة.

من هنا اتفق مع كل كلمة قالها عبد الباري عطوان، من أن “الرئيس وبتَحريضٍ من إسرائيل، لا يُريد جيشًا جزائريًّا قويًّا، ودولةً جزائريّةً قويّةً، تَملُك أسباب القُوّة، مساحتها ما يَقرُب من المِليونين ونِصف المليون كيلومتر مُربّع، غنيّةً بالنّفط والغاز والمعادن، وشعب جبّار مُبدع ومُوَحَّد يتمتُع برُوحٍ وطنيّةٍ إسلاميّةٍ وعربيّةٍ عالية، ويدعم القضيّة الفِلسطينيّة العادلة، ويُقاوم التّغلغل الصّهيوني في القارّة الإفريقيّة.”

وواقع الأمر هو أن الرئيس الفرنسي يستثمر كل ما زرعته بلاده في الجزائر منذ سنوات وسنوات، فالأشواك التي استعملها هي نتيجة البذور الفرانكوبربرية التي تعهدتها فرنسا منذ “لافيجري”، ودعمتها بالأكاديمية البربرية إثر تأميم الجزائر للمناجم في 1966 ووقوفها إلى جانب المواجهة العربية الإسرائيلية في 1967 ثم في 1973.

لكن هذا ليس كل شيئ، فلقد تأكد اليوم أن عصابة النظام السابق تعاملت بالكثير من التسيب مع المستعمر السابق، الذي يحتضن اليوم أعدادا متزايدة من الذين ثبت فسادهم المالي وتورطهم في قضايا كثيرة، ومن بينها افتعال حرائق الغابات في الصيف الماضي.

واكتشف المواطن الجزائري أن من يدير شركة “رازال” لإنشاء السدود هي شركة فرنسية وأن شركة “سيال” للمياه، بعد أكثر من ستين سنة من استرجاع الاستقلال مؤسسة فرنسية، وأن من تولى شبكة المترو هو الـRATP  الفرنسية، وكلها جزء من 450 شركة فرنسية كانت تنهب الجزائر بتواطؤ من عصابة النظام السابق، وتتخذ اليوم إجراءات للتحقق من سلامة ممارساتها.

وهنا كان يجب عقد اجتماع على أعلى المستويات لترشيد العلاقات، وتحدد ذلك في شهر ابريل الماضي، حيث تقرر قيام وفد من ثمانية وزراء بزيارة للجزائر، ثم تمّ تخفيض العدد إلى أربعة وزراء ثم إلى وزيرين.

ورأي الجانب الجزائري أن حجم القضايا المطروحة والمتشابكة هو أكبر بكثير من حجم وزيرين ليست لهما صلاحيات مواجهتها، وهكذا تمسكت الجزائر بموقفها المبدئي، وكانت القشة التي قسمت ظهر البعير الموقف الفرنسي مع إرهابيي الساحل، حيث كان الاتفاق هو التعاون الكامل بناء على شرطين، أولهما ألاّ حوار مع المجرمين، والثاني رفض دفع أي فدية مطلوبة.

لكن فرنسا لم تحترم الاتفاق، وتم دفع مبلغ مالي معتبر للإرهابيين، مقابل تحرير السيدة التي “صدمت” الرأي العام هناك بأن أعلنت إسلامها.

ومن هنا بدأت الاستفزازات، والتي اختتمت، قبل التصريحات المنسوبة للرئيس الفرنسي، بتكريم من وقفوا بالأمس ضد استقلال الجزائر.

لكن هناك أسبابا أخرى تعيدني لكلمات عبد الباري عطوان هو يقول:

 “امتِلاك الجزائر لغوّاصاتٍ حديثة، ومنظومات صواريخ “إس 400” الروسيّة، وجيشٍ قويٍّ مُتماسِك، ودعمها لفِلسطين “ظالمةً” أو “مظلومة” ووقوفها الرّاسخ في محور المُقاومة بزعامة إيران، أصاب، ويُصيب “محور المُؤامرة” بزعامة إسرائيل بحالةٍ من الهلَع والرّعب (ولست في حاجة للتذكير ببنك روتشيلد الذي يضفي حمايته على قيادات سياسية في الجانب الآخر من المتوسط) ….ماكرون الذي قلّص التّأشيرات يستهدف الدّولة والشّعب في الجزائر، ويُريد تركيعهم، ومن مُنطَلقاتٍ عُنصريّةٍ ضدّهم كعَربٍ ومُسلمين” (وأذكر بالانتقائية في إعطاء التأشيرات والتي أصبحت الدولة الفرنسية الكبرى تتعامل معها كنوع من الرشوة، يمكن أن نتخيل مقابلها، لكيلا أقول …ثمنها)….. الجزائري الصّالح في قاموس ماكرون هو الجزائري “الحرْكي” الخائن الذي تعاون مع الاستِعمار الفرنسي وقاتل في صُفوفه ضدّ ثورة بلاده، أو الجزائري الذي ينخرط في مُؤامرةٍ انفصاليّة لتفتيتها، وهو ما يُفَسِّر استِقباله الحارّ لهؤلاء “الحرْكى” وتكريمهم، وردّ الاعتِبار إليهم في حفلٍ كبيرٍ في قصر الإليزيه.”

وربما كان السبب وراء قنبلة الدخان الباهت التي أطلقها الرئيس الفرنسي هو أيضا الاستعداد لانتخابات رئاسيةٍ حظوظُه فيها تكاد تكون محدودة، وليس أمامه إلا استجداء اليمين، واليمين المتطرف على وجه التحديد، لعل وعسى.

وقد يكون من الأسباب توقع محاكمات يمكن أن تجري في الجزائر لبعض من ترعاهم السلطات الفرنسية، حيث سيتأكد أنهم كانوا، بشكل أو بآخر، من عملائها، ويكفي أن نعرف أن السلطات هناك صرحت بأكثر من 120 تظاهرة ضد نظام الرئيس عبد المجيد تبون، ولم تنجح في أن تهز شعرة من رأسٍ لم يعُدْ فيه شعر كثير.

 ويبقى أمر تركته كختام لهذه السطور، وهو تحذير ساكن الإيليزيه من “وهم” تأييد يأتيه من المنطقة، لأننا نعرف شعوبنا جيدا، وندرك أن الخصام مهما بلغت حدته ليس بديلا عن الخيانة، والوئام عائد اليوم أو غدا أو بعد غدا.

وأتصور أن الرئيس الفرنسي يعرف أن السيئة عندنا بعشرة أمثالها، وربما أكثر قليلا.

ونحن نعرف الفرنسيين جيدا، لكنهم لا يعرفوننا جيدا، ولسبب بسيط، هو أن مستشاريهم، من بيننا، يعيشون داخل “غيطو” مغلق، ولا يعرفون هذا البلد جيدا لأنهم لا يعيشون آلامه وأحلامه وآماله، وفرق هائل بين مواطن ومستوطن، فالوطن ليس فندقا.

دكتور محيي الدين عميمور

مفكر ووزير اعلام جزائري سابق