هل تنقذ خطة بايدن الاقتصادية الطموحة مركز الولايات المتحدة العالمي؟ الصين تقدم نموذجا سياسيا وإقتصاديا بديلا للرأسمالية

ثلاثاء, 2021-08-17 17:38

بداية العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين وأكثر من أي وقت مضى، يستعر النقاش في العديد من الأوساط السياسية والاقتصادية والعسكرية في العالم حول مآل التنافس والصراع بين الولايات المتحدة والصين، وما إذا كانت الصين بالتعاون مع قوى أخرى وخاصة روسيا قادرة على إزاحة الولايات المتحدة من موقعها كالقوة الإقتصادية والعسكرية الأولى في العالم، وبالتالي تشكيل نظام عالمي جديد يحل مكان النظام الذي تشكل بعد إنهيار الاتحاد السوفيتي نهاية العقد الأخير من القرن العشرين؟.

 لا يجادل إلا عدد قليل من الخبراء في أن الولايات المتحدة في حالة تراجع مستمر على كل الأصعدة الاقتصادية والسياسية والتكنولوجية خاصة منذ الأزمة الاقتصادية لسنة 2007، وإن ذلك يعود لأسباب مختلفة، ويقدر جزء من هؤلاء أن أحد عناصر معالجة هذه الوضعية معالجة التدهور الداخلي على مختلف الأوجه لأنه بدون ذلك لا يمكن استمرار ما يصفونه بالريادة الأمريكية للعالم.

 بداية شهر أغسطس 2021 دشن الرئيس الأمريكي جو بايدن بداية مشروع ضخم لإعادة بناء الولايات المتحدة ووقف التراجعات التي شهدتها على الصعيد الداخلي خلال العقود الأخيرة وذلك على أساس تصوره أنه بدون تحقيق ذلك ستواجه بلاده نفس المصير الذي عرفته الإمبراطورية البريطانية التي لم تكن تغرب عنها الشمس، وذلك رغم ميزانيتها العسكرية الضخمة وتراجعها عن خوض حروب بلا نهاية بشكل مباشر.

 

رسالة إلى الصين

 

 يوم 8 أغسطس 2021 قال الرئيس الأمريكي، جو بايدن، إن حزمة الاستثمار في البنية التحتية، المقدرة قيمتها بـ1.2 تريليون دولار، ضرورية لإبقاء الولايات المتحدة متقدمة على الصين، التي كان قد لفت سابقا إلى أن استثماراتها في البنية التحتية تفوق الاستثمارات الأمريكية بكثير، وحذر آنذاك من أن الصين “ستأكل غداءنا” دون استثمار مماثل.

الرئيس الديمقراطي صرح قائلاً في بيان إن الولايات المتحدة منخرطة «في مسابقة للفوز بالقرن الحادي والعشرين». «مع استمرار البلدان الأخرى في الاستثمار في أنشطة البحث والتطوير الخاصة بها» وأضاف: «لا يمكننا أن نتخلف عن الركب. يجب أن تحافظ أمريكا على مكانتها باعتبارها الدولة الأكثر إبداعا وإنتاجية في العالم».

ووصف موقع مجلية “بوليتيكو” إجماع الحزبين، الديمقراطي والجمهوري، على خطة بايدن بأنه “أمر نادر يحمل رسالة إلى الصين”.

 وتعد الحرب الاقتصادية مع الصين من الموضوعات القليلة التي يتفق فيها بايدن مع سلفه الجمهوري دونالد ترمب. وقد حذر زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ تشاك شومر قبل التصويت على الخطة بقليل قائلاً: «إذا لم نفعل شيئا، فقد تنتهي أيامنا كقوة عظمى مهيمنة». ولهذا السبب سيذكر هذا النص باعتباره أحد أعظم النجاحات التي تحققت بين الديمقراطيين والجمهوريين في مجلس الشيوخ الأمريكي في التاريخ الحديث.

وأوضح شومر في وقت سابق، أن مشروع القانون هذا يمهد الطريق لأكبر استثمار في العلوم والتكنولوجيا لأجيال، وواصل حديثه: كل من سيفوز بالسباق على تقنيات المستقبل، مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة الحكومية، سيكون القائد الاقتصادي العالمي. وفي تحذير موجه مباشرة إلى الزعيم الصيني شي شين بينغ قال تشاك شومر: «هل نريد أن تكون هذه الصورة للقائد ديمقراطية؟ أم نريد صورة سلطوية، مثل تلك التي يود الرئيس شي أن يفرضها على العالم؟».

وتتضمن الحزمة، إنفاق 550 مليار دولار على تمويل الطرق والجسور والسكك الحديدية والإنترنت وتكنولوجيا السيارات الكهربائية.

 الخطة تخصص أكثر من 170 مليار دولار للبحث والتطوير، وتهدف بشكل خاص إلى تشجيع الشركات على إنتاج أشباه الموصلات في الولايات المتحدة، والتي يتم تصنيعها اليوم بشكل أساسي في آسيا.

وترمي الخطة إلى تسريع إنتاج أشباه الموصلات في الولايات المتحدة لمعالجة أزمة الشح العالمي لهذه المكونات الأساسية، كما تهدف على نطاق أوسع لدعم الصناعة الأمريكية في الحرب التجارية مع الصين.

وينص مشروع القانون على وجه الخصوص على تخصيص مبلغ 52 مليار دولار على مدى خمس سنوات لتشجيع الشركات على تصنيع أشباه الموصلات في الولايات المتحدة وكذلك لتعزيز البحث والتطوير في هذا المجال. وتم تخصيص مبلغ قدره 1.5 مليار دولار لتطوير شبكة الجيل الخامس، أحد مجالات التوتر الرئيسية بين الصين والولايات المتحدة.

 

ارقام صادمة

 

 إلا أن مراجعة حجم الإنفاق المقترح في ميزانية بكين السنوية الأحدث وفي خطتها الخمسية تشير إلى تحد هائل يواجه الولايات المتحدة في محاولة مواكبة الصين، لا سيما وأن الأخيرة استخدمت كميات من الإسمنت خلال الفترة الواقعة ما بين 2011 و2013 تفوق ما استخدمته الولايات المتحدة خلال القرن العشرين كاملا.

ووفقا لأرقام قدمها المكتب الوطني الصيني للإحصاء، فقد أنفقت بكين نحو 8 تريليون دولار على استثمارات البنية التحتية، في 2020، خلال ذات الفترة التي أنفقت فيها الولايات المتحدة 146 مليار دولار على استثمارات البنية التحتية.

وبمقارنة الإنفاق على البنية التحتية لعام 2018، على أساس نسبة الإنفاق المئوية من إجمالي الناتج المحلي لـ48 دولة في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، تحتل الصين المرتبة الأولى، بنسبة 5.57 بالمئة، مقارنة بـ0.52 بالمئة للولايات المتحدة.

وفي حديث إلى “بوليتيكو”، قال الخبير في مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية، جوناثان هيلمان، “أظن أنه من المشجع أن أرى اعترافا من الحزبين للتحدي الذي تشكله الصين”.

وأضاف أن دعم الحزبين لمشروع القانون يمثل “إشارة قوية” للمسؤولين في الصين الذين “يعتقدون أن الولايات المتحدة بحالة انحدار”.

وأتت خطة بايدن لتمويل البنية التحتي التي وصفها الرئيس الأمريكي بأنها “تاريخية” ثمرة أشهر من المفاوضات وتوافق نادر بين أعضاء جمهوريين وديموقراطيين في مجلس الشيوخ. وتخصص الخطة نفقات فدرالية جديدة بقيمة 550 مليارا لاستثمارات في تطوير طرقات وجسور وفي وسائل النقل فضلا عن الانترنت السريع ومكافحة التغير المناخي.

وتصل قيمة الخطة إلى 1200 مليار أي ما يوازي إجمالي الناتج المحلي في إسبانيا العام 2020، إذا ما احتسب تحويل أموال عامة مخصصة لمشاريع أخرى، لفائدة هذه الخطة.

وبالمقابل، قال الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترمب، يوم السبت 7 أغسطس، إن هذا الاتفاق “مخز”. وهدد في بيان من أنه “سيكون من الصعب علي دعم شخص أبله إلى حد يصوت فيه تأييدا للاتفاق”، فيما لا يزال الرئيس السابق يتمتع بشعبية في صفوف الناخبين الجمهوريين ومع اقتراب انتهاء منتصف الولاية، في 2022.

 زعيم الأقلية الجمهورية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل عبر عن أسفه لأن الخطة لم تتضمن كل شيء، لكنه صوت في النهاية لصالحها. وقال:«من سلاسل التوريد الهامة إلى الملكية الفكرية إلى مكافحة التجسس، المشروع يتناول الموضوعات الرئيسية التي ستساعد على تحديد أسسنا الاستراتيجية لعقود قادمة». وأضاف الجمهوري روجر ويكر، الرجل الثاني في لجنة التجارة حيث تفاوض على النص، أن هذا المشروع الاستثماري «يتيح للولايات المتحدة فرصة توجيه ضربة للرد على المنافسة غير العادلة التي نراها من الحزب الشيوعي الصيني».

 

هل الصين دولة عظمى؟

 

 في مؤلفه الذي يحمل عنوان “هل الصين دولة عظمى؟ واقع ومستقبل الصين على الساحة الدولية”، يحاجج البروفيسور الصيني “جين تسان رونغ” المفكر والأستاذ الجامعي بجامعة الشعب في بكين، بأن الصين تخطو اليوم خطوات حثيثة تجاه مركز المسرح الدولي، وتدرجت أدوارها من “ممثل الجماهير” إلى “الدور الداعم” ، ثم “الدور الأكثر دعما”، وبعدها “الدور الرئيسي” ، وفي المستقبل من الممكن جداً أن يكون “الدور المركزي”.

والشاهد أن الأزمة المالية العقارية التي ضربت الولايات المتحدة الأمريكية في نهاية العقد الثاني من القرن الحالي، قد ولدت عند الصينيين انطباعا بأن أفول أمريكا على الأبواب، لاسيما أن الاقتصاد الصيني مستمر في الحفاظ على نموه السريع، وبات المحرك الفعلي الأقوى للاقتصاد الدولي.

يربط البروفيسور “رونغ” بين ما يسميه “مسؤولية الصين”، وبين انتشار منتجاتها حول العالم، معتبرا أن النموذج الصيني، لاسيما ما يعرف بـ”الصين المنسجمة”، هو الأكثر تبنيا في وسط الدول النامية، عطفا على أن الصين باتت “مصنع الأحلام”، ولذا فهي محط رحال المستثمرين في العالم.

يفاخر الصينيون بأنهم لا يخشون من متطلبات المسؤولية، باعتبار حس المسؤولية متوفرا بشكل كبير لديهم على مر التاريخ، وهو ما يمكن تسميته “السقوط والنهوض مسؤولية كل فرد”، وهو الاعتقاد بأن “ليس فقط الاهتمام يجب أن يكون بما يقدمه لك العالم، بل ماذا يمكن لك أنت أن تقدم للعالم”.

 

حرب الديناميكيات المترابطة

 

 جاء في بحث نشرته صحيفة الاقتصادية بتاريخ 26 يوليو 2021 وهو يعكس الرؤية الأمريكية للصراع مع الصين:

 مع اقتراب العلاقات الصينية الأمريكية بشكل متزايد من الديناميكيات الجيوسياسية للحرب الباردة الأصلية، يتجه العالم نحو توازن جديد مشحون، بينما يتوق البعض في الغرب إلى “لحظة سبوتنيك” جديدة لتحفيز الاستثمارات والإصلاح، لكن يجب أن يكونوا حذرين فيما يرغبون فيه. بحسب ما يرصده تقرير دارون أسيموجلو، أستاذ الاقتصاد في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، هو مؤلف مشارك “مع جيمس أ.روبنسون” لكتاب “لماذا تفشل الأمم: أصول القوة والازدهار والفقر والممر الضيق: الدول والمجتمعات ومصير الحرية”.

إذ أثارت الحملة التي شنتها الحكومة الصينية على شركة علي بابا عام 2020، وعلى شركة ديدي لخدمات نقل الركاب شهر يوليو 2021، تكهنات محمومة حول مستقبل صناعة التكنولوجيا في تلك الدولة. ينظر البعض إلى التدخلات التنظيمية الصينية الأخيرة على أنها جزء من اتجاه مبرر يوازي تدقيق السلطات الأمريكية المكثف للتكنولوجيا الكبيرة. يرى البعض الآخر أنه مسرحية للتحكم في البيانات التي قد تستغلها الدول الغربية. وما زال البعض الآخر، وهو أمر منطقي أكثر، يرى الأمر بمنزلة طلقة في الهواء لتذكير الشركات الصينية الكبرى بأن الحزب الشيوعي الصيني لا يزال مسؤولا.

يستخدم جيفري فرانكل أنماط التصويت لإظهار أن الصلة بين التطعيم وتقليل معدل الوفيات هي أكثر من مجرد ارتباط، لكن الأهم من ذلك، أن تصرفات الحكومة الصينية هي جزء من جهد أوسع لفصل الصين عن الولايات المتحدة، وهو تطور يمكن أن تكون له تداعيات عالمية خطيرة. على الرغم من التدهور المستمر في العلاقات الاقتصادية والاستراتيجية الصينية الأمريكية، اعتقد قليلون أن التنافس سيتحول إلى مواجهة جيوسياسية على غرار الحرب الباردة. لبعض الوقت، كانت الولايات المتحدة تعتمد بشكل مفرط على الصين، وكان الاقتصادان متشابكين بشكل وثيق للغاية. الآن، ربما نتجه نحو توازن مختلف تماما.

 

الحرب الباردة

 

 حددت ثلاث ديناميكيات مترابطة الحرب الباردة، الأول، وربما الأهم، كان التنافس الأيديولوجي. كان لدى الغرب بقيادة الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي رؤى مختلفة حول كيفية تنظيم العالم، وحاول كل منهما نشر رؤيته، أحيانا بوسائل شائنة. كان هناك أيضا بعد عسكري، تجلى بشكل واضح في سباق التسلح النووي. وكلتا الكتلتين كانت حريصة على تأمين الريادة في التقدم العلمي والتكنولوجي والاقتصادي، لأنهما أدركتا أن هذا أمر حاسم للفوز أيديولوجيا وعسكريا.

في حين أثبت السوفيات في النهاية أنه أقل نجاحا من الولايات المتحدة في دفع النمو الاقتصادي، فقد حققوا انتصارات تكنولوجية عسكرية مبكرة. كان الإطلاق الناجح للقمر الصناعي سبوتنيك بمنزلة جرس إنذار للولايات المتحدة.

كانت المنافسات الشديدة في الحرب الباردة ممكنة إلى حد كبير بسبب انفصال الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. لم تتدفق الاستثمارات الأمريكية والاختراقات التكنولوجية تلقائيا إلى السوفيات “باستثناء، في بعض الأحيان، من خلال التجسس” كما حدث مع الصين في العقود الأخيرة.

لكن الآن، أدت العداوات الصينية الأمريكية، التي تفاقمت بسبب دبلوماسية دونالد ترمب غير المتماسكة، إلى إيجاد نظائر حديثة لخصومات الحرب الباردة. إن الصدع الأيديولوجي، الذي لم يكن يلوح في الأفق قبل 20 عاما، أصبح الآن محددا جيدا، حيث يمجد الغرب فضائل الديمقراطية، بينما تدفع الصين بثقة نموذجها الخاص في جميع أنحاء العالم، خاصة في آسيا وإفريقيا.

في الوقت نفسه، فتحت الصين جبهات عسكرية جديدة، ليس أقلها في بحر الصين الجنوبي ومضيق تايوان. وبالطبع، فقد تصاعد التنافس الاقتصادي والتكنولوجي خلال العقد الماضي، حيث خلص كلا الجانبين إلى أنهما في سباق وجودي لتحقيق الهيمنة في الذكاء الاصطناعي. على الرغم من أن هذا التركيز على الذكاء الاصطناعي قد يكون مضللا، إلا أنه لا شك في أن إتقان التقنيات الرقمية والعلوم الحيوية والإلكترونيات المتقدمة وأشباه الموصلات له أهمية قصوى.

رحب بعض المراقبين بالمنافسة الجديدة، معتقدين أنها ستمنح الغرب هدفا مشتركا محددا جيدا. بعد كل شيء، حفزت “لحظة سبوتنيك” حكومة الولايات المتحدة على الاستثمار في البنية التحتية والتعليم والتقنيات الجديدة. قد تؤدي مهمة مماثلة للسياسة العامة اليوم إلى عديد من الفوائد، في الواقع، بدأت إدارة بايدن بالفعل في تحديد أولويات الاستثمار الأمريكية من حيث التنافس الصيني الأمريكي.

صحيح أن عديدا من قصص نجاح الغرب في حقبة الحرب الباردة اعتمدت على أن الاتحاد السوفياتي كان بمنزلة إحباط، كان ينظر إلى نموذج أوروبا الغربية للديمقراطية الاجتماعية على أنه بديل مقبول للاشتراكية الاستبدادية على الطراز السوفياتي، وبالمثل، فإن النمو الذي تحركه السوق في كوريا الجنوبية وتايوان يرجع إلى حد كبير إلى تهديد الشيوعية، الذي أجبر الحكومات الاستبدادية على تجنب القمع العلني، وإجراء إصلاحات في الأراضي، والاستثمار في التعليم.

ومع ذلك، فإن الفوائد المحتملة لعزم “سبوتنيك” الجديد ربما تفوقها تكاليف الفصل. في عالم اليوم المترابط، يعد التعاون العالمي أمرا أساسيا. إن التنافس مع الصين، رغم أنه ضروري للدفاع عن الديمقراطية في جميع أنحاء العالم، ليس الأولوية الوحيدة للغرب. يشكل تغير المناخ أيضا تهديدا حضاريا، وسيتطلب تعاونا وثيقا بين الصين والولايات المتحدة.

علاوة على ذلك، يميل المعلقون في الوقت الحاضر إلى التقليل من أهمية التكاليف الهائلة للحرب الباردة. إذا كان الغرب يفتقر الآن إلى المصداقية عند الدفاع عن حقوق الإنسان والديمقراطية – بما في ذلك في هونك كونغ والصين – فهذا ليس فقط بسبب جيل من التدخلات العسكرية الكارثية في الشرق الأوسط. خلال الأعوام التي اعتقدت فيها الولايات المتحدة أنها دخلت في صراع وجودي مع السوفيات، أطاحت بحكومات منتخبة ديمقراطيا في إيران “1953” وغواتيمالا “1954”، ودعمت الديكتاتوريين الأشرار مثل جوزيف موبوتو في جمهورية الكونغو الديمقراطية وأوجوستو بينوشيه في تشيلي.

ومن الخطأ الفادح الاعتقاد بأن الحرب الباردة عززت الاستقرار الدولي، على العكس من ذلك، فإن سباق التسلح النووي وسياسة حافة الهاوية من كلا الجانبين مهدا الطريق للحرب، لم تكن أزمة الصواريخ الكوبية هي المرة الوحيدة التي اقتربت فيها الولايات المتحدة والسوفيات من صراع مفتوح و”الدمار المؤكد المتبادل”، كما كانت هناك مكالمات وثيقة في 1973 أثناء حرب أكتوبر. في 1983 عندما أرسلت أنظمة الإنذار المبكر السوفياتية إنذارا كاذبا بشأن إطلاق صاروخ باليستي عابر للقارات من الولايات المتحدة، وفي مناسبات أخرى.

التحدي اليوم هو تحقيق نموذج للتعايش السلمي يسمح بالتنافس بين الرؤى المتعارضة للعالم والتعاون في الأمور الجيوسياسية والمتعلقة بالمناخ.

 

صراع الريادة التكنولوجي

 

 في تقرير نشرته مجلة “فورين أفيرز” الأمريكية، يقول الكاتبان كريستوفر داربي وسارة سيوال إن مخاوف واشنطن من التقدم التكنولوجي الصيني تتركز بالأساس على الجانب العسكري، في حين أن القدرات الدفاعية ليست سوى جانب واحد من صراع الريادة التكنولوجي بين القوى العظمى.

 وحسب الكاتبين، تلعب بكين لعبة ذكية للغاية، حيث تستخدم الابتكار التكنولوجي وسيلة ناعمة لتحقيق أهدافها دون الحاجة للجوء إلى الحرب. وتبيع الشركات الصينية حاليا البنية التحتية اللاسلكية لشبكات الجيل الخامس في مختلف أنحاء العالم، وتسخر البيولوجيا التركيبية لتعزيز إنتاجها الغذائي، وتسابق الزمن لصنع رقائق إلكترونية أصغر وأسرع.

وفي مواجهة الطموحات الصينية، دعا المشرعون في الولايات المتحدة إلى اتخاذ إجراءات حكومية أقوى لحماية ريادة الولايات المتحدة، منها زيادة الإنفاق على البحث والتطوير، وتخفيف قيود التأشيرات، ودعم المبتكرين، وبناء شراكات جديدة في الداخل والخارج.

لكن المشكلة الحقيقية للولايات المتحدة أعمق بكثير، كما يراها الكاتبان، إذ إن لديها فهما خاطئا للتقنيات الأكثر أهمية وكيفية تعزيز قدراتها. ومع أن الأمن القومي يأخذ أبعادا جديدة، والمنافسة بين القوى العظمى تنتقل إلى مجالات مختلفة، فإن الحكومة لم تستطع حتى الآن أن تواكب التطورات.

ففي مثل هذه البيئة، تحتاج واشنطن إلى توسيع آفاقها ودعم نطاق أوسع من التقنيات، ولا يتعلق ذلك فقط بدعم التقنيات ذات التطبيقات العسكرية، ولكن أيضا بتطوير التقنيات ذات الاستخدامات المدنية مثل الشرائح الدقيقة والتكنولوجيا الحيوية. وتحتاج واشنطن أيضا إلى مساعدة التقنيات الحيوية غير العسكرية لتحقيق النجاح التجاري، وتمويل القطاعات التكنولوجية التي يرفض القطاع الخاص تمويلها.

 

التراجع

 

في العقود الأولى من الحرب الباردة، أنفقت الولايات المتحدة مليارات الدولارات لتوسيع بنيتها التحتية العلمية. تولت هيئة الطاقة الذرية، التي تأسست عام 1946، مسؤولية مختبرات الأسلحة النووية، ومولت مراكز البحوث الأكاديمية. كذلك، أُعطيت وزارة الدفاع، التي تأسست عام 1947، ميزانية ضخمة خاصة بالبحوث، كما كانت الحال بالنسبة لمؤسسة العلوم الوطنية.

وبعد أن أطلق السوفيات القمر الصناعي “سبوتنيك” عام 1957، أنشأت واشنطن الإدارة الوطنية للملاحة الجوية والفضاء التي تعرف بوكالة “ناسا” للفوز بسباق الفضاء. كما تأسست وكالة مشاريع البحوث الدفاعية المتقدمة، التي تم تكليفها بمنع حدوث مفاجآت تكنولوجية مستقبلية. بحلول عام 1964، كان البحث والتطوير يستحوذ على 17 في المئة من إجمالي ميزانية الإنفاق الفدرالي التقديرية.

لكن مع مرور الوقت، فقدت الحكومة ريادتها في مجال الابتكار التكنولوجي. وفي عام 1964، كانت الحكومة الأمريكية تنفق 1.86 في المئة من إجمالي الناتج المحلي على البحث والتطوير، ولكن بحلول عام 1994 انخفضت النسبة إلى 0.83 في المئة. خلال هذه الفترة، تضاعف استثمار الشركات الأمريكية الخاصة في البحث والتطوير.

ويضيف الكاتبان أن أغلب عمليات البحث والتطوير والابتكار لم تكن تحدث في مختبرات الشركات الكبيرة ولكن في الشركات الناشئة الممولة من القطاع الخاص، حيث كان مستثمرو رأس المال المجازف على استعداد لتحمل المخاطر. ظهرت هذه الشركات التي تعتمد على رأس المال المجازف لأول مرة في سبعينيات القرن، وحققت بعضها نجاحات لافتة مثل شركتيْ آبل ومايكروسوفت، ولكن لم يحقق هذا النمط من الاستثمار نجاحا واسعا إلا في التسعينيات مع ظهور الإنترنت.

أدى صعود رأس المال المجازف إلى خلق قدر كبير من الثروة، لكنه لم يعزز بالضرورة من الأمن القومي للولايات المتحدة، حيث اهتمت الشركات الرائدة بالبرمجيات الأقل تكلفة، ولم تركز كثيرا على التقنيات الأكثر تعقيدا مثل قطاع الإلكترونيات الدقيقة.

 

خارج المعادلة

 

يشير الكاتبان إلى أن التمويل الحكومي للأبحاث التكنولوجية في القطاعين العام والخاص واصل انخفاضه بمرور السنوات، واحتفظت وزارة الدفاع بأكبر نسبة من التمويل، لكن تلك الجهود أصبحت مشتتة عبر مختلف الوكالات والإدارات، وكل منها يسعى لتحقيق أولوياته الخاصة في غياب إستراتيجية وطنية.

ومع هروب أفضل الباحثين إلى القطاع الخاص، تقلصت الخبرات والكفاءات العلمية في الوكالات الحكومية. كما تدهورت العلاقة بين الحكومة والشركات الخاصة، حيث لم يعد القطاع الحكومي عميلا رئيسيا للعديد من الشركات الرائدة.

بالإضافة إلى ذلك، أدت العولمة إلى تراجع الهيمنة التكنولوجية الأمريكية على المستوى العالمي، مع الصعود القوي للصين في مجال التكنولوجيا الاستهلاكية.

ومما زاد الأمور تعقيدا أن الابتكار نفسه قلب المفهوم التقليدي للتكنولوجيا في مجال الأمن القومي. وأصبحت التكنولوجيا ذات استخدام مزدوج أكثر من أي وقت سابق، حيث تستخدم التقنيات ذاتها في القطاعين المدني والعسكري.

أدى ذلك إلى ظهور نقاط ضعف جديدة، وإثارة المخاوف بشأن أمن سلاسل التوريد الخاصة بالإلكترونيات الدقيقة وشبكات الاتصالات. ورغم أن التقنيات ذات الاستخدامات المدنية أصبحت تشكل تحديا كبيرا للأمن القومي، فإن الحكومة الأمريكية بقيت خارج المعادلة، حيث يشرف القطاع الخاص على هذه الصناعة بالكامل.

 

قصة الصعود الصيني

 

كانت هذه التحولات في مجال الابتكار التكنولوجي ستبدو أقل أهمية إذا بقي العالم أحادي القطب، ولكنها تكتسي اليوم أهمية بالغة في ظل صعود الصين منافسا جيوسياسيا للولايات المتحدة على قيادة النظام الدولي.

فقد تحولت الصين على مدى العقدين الماضيين من بلد “يسرق” التكنولوجيا ويقلدها، إلى بلد يعمل على تحسين التقنيات الموجودة وابتكار المزيد.

استثمرت الصين بشكل كبير في مجالات البحث والتطوير التكنولوجي، حيث زادت حصتها من الإنفاق التكنولوجي العالمي من أقل من 5 في المئة عام 2000 إلى أكثر من 23 في المئة عام 2020. وإذا استمر النسق الحالي، من المتوقع أن تتفوق الصين على الولايات المتحدة في مجال الإنفاق على التكنولوجيا بحلول عام 2025.

وقامت الإستراتيجية الصينية على “الاندماج بين العسكري والمدني”، في ظل تنسيق وتعاون كامل بين القطاع الخاص ووزارة الدفاع. وتدعم الدولة جهود الوكالات العسكرية والمؤسسات المملوكة للدولة والشركات الخاصة ورجال الأعمال لتطوير التقنيات التكنولوجية للاستخدامات المختلفة.

وقد يأتي الدعم في شكل منح بحثية أو قروض أو برامج تدريبية أو توفير أراض ومساحات مكتبية، حيث تنشئ الحكومة الصينية مدنا جديدة بالكامل مخصصة فقط لشركات الابتكار التكنولوجي.

ويظهر استثمار الصين في تكنولوجيا شبكة الجيل الخامس كيف تسير الخطط الصينية عمليا على أرض الواقع. في الحقيقة، تشكل معدات شبكة الجيل الخامس أساس البنية التحتية للشبكات الخلوية الجديدة في مختلف أنحاء العالم، وقد برزت شركة “هواوي” الصينية كشركة رائدة عالميا في هذا المجال، حيث تقدم منتجات عالية الجودة بسعر أقل من منافسيها الفنلنديين والكوريين الجنوبيين.

وقد استفادت الشركة من الدعم الحكومي الضخم، الذي بلغ 75 مليار دولار، في شكل إعفاءات ضريبية ومنح وقروض وخصومات على ملكية الأراضي. كما استفادت هواوي من مبادرة “حزام واحد طريق واحد” التي تقدم قروضا سخية للدول والشركات الصينية لتمويل مشاريع البنية التحتية الأساسية في عديد من الدول.

ويضيف الكاتبان أن الاستثمارات الصينية الضخمة في مجال الذكاء الاصطناعي بدأت تؤتي ثمارها بشكل واضح، حيث أصبح الباحثون الصينيون ينشرون أبحاثا علمية في هذا المجال أكثر من نظرائهم الأمريكيين.

وإلى جانب التمويل السخي، يرجع جزء كبير من نجاح الصين في مجال الذكاء الاصطناعي إلى قدرة الشركات والمطورين على الوصول إلى كميات هائلة من البيانات.

ومن بين هذه الشركات عملاق التجارة الإلكترونية “علي بابا” وشركة “تينسنت”، التي طورت تطبيق “وي تشات” ، وشركة “بايدو”، التي بدأت كمحرك بحث ولكنها تقدم الآن مجموعة كبيرة من المنتجات عبر الإنترنت، وشركة “دي جيه آي”، التي تهيمن على سوق الطائرات المسيرة، وشركة “سينس تايم”، التي توفر أنظمة التعرف على الوجه لشبكة المراقبة الحكومية، ويقال إنها شركة الذكاء الاصطناعي الأعلى قيمة في العالم حاليا.

 

اعتلاء عرش القيادة العالمية

 

ويرى الكاتبان أن الشركات الصينية نسجت شبكة عالمية من تطبيقات جمع البيانات التي تجمع المعطيات الخاصة للمستخدمين، ويمتد تعطش الصين للحصول على البيانات الشخصية حتى إلى معرفة الحمض النووي.

ومنذ تفشي جائحة كوفيد-19، قامت شركة “بي جي آي” -وهي أكبر مزود للتسلسل الجيني في الصين- بإنشاء نحو 50 مختبرا جديدا في الخارج مصممة لمساعدة الحكومات في اختبارات الكشف عن فيروس كورونا.

أبدت الصين اهتماما كبيرا بالتكنولوجيا الحيوية، رغم أنها لم تلحق بركب الولايات المتحدة في هذا المجال. وفي ظل تطور الحوسبة والذكاء الاصطناعي، يمكن أن تساعد الابتكارات في مجال التكنولوجيا الحيوية في حل بعض التحديات الأكثر إرباكا للبشرية، بدءا من الأمراض والمجاعات، وصولا إلى إنتاج الطاقة النظيفة ومكافحة تغير المناخ.

ويقدر “معهد ماكينزي العالمي” للبحوث قيمة تطبيقات التكنولوجيا الحيوية في غضون العشر سنوات إلى 20 سنة المقبلة بما يصل إلى 4 تريليونات دولار. لكن هذه التكنولوجيا لها جانب مظلم أيضا، إذ ليس من المستبعد أن تقوم بعض الجهات الفاعلة بتطوير سلاح بيولوجي يستهدف مجموعات عرقية معينة.

وحسب الكاتبين، فإن تحديد الأولويات التكنولوجية من أعلى هرم السلطة سيجعل من الإستراتيجيات المستقبلية أكثر فاعلية، ويمهد الطريق لسد الفجوات على مستوى الاستثمارات في القطاع الخاص بين مختلف المجالات التكنولوجية، وتوسيع الدعم الحكومي لعمليات التسويق.

ويرى الكاتبان أنه إذا اختارت الولايات المتحدة الاكتفاء بالتركيز على التقنيات ذاتها، فسوف تخسر الكثير على صعيد اقتصادها وأمنها ورفاهية مواطنيها، وتسمح للصين باعتلاء عرش القيادة العالمية دون قيود.

 

أدوات حرب أخرى

 

 يبدو أن الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، ستتوسع بأدوات حرب أخرى تتشارك فيها دول حليفة لواشنطن أمام طموحات الصين الاقتصادية.

وعلى الرغم من إطلاق إدارة بايدن الأمريكية تصريحات أخف وطأة مع دخولها البيت الأبيض، خلفا للإدارة السابقة المثيرة للجدل بقيادة دونالد ترمب، فإن أحدث التطورات بشأن العلاقة بين البلدين، تثير مخاوف أزمة عالمية.

والسبت 12 يونيو 2021، وجه الرئيس الأمريكي جو بايدن وحلفاؤه في مجموعة السبع للدول الصناعية الكبرى، تركيزهم على محاولة توحيد الديمقراطيات الرائدة في العالم ضمن مشروع جديد يهدف إلى الحد من النفوذ العالمي المتنامي للصين.

يتمثل محور هذا الجهد في برنامج استثماري جديد، أو “بنك البنية التحتية”، لتعبئة المليارات من الموارد العامة والخاصة لدعم المشاريع الكبرى في الدول النامية كبديل لمبادرة الحزام والطريق الصينية.

وعلى الرغم من قيادة واشنطن للاقتصاد العالمي، فإن الصين اتبعت خلال العقدين الماضيين الطريق الأسرع لكسب ود الدول الضعيفة اقتصادية، من خلال مشاريع مشتركة، حسنت من وضعيتها كمنافس قوي للولايات المتحدة.

كما نجحت الصين في تحقيق مبدأ “رابح – رابح” في مشروعها الضخم الحزام والطريق، من خلال مشاركة المكاسب مع كافة الدول التي يمر منها طريق الحرير الصيني، وعددها 60 دولة.

ما تخشى منه واشنطن يتمثل في القوة الاقتصادية متسارعة الصعود لبكين، والتي لم تتأثر كثيرا بتبعات فيروس كورونا، بينما واشنطن ما زالت لم تلتقط أنفاسها الاقتصادية والمالية والنقدية والتشغيلية بسبب الجائحة.

تظهر بيانات الناتج المحلي الإجمالي للصين، أن آخر مرة سجلت فيها نموا أقل من 5 في المئة كان عام 1990، بينما ظلت نسب النمو تتراوح بين 6 – 13 في المئة طيلة العقود الثلاثة الماضية حتى نهاية 2019.

بينما الناتج المحلي الإجمالي من حيث القيمة، بلغت نسبته بنهاية 2019، نحو 14.3 تريليون دولار أمريكي، مقارنة مع 360.5 مليار دولار أمريكي بنهاية عام 1990، وفق أرقام البنك الدولي.

بينما الولايات المتحدة، آخر مرة سجلت فيها نموا فوق 5 في المئة كان في عام 1984، لكنها منذ ذلك التاريخ سجلت تذبذبات حادة في النمو والانكماش، بمتوسط نمو سنوي يبلغ 2.3 في المئة.

من حيث القيمة بلغت قيمة الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة بنهاية 2019، نحو 21.8 تريليون دولار، مقارنة مع 5.96 تريليون دولار بنهاية 1990، أي أن اقتصاد أمريكا يفوق بسبعة أضعاف اقتصاد الصين في 1990.

اليوم، تحتاج الصين وفق نسب النمو المتوقعة البالغة 5 إلى 6 في المئة، إلى 6 سنوات للتفوق على الاقتصاد الأمريكي، وتصبح بكين أكبر اقتصاد في العالم من حيث قيمة الناتج المحلي الإجمالي.

 

عمر نجيب

[email protected]