حديث السبت: الإرهاب كعنف عشوائي هل هو ظاهرة دينية أم ظاهرة حداثية؟

سبت, 2015-07-25 15:17

“السير من الهمجية إلى الحضارة هو اندفاع نحو حلم. وحين ينهار هذا الحلم تهيمن الهمجية من جديد ” غوستاف لبون

ـ1ـ

ما هي دلالة أحداث الحادي عشر من سبتمبر وأحداث العنف التي تمثل بشكل أو آخر تداعياتٍ لها ؟ هل هي العاصفة التي حصدها الغربُ بعد أن “ملأ الأرض بمزارع الشوك”؟ أم أنها نتاج تخلف العالم الاسلامي وظلاميته “القرسطوية”؟ الدعاية الصحفية وأكوامٌ لا حصر لها من الكتب المرتبطة بها والتي صدرتْ في السنوات الأخيرة ركزتْ على التفسير الثاني، بل اختزلتْه عبر تركيزها الهوسي والكاريكاتوري على أدبيات التطرف الديني، وعلى مرجعياته التاريخية المفترضة. إلا أن فقرة مثيرة وردتْ في أحد أشهر الكتب التي صدرتْ أواخر القرن التاسع عشر تبدو لي “الحفرية” الحداثية الأكثر جلاء في هذا المعنى.  فقد تضمنتْ سيناريو حدثي يكاد يتطابق مع حدث الحادي عشر من سبتمبر رغم البون الزمني. مما يعني – كما سنرى – أنها تكشف متناً وسياقاً الارتباط العضوي بين الحداثة التواصلية والإعلامية والإرهاب كظاهرة مرتبطة بتطور الوسائط الإعلامية والدعائية.

- 2 ـ

يتعلق الأمر بأشهَر مؤلفات غوستاف لوبون : “سيكولوجيا الحشود”. جدير بنا أن نلاحظ هنا أنه بالرغم من مرور أكثر من قرن على صدوره فما يزهذا الكتيب يزداد انتشاراً في العالم. تتضاعف ترجماتُه ومعها طبعاته كأحد أساسيات العلوم الاجتماعية. وما من شك في أن انتشار المؤلَّف حتى في الأوساط المختصة لا يرجع حصراً إلى “علميته” خصوصاً بعد التحولات الكثيفة التي عرفها علمُ النفس الاجتماعي في القرن العشرين. فجزء من رواجه يعود بالدرجة الأولى إلى ما يمكن أنْ نسميه قدرتَه الحدسية.

ذلك أن مقولة “les foules” أي الحشود أو الجماهير رغم بعض ما تعانيه في كتاب “لوبون” من الضبابية المفهومية لم “تزدد” إلا مركزية في عالم اليوم. وهو ما اعتبره كثيرون تنبؤاً ملفتاً من كتيب ظهر أشْـهُراً قبل ابتكار الإذاعة، وعقوداً قبل ظهور التلفزيون، وقرناً كاملاً قبل طفرة الانترنت. وكانت السنوات الأخيرة من القرن المنصرم فرصة لناشِريه للإلحاح على “نبوءاته” بوصول الأفكار الاشتراكية للسلطة ثم بتراجعها تالياً في شكل مَدّ ثم جَزْر غير قابليْن للكبح. بيد أن ما لم يُثر الانتباه بعد وما يمكن اعتباره حدسَه الأهم يتعلق باللحظة الأكثر تجذراً في بداية القرن الحالي أي بأحداث الحادي عشر من سبتمبر.

ـ3ـ

يتحدث “لوبون” عن الطابع اللاعقلاني لردود فعل ما يسميه بالحشود. والحشود (les foules) في مفهومه هي أيُ تجمع ضخم من الأفراد توحِّده في فترة معينة وفي لحظات حدّية انطباعاتٌ وتأثيراتٌ مشتركة ومتزامنة. وفي تلك اللحظات فإن المستوى الثقافي والعلمي والعقلي للأفراد المكوِّنين لحشد ما يختفي أو يذوب تحت فعل الانطباعات الموحِّدة، إن لم نقل بفعل مغناطيسها. فـرَدُّ فعلِ الشخص معزولاً عن الحشد بهذا المفهوم يظل دوماً أكثر رزانة وعقلانية.

الجمهور التلفزيوني الذي لم يعْرفه المؤلِّف يبدو اليوم الأكثر تجسيدا لمفهوم “الحشود (les foules). فمثلا في معرض ضربه جملةً من الأمثلة للتدليل على مقاربته، يتحدث “لوبون” عن الفاعلية الشديدة “لكل ما يهز خيال الحشود هو ما يظهر بشكل صورة ملفتة وجلية، لا تشوبها توضيحات إضافية أو لا يصاحبها إلا أشياء عجائبية : انتصار كبير، معجزة كبيرة، جريمة كبيرة، أمل كبير”.

ـ4ـ

الفاعلية الدعائية والإعلامية بمقتضى النظرية “اللبونية” مشروطة بالتبسيط والاختزال والتكرار. الأشياء بلون واحد، أبيض أو أسود، وقوة الانطباع مرهونة بإخفاء أو إلغاء الخلفيات والأسباب، كما هي مرهونة بشدّة وقْعها لا بحقيقتها : “يجب أن تُقدّم الأشياء دفعة دون التنبيه الى منبعها. مائة جريمة صغيرة أو مائة حادث لا تهز مخيلة الجماهير، بينما جريمة ضخمة، كارثة واحدة تهز الجماهير في العمق حتى ولو كان قتلاها أقلّ بكثير من مجموع المائة حادث”.

وهنا نقترب جدا مما حدث في الحادي عشر  من سبتمبر أكثر من قرن بعد كتابة سطور الكتاب. لم تكن بعدُ الطفرةُ الإعلامية “الصُوَّرية” قد أَطلّتْ، ولم تكن نيويورك حينها قد احتلتْ مكانة باريس أو نافسْــتها، ولم يكن البرجان قد وُلدا، بينما كان برج “إيفل” الحديث العهد قد أخذ يجلب السواح والفضوليين. بهذا الاعتبار تأخذ المقارنة التالية كامل مغزاها : “وباء الأنفلونزا الشديد الذي أهلك في باريس خمسة آلاف فرد في بضع أسابيع لم يُـثِرْ كثيرا انتباهَ المخيلة الشعبية. فهذه المذبحة الهائلة لم تُـتَرجم في الحقيقة بصور مرئية، ولكن فقط بالمؤشرات الإحصائية الأسبوعية. فحدَثٌ لا يحصد خمسة آلاف شخص ولكن يحصد بدلها فقط خمسمائة شخص اليوم نفسَه في ساحة عمومية بطريقة تجعله مشاهدا بوضوح كسقوط برج “إيفل” مثلا يولّد انطباعاً مذهلاً في المخيلة”.

-5ـ

الصورة بكل مكوناتها التي ذكرها “لوبون” اكتملتْ وعُرضتْ أَوْجِيّاً في الجريمة البشعة لتفجير البرجَـيْن. أما وقعُها وانعكُاسها فقد تضاعف على نحو عجيب بمكونات لم تكن تخطر على بال صاحب “سيكولوجيا الحشود”، كالفضائيات وأصوات المعلقين والأنترنت ومختلف الفاعليات الأخرى للترسانة الإعلامية الحالية. ولكن كل عتاد هذه الترسانة الحديثة العهد تكثيفٌ مذهل “للفترة المعيَّنة”، تكثيفٌ لا يمكن سبره “لأطنان” الانطباعات والتأثيرات المشتركة والمتزامنة التي صارت الشغل الشاغل لمعظم اختصاصيي علم النفس الاجتماعي. الملايين بل المليارات تابعتْ كــ”جمهور بوني” الحادي عشر من سبتمبر “دفعةً”، واستمعتْ إلى طوفان من التعليقات العاطفية عليه دون أن تتلقى أي “تنبيه إلى منبعه”، باستثناء التأكيد المستمر على أنه عمل قام به مسلمون. “الجمهور” العالمي صُعقَ بمغناطيسه، ولم يخرج من تأثيره إلى الآن ولاسيما أن دفق الصور والمؤثرات لم يتوقف.

-6ـ

ولكن الجمهور الأوربي والأمريكي تعرّضَ لهذه المغناطيس أكثر. ليس لأنه أكثر سذاجة، أو لأن قدراته النقدية أقل، ولكن لأنه لا يرى – باستثناءات نادرة – ما يمكن أن يَـقف في وجه تلك الأحداث والصور، أو يُقدّم صورة معاكسة توازيها أوتنافسها. ومن ثم فاستبشار بعض المسلمين بإقبال الغربيين على اقتناء النصوص الإسلامية وقراءتها بفعل الحادي عشر من سبتمبر، أو بفعل الأزمات الاسلاموفوبية المتلاحقة يحتاج إلى قدر من المراجعة. ذلك أن أي قراءة تصدر بعد سيل الصور التلفزيونية وتنـتج عن فِعـْل صدْمتها لا يمكن إلا أن تكون قراءة سلبية. فالفكر الأكثر توقداً واستيقاظاً يمكن أن يصاب لحظياً بالتجمد حيال موضوعات ذات حساسية خاصة كالآخر الـمُؤبْلَس أو المشيْطَن، أو “الآخر الجهنمي”.

د. محمد بدي ابنو * مدير مركز الدراسات والأبحاث العليا في بروكسيل