جدلية سياسة حافة الهاوية في آخر أيام حكم الرئيس ترامب... الصراع للحفاظ على نظام القطب الواحد يحدد سياسة البيت الابيض

خميس, 2020-11-26 19:55

منذ أن تبين بعد الثالث من نوفمبر 2020 أن الرئيس دونالد ترمب لم ينجح في الفوز بفترة رئاسية ثانية في الولايات المتحدة الأمريكية كثرت التكهنات حول ما سيقوم به سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي خلال الاسابيع التي تسبق تسليمه السلطة إلى خلفه يوم 20 يناير 2021. البعض توقع أن ترمب سيصدر قرارات ويتخذ إجراءات سياسية وعسكرية واقتصادية سعيا وراء مقاصد عديدة منها زيادة شعبيته خاصة إذا قرر الترشح مرة اخرى لانتخابات سنة 2024، أو الانتقام من خصوم خارجيين وداخليين دولا وقادة ورؤساء، أو اثقال كاهل خلفه جو بايدن أو كامالا هاريس إذا لم يتمكن الأول من اكمال فترته الرئاسية بمشاكل وصراعات تفرض عليهما حسب تصوره سلوكهما نفس الاساليب والتكتيكات التي كان يتبعها.

اصحاب هذه التكهنات وهو يناقشون ابعادها تغاضوا عن أن السياسة التي اتبعها ويتبعها جل قادة البيت الأبيض تمليها المكونات الاساسية في الدولة والتي يشكل المركب الصناعي العسكري عمودها الفقري والتي يصفها البعض بالدولة العميقة. وهكذا فإن هذه القوى غير المرئية للبعض ستحرص على جعل أي قرارات أو تصرفات يتخذها ترمب في المدة الباقية له في السلطة لا تفرز نتائج سلبية على مصالح الولايات المتحدة، بل يمكن الذهاب أبعد من ذلك والقول أن القوى الموجهة للسياسة الأمريكية ستعمل على جعل أي قرار أو إجراء يتخذه ترمب قبل رحيله ولو نظر اليه من الخارج على انه متهور، يحور ويترجم بشكل ايجابي لمن سيتولى السلطة في البيت الأبيض إبتداء من ظهر يوم الاربعاء 20 يناير 2021.

الكاتب اليميني روبرت كاغان قال: ”إن كثيرا من الناسيخطئون إذا اعتقدوا أن هناك سياسة خارجية أمريكية خاصةبالجمهوريين والمحافظين وسياسة خارجية أخرى خاصةبالديموقراطيين. السياسة الخارجية الأمريكية، في كل الأوقاتوتحت كل القيادات، انعكاس دائم ومتواصل لمبادئ المحافظينالجدد، أي أنها في الأصل الثابت: سياسة خارجية يمينيةمتطرفة“.قوة جوية 

 

يوم السبت 21 نوفمبر 2020 اعلن الجيش الأمريكي إن طاقم العمل الجوي لطائرة "بي اتش 52" (ستراتوفورتريس) انطلق في 21 نوفمبر، من قاعدة جوية في ولاية نورث داكوتا، إلى الشرق الأوسط.

ووصفت القيادة المركزية للجيش الأمريكي في بيان مهمة الطائرة أو الطائرات بالطويلة، مشيرة إلى أن هدفها "ردع العدوان وطمأنة شركاء وحلفاء الولايات المتحدة". 

وأوضحت القيادة المركزية أن "الولايات المتحدة لا تسعى لإحداث أي صراع، لكنها لا تزال ملتزمة بالاستجابة لأي طارئ حول العالم"، مشددة على التزامها بالحفاظ على حرية الملاحة والتبادل التجاري في جميع أنحاء المنطقة وحمايتها.

وأضافت في البيان قولها: "تثبت المهمة المستمرة قدرة الجيش الأمريكي على نشر القوة الجوية القتالية في أي مكان في العالم في غضون وقت قصير والاندماج في عمليات القيادة المركزية للمساعدة في الحفاظ على الاستقرار والأمن الإقليمي".

وتأتي هذه التطورات في ظل توتر متزايد بين واشنطن من جانب، وطهران وحلفائها، خصوصا في العراق، من جانب آخر، تخللته أنباء غير مؤكدة عن هجوم أمريكي محتمل على إيران، قبيل انتهاء فترة الرئيس دونالد ترمب. 

وقال الفريق غريغ جويلوت قائد سلاح الجو التاسع في القوات الجوية المركزية الأمريكية، إن مهمة قوة القصف الجوي تسلط الضوء على قدرات القوات الجوية الأمريكية القوية والمتنوعة التي يمكن إتاحتها بسرعة في منطقة القيادة المركزية. 

وأضاف "القدرة على تحريك القوات بسرعة داخل وخارج وحول مسرح الميدان للسيطرة وأخذ زمام الأمور، هي المفتاح لردع أي عدوان محتمل". 

وتساعد هذه المهام طاقم طائرات القصف الجوي على التعرف على المجال الجوي للمنطقة ووظائف القيادة والتحكم وتسمح لهم بالاندماج مع الأصول الجوية الأمريكية والشريكة في مسرح الميدان، مما يزيد من جاهزية القوة المشتركة. 

وطائرات "ستراتوفورتريس"، قاذفة قنابل إستراتيجية بعيدة المدىدون سرعة الصوت ذات ثماني محركات نفاثة. تستخدم هذهالقاذفة في سلاح الجو الأمريكي منذ العام 1954، وقد جرى تحديثها خلال العقود الماضية. والقاذفة قادرة على حمل ما يصل إلى 70 ألف رطل من الأسلحة، ولديها نطاق قتالي نموذجي يبلغ أكثر من 8800 ميل من دون الحاجة للتزود بالوقود.

 

فرضية الضربة السريعة

 

جاء في تقرير نشر في واشنطن يوم السبت 21 نوفمبر: أصبح السؤال بخصوص ضربة عسكرية ضد إيران، أحد أكثر المواضيع مناقشة على وسائل الإعلام الأمريكية.

تقرير لمجلة "فورين بوليسي"، ناقش احتمالية الضربة العسكرية، من خلال حوار بين خبيرين عسكريين بمركز أتلانتك كاونسل، هما: ماثيو كروينغ، وإيما أشفورد.

واتفق الباحثان على أن ترمب قد اقترح سابقا قصف إيران، إلا أن احتمالية تنفيذ البنتاغون لهذا المقترح، يظل محل تساؤل.

وقالت أشفورد "بكل تأكيد، إذا لم يكن الأمر غير قانوني أو شيء غير دستوري، فإن على البنتاغون القيام به، حتى قانون صلاحيات الحرب يسمح للرئيس بإلزام القوات الأمريكية بالاشتراك في حرب لمدة 60 يوما، دون موافقة الكونغرس".

وأضافت الباحثة الأمريكية أن احتماليات تنفيذ ضربة عسكرية، كانت حديث وسائل إعلام على مدار الأيام الماضية، حيث قالت تقارير إن ترمب قد يضرب مواقع نووية إيرانية، أو قد يعطي ضوءا أخضر لإسرائيل لتنفيذ ذلك من أجله. 

من جانبه قال كروينغ "لقد عملت حول إيران في البنتاغون، وكتبت كثيرا عن الأمر في الماضي. إن ضربة عسكرية محدودة ضد المنشآت النووية الإيرانية ستكون أفضل من العيش تحت خطر إيران النووي في السنين القادمة".

وتابع كروينغ "وفقا للتقديرات العامة، فإن وقت وصول إيران للقنبلة النووية هو ثلاثة أشهر ونصف، لذلك فإنه ليس مبكرا الحديث عن هذا الأمر، لكننا لسنا بحاجة للضغط على الزناد غدا".

وهنا علقت أشفورد على حديث كروينغ قائلة "انظر، السؤال الأساسي هو حول الديمومة، قد تؤدي الضربة العسكرية إلى تقويض تقدم إيران نحو الأسلحة النووية، ولكن بشكل مؤقت فقط".

"أما النقطتان الأخريان، فإنه على حد علمنا، لم تعبر إيران من نقطة تخصيب اليورانيوم إلى نقطة تطوير الأسلحة، منذ أن انسحب ترامب من الاتفاق النووي"، تقول أشفورد.

وتابعت الباحثة الأمريكية "إن السبب الوحيد لإجراء هذه المناقشة، هو أن ترمب انسحب من الاتفاقية، ما أدى بنا إلى الوصول لهذه النقطة، حيث تمتلك إيران الآن، كميات من اليورانيوم عالي التخصيب، أي كميات أعلى بحوالي 12 مرة، بالمقارنة مع الكميات التي خصبت تحت الاتفاق".

وهنا يعلق كروينغ "لقد ضبطت الوكالة الدولية للطاقة الذرية تصميم إيران لرؤوس نووية حربية. ولدى إيران أكثر برامج الصاروخية تطورا في المنطقة. القطعة الأخيرة المتبقية لتصنيع قنبلة هو الحصول على مواد انشطارية".

ويؤكد كروينغ مرة أخرى أن إيران تقترب أكثر فأكثر من القنبلة النووية، حيث يمكن أن تصل بذلك خلال ثلاثة أشهر ونصف، في حال ما سمح "مرشد الثورة" بذلك.

وتابع كروينغ "إذا كانت إيران على شفا تطوير أسلحة نووية ولم يتدخل الجيش الأمريكي ليضربها، فإنها ستحصل على سلاح نووي، واشنطن لا تريد تكرار نفس الخطأ كما حصل مع كوريا الشمالية، وأن تشاهد دولة مارقة تنضم إلى النادي النووي، الضربات العسكرية على الأقل ستبقي المسار غير النووي مفتوحا".

 

مناورة

 

انتقد كثير من السياسيين في الولايات المتحدة سياسة ترمب تجاه إيران التي انسحبت واشنطن بمقتضاها من الاتفاق النووي دون توقيع اتفاق جديد، وهو ما ترك حسب رأي هؤلاء المجال لإيران لتطور من إمكانياتها النووية.

ريتشارد هاس، رئيس مجلس العلاقات الخارجية، ومدير التخطيط السابق بوزارة الخارجية ذكر "إن إيران أقرب اليوم من السلاح النووي عما كانت عليه قبل 4 سنوات عندما أصبح ترمب رئيسا، كما أصبح لدى كوريا الشمالية رؤوس نووية وصواريخ بعيدة المدى أكثر مما كانت عليه كذلك، وهذا هو بيت القصيد بعد 4 سنوات من السياسة الخارجية المضللة".

من جانبه اعتبر تشارلز دان المسؤول الاستخباراتي السابق الباحث حاليا بمعهد الشرق الأوسط أن "ترمب يتطلع إلى إرباك المشهد الإقليمي قبل أن يترك منصبه، وفي حالة إيران سيكون أي هجوم بمنزلة غطاء على سياساته الفاشلة تجاه طهران".

وأضاف إن "قادة البنتاغون غير متحمسين للتورط في صراع كبير آخر في الشرق الأوسط، كما أن مؤيدي ترمب لا يريدون حربا جديدة لا تنتهي".

وعن سحب القوات الامريكية من العراق وسوريا وافغانستان، اعتبر دان أن "الأساس المنطقي لانسحاب القوات يتمثل في تقييد حركة الرئيس المنتخب جو بايدن وتضييق الخيارات المتاحة أمامه، لكن البنتاغون يستطيع إبطاء ما يريده ترمب حتى تنتهي رئاسته".

الخبير العسكري ديفيد دي روش، المحارب السابق والأستاذ المساعد في مركز الشرق الأدنى وجنوب آسيا بجامعة الدفاع الوطني الأمريكية صرح إن لدى ترمب قضيتين رئيسيتين في السياسة الخارجية يرغب في حلهما قبل أن يترك منصبه، وكلاهما من وعوده الانتخابية منذ عام 2016.

ويقول دي روش أن "ترمب تعهد بإنهاء التدخل الأمريكي في حروب الشرق الأوسط التي لا نهاية لها، والتي رأى أنها لا تخدم مصالحنا وتحول تركيزنا العسكري عن التهديد الحقيقي المتمثل في انبعاث الصين وروسيا، وإنهاء الاتفاق النووي مع إيران والذي وصفه بأنه أسوأ صفقة في التاريخ، والخروج باتفاق جديد مع إيران".

وانتقد دي روش ما وصفه بـ"تناقض اليسار الأمريكي مع نفسه في ما يتعلق بسحب القوات الأمريكية من العراق وأفغانستان"، وتابع "هم عموما يرحبون بخفض عدد القوات الأمريكية في مناطق الحروب، لكن كراهيتهم العمياء لترمب قوية لدرجة أنه حتى عندما يفعل شيئا يريدونه، فإنهم يعارضون ذلك".

وأضاف دي روش إن "ترمب لا يرى الكثير من المزايا التي تعود على احتفاظ واشنطن بوجود عسكري في العراق أو سوريا أو أفغانستان، وقد طلب من فريقه الانسحاب، ويبدو أنه يشك في أن البيروقراطية تعرقل خروج القوات وتعمل على الحفاظ على الوجود العسكري هناك".

ويرى دي روش أن ترمب حاول "توسيع نطاق الضغط على إيران لإجبارها على التوصل إلى اتفاق لا يتناول فقط البرنامج النووي، بل أيضا مع القوى الموالية التي تزعزع استقرار الدول الأخرى في المنطقة، وتطوير برامج الصواريخ، وقضايا حقوق الإنسان".

وبرأيه فإن الإيرانيين يراهنون على أنهم قادرون على التفوق على ترمب، لذلك هم يتطلعون إلى تخفيف الضغط الأمريكي بعد وصول بايدن إلى البيت الأبيض.

ويؤمن دي روش بأن ترمب "لم يرض عن عجزه في التوصل إلى اتفاق نووي جديد مع إيران من جهة، أو كبح إيران من جهة أخرى، لذا من المحتمل أنه يفكر في اتخاذ إجراءات مباشرة ضد المنشآت النووية الإيرانية من أجل الادعاء بأنه نجح في خفض القدرة النووية الإيرانية".

ويشير مراقبون إلى أن ترمب وفريقه يعملان على فرض عقوبات مكبلة لأيدي الرئيس بايدن تجاه إيران، وهذا ما ذكرته "القناة 12" الإسرائيلية، التي تحدثت عن "فيضان" من العقوبات. فيضان العقوبات سيكون في نفس الوقت أداة نافعة في يد سيد البيت الأبيض القادم حيث سيطالب بتنازلات مقابل تخليه عن عقوبات ليس له فيها يد ولكنها موجودة ويتطلب رفعها تقديم مقابل.

والحقيقة التي لا يتحدث عنها الكثيرون أن بادن عندما يتطرق إلى عودة واشنطن إلى الاتفاق النووي مع طهران فهو يريد تنقيحه أي زيادة بنود إضافية اليه وهو ما ترفضه إيران على الأقل حتى الآن.

بايدن صرح لمجلس العلاقات الخارجية قبل ظهور نتائج الانتخابات الرئاسية: “إذا عادت إيران إلى الامتثال لالتزاماتها النووية، فسأعاود الدخول في خطة العمل الشاملة المشتركة كنقطة انطلاق للعمل جنبا إلى جنب مع حلفائنا في أوروبا والقوى العالمية الأخرى لتمديد القيود النووية للاتفاق”. وأضاف أن “القيام بذلك من شأنه أن يوفر دفعة أولى مهمة لإعادة ترسيخ مصداقية الولايات المتحدة، مما يوحي للعالم أن كلمة أمريكا والتزاماتها الدولية تعني شيئا ما مرة أخرى”.

 مقابل ذلك صرح وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف، الذي لعب دورا رئيسيا في إبرام اتفاق 2015، مرارا وتكرارا إن إيران لن تتفاوض على اتفاق آخر.

 

ضربة ثم تنديد 

 

هناك بعض الخبراء يرون أن ترمب يمكن أن يقوم بضربته ضد إيران قبل وقت قصير من تولي بادن السلطة، وسيدين هذا الأخير العملية ويعيد تكرار وعده الانتخابي بالالتزام بالاتفاق النووي مع طهران وبالتالي يوقف التصعيد مع طهران ويصد احتمال خوض حرب طويلة معها، ولكن واشنطن ستكون قد انجزت عملية تدمير جزء من القدرات النووية الإيرانية. 

وكانت صحيفة "نيويورك تايمز" قد ذكرت نقلا عن مسؤولين أمريكيين إن ترمب عقد اجتماعا مع كبار مستشاريه في المكتب البيضاوي يوم الخميس 12 نوفمبر 2020، وأبدى اهتماما بإمكانية توجيه الضربة العسكرية إلى أكبر منشأة نووية إيرانية في نطنز.

وأشار المسؤولون إلى أن هذا الحديث جرى بعد أن قال المفتشون الدوليون إن هناك زيادة ملموسة في كمية اليورانيوم المخصب المتوفرة لدى إيران، فيما قال خبراء آخرون أن طهران يمكن أن تصنع قنبلة نووية واحدة قبل متم سنة 2021 ولكنها ستواجه مشكلة صنع قنبلة بحجم يمكن من نقلها عبر صاروخ أو طائرة وعملية كهذه تحتاج اشهر كثيرة إن لم يكن سنوات وهذا ما يخفف من حدة الخطر الذي تقدره واشنطن.

وقد حذر كبار المسؤولين في الإدارة الأمريكية الرئيس ترمب من عواقب مثل هذه الخطوة.

وكان من بين المجتمعين نائب الرئيس مايك بنس ووزير الخارجية مايك بومبيو والقائم بأعمال وزير الدفاع كريستوفر ميلر ورئيس الأركان مارك ميلي.

وبعد أن قدم بومبيو وميلي رؤيتهما للمخاطر المحتملة، قرر الاجتماع إسقاط احتمال توجيه ضربة صاروخية عن الجدول.

ورجحت مصادر الصحيفة أن ترمب لا يزال يدرس الإمكانيات "للرد" على زيادة إيران من مخزوناتها من اليورانيوم، واستهداف أصولها وحلفائها، بما في ذلك الجماعات المتحالفة مع طهران في العراق.

في مواجهة احتمالات توجيه ضربة كشف مصدر رفيع المستوى في هيئة الأركان الإيرانية يوم 10 نوفمبر حسب صحيفة الجريدة، أن الحرس الثوري والجيش الإيراني نشرا، بداية شهر نوفمبر، أكثر من 50 ألف جندي إضافي على "الجبهة الغربية" على الحدود مع العراق، إضافة إلى تعزيز القوات في هذه المنطقة بمدرعات، ومدافع، وصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى أرض أرض، وأرض جو.

وأكد المصدر، وهو عضو بالمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، لـ "الجريدة"، أن قيادة الأركان أعلنت بالفعل الاستنفار العام لجميع القوات العسكرية والأمنية التابعة لها، مبررا هذه الخطوة بتخوف إيران من قيام الولايات المتحدة أو إسرائيل بعملية عسكرية.

في نفس الوقت ذكرت تسريبات إعلامية أن قائد "فليق القدس" التابع للحرس الثوري الإيراني، إسماعيل قآني، اجتمع في بغداد بداية شهر نوفمبر 2020 مع قادة ميليشيات عراقية موالية طهران، حثهم فيها على إيقاف أي هجمات ضد المصالح الأمريكية حتى لا يعطي ذلك "ذريعة" لإدارة ترمب بتوجيه ضربات عسكرية.

ووفقا لموقع "إيه بي سي نيوز"، فقد أكد مسؤول عراقي حكومي حدوث ذلك الاجتماع السري بين قآني وقادة الميليشيات العراقية.

ويبدو أن طهران، ليست وحدها التي تخشى من تحرك عسكري أمريكي ضدها، إذ سبق وأن أعرب مسؤولو استخباراتيون أوروبيون عن قلقهم من وقوع مثل تلك الهجمات في "الرمق الأخير" لوجود ترمب في البيت الأبيض. ويؤكد هؤلاء أن سياسة واشنطن حتى قبل وصول ترمب إلى البيت الأبيض سنة 2016 اسفرت عمليا عن تسليم العراق إلى طهران ولهذا فإن الصراخ والعويل الصادر من دوائر أمريكية عن هذا التطور تثير كثيرا من الاسئلة.

ونقلت وكالة "أسوشييتد برس" عن ثلاثة مصادر استخباراتية خشية أوروبا من إقدام الإدارة الأمريكية على إشعال حرب في المنطقة.

 

رؤيته لدور واشنطن

 

قدم الدبلوماسي والسياسي الأسبق، دينيس روس، رؤيته للمطلوب من إدارة الرئيس المنتخب، جو بايدن، بشأن الدور الأمريكي في الخارج.

ويرى روس أن الأمر يتطلب مزيجا من القوة الناعمة والصلبة، واستعادة آليات للتعامل مع الحلفاء الديمقراطيين، وبما يعيد الألق للدور الأمريكي على الصعيد الدولي.

وكتب روس، في تحليل نشرته مجلة "ناشونال إنترست" منتصف شهر نوفمبر، إنه عبر تاريخ أمريكا فضل رؤساء إنهاء الحروب مثل ويلسون، فيما فضل البعض ترك السياسات تتحدد وفق طبيعتها وفي وقتها، مثل وارن هاردينغ، فما توجه البعض لاختيار وسائل مختلفة بمواجهة التهديدات، مثل إدارة ترومان التي دعمت خطة مارشال.

ويؤكد روس الذي كان له دور هام في السياسة الخارجية الأمريكية لمدة 12 عاما خاصة في عملية التسويات في الشرق الأوسط، أن الولايات المتحدة تحملت عبئا كبيرا خلال الإدارة الحالية، حيث كان الشعار "أمريكا أولا"، ولكنه تسبب في حالات غير مستقرة أحيانا خاصة عند التشكيك بالحلفاء أو أهميتهم، وهو ما جعل قيادة أمريكا على المسرح العالمي تتراجع عما كانت عليه خلال الإدارات المختلفة.

ونوه روس إلى الفرق بين السياسات التي اتبعها العديد من الرؤساء، فمثلا، سعى، فرانكلين روزفلت، إلى دعم مبدأ الأمن الجماعي بعد الحرب العالمية الأولى، والذي أفضت إلى تأسيس الأمم المتحدة لتمارس دور الشرطي العالمي.

ولكن في زمن الرئيس، هاري ترومان، وبعد الحرب العالمية الثانية، كانت الصورة مختلفة، حيث تعاظم التهديد السوفيتي، في ظل مجتمع أوروبي منهار بسبب الحروب، فيما كانت الولايات المتحدة قوة اقتصادية يمكن وصفها بالمهيمنة في حينها.

وخلال العقود الماضية، أرادت الولايات المتحدة نشر "القيم الأمريكية" و"مبادئ الحرية" وهو ما كان جليا في عهد بيل كلينتون وما تبعها من سياسات في عهد الرئيس جورج بوش الابن.

أما خلال فترة الرئيس السابق، باراك أوباما، فقد كان جليا التدخلات الأمريكية في حروب أفغانستان والعراق، والتي كان لها ثمنا باهظا، إذ أن تزامنت مع أعباء أزمة اقتصادية أثرت على الاقتصاد الأمريكي، ورفعت من تكاليف هذه الحروب، وبما يعني أن قيادة الولايات المتحدة للعالم كانت تكلفتها مرتفعة إلى حد ما.

ويشخص روس المشهد الحالي، بأننا لا نواجه حاليا عالما ثنائي أو أحادي القطب، ولكننا بأشبه ما يسمى بعالم "غير قطبي"، إذ أصبحت القوة العسكرية لدول مثل الصين وروسيا متفوقة إلى حد ما، وتريد التدخل في المجتمع الدولي، لكن ليس بالقواعد الأمريكية إنما بقواعدهم الخاصة. 

ويقول روس لم نعد نعرف مواقف الدول، هل هي حليفة أم دول مارقة؟ مثل تركيا، إذ أصبح الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، أكثر عدوانية في المنطقة، وهو يبني علاقات أكثر قوة مع روسيا، ويحصل منها على أنظمة دفاعية.

ويرى روس أن مؤشرات إيجابية لا تزال موجودة في المجتمع الدولي، خاصة وأن الرئيس المنتخب بايدن يعرفه الجميع، وهو يفهم تفاعلات المجتمع الدولي بشكل حدسي، ولديه القدرة على إعادة تعزيز العلاقات مع الدول الديمقراطية الحليفة للولايات المتحدة، وبما يخدم معالجة القضايا الجماعية.

 

مغالطات

 

من الصعب العثور على محللين أو سياسيين يقدرون أن الولايات المتحدة لم تخسر حربها في أفغانستان أو في الصومال وأنها تواجه انتكاسات في حربها المباشرة وغير المباشرة ضد سوريا، في نفس الوقت يقر عدد كبير من المحللين بتجمد إن لم يكن بانتكاسة مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي وضعه المحافظون الجدد والقاضي بنشر ما يسمى بالفوضى الخلاقة وصولا إلى تمزيق دول المنطقة وإعادة رسم خرائط دولها على أسس عرقية وطائفية ودينية ومناطقية لخلق ما بين 54 و 56 دولة. إدارة البيت الأبيض في عهد ترمب عملت على الصعيد العلني على اظهار رغبتها في انهاء حروب لا نهاية لها ولكن كانت لديها اجندات مختلفة، كما سعت إلى استئناف تنفيذ مشروع الشرق الاوسط بإسلوب مخالف لإدارة الرئيس اوباما ولم تسجل سوى نجاحات صغيرة، وبما أن اهداف واشنطن لا تتبدل في المنطقة العربية فإن إدارة الرئيس بادن ستعدل اسلوب التعامل تحت غطاء الأطروحات القديمة عن نشر الديمقراطية واحترام حقوق الانسان.

والواجب أن نذكر أن بايدن ساهم في بلورة عملية تفتيت العراق والتمهيد لإنشاء نواة دولة كردية.

خلال الثلث الثاني من شهر نوفمبر 2020 أكد القائم بأعمال وزير الدفاع الأمريكي، كريستوفر ميلر، أن الولايات المتحدة ستخفض وجودها العسكري في أفغانستان والعراق، متجاهلا المخاوفالمعبر عنها من أن الانسحاب المفاجئ في أفغانستان قد يعرقل محادثات السلام بين الحكومة الأفغانية وحركة طالبان من خلال إقناع مسلحي الحركة بأنهم يمكن أن ينتصروا بدون اتفاق.

 صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية أشارت إلى إن البنتاغون اتخذ هذه الخطوة قبل أن يتولى الرئيس المنتخب بايدن منصبه، ويخشى المسؤولون الأفغان من أن التخفيضات ستشجع طالبان على مواصلة القتال.

وأفاد مسؤولون أمنيون إنه لولا عشرات الغارات الجوية الأمريكية في الأسابيع الأخيرة، لكانت مدينة قندهار تحت الحصار، بعد أن اجتاحت عناصر طالبان العديد من المناطق المحيطة.

والآن مع أوامر ترمب بخفض القوات الأمريكية في أفغانستان إلى 2500 ، أي بمقدار النصف تقريبا، أصبح مصير قندهار، ومصير قوات الأمن الأفغانية المنتشرة في جميع أنحاء البلاد، موضع تساؤل مرة أخرى.

ولطالما اعتبر المسؤولون الأفغان الوجود العسكري الأمريكي حافزا حاسما لطالبان للوفاء بوعودها واختيار التفاوض على الحرب.

والآن، ينظر العديد في أفغانستان للانسحاب السريع لترمب باعتباره أوضح إشارة حتى الآن على أن الولايات المتحدة تغادر أفغانستان بغض النظر عما تفعله طالبان، كما أن خطة الانسحاب لها تداعيات تتجاوز أفغانستان بما في ذلك خفض القوات في الشرق الأوسط وأفريقيا.

ففي العراق، انخفض وجود القوات الأمريكية إلى حوالي 3500 عسكري عام 2020، وبموجب الأوامر الجديدة، يقول مسؤولو البنتاغون إنه سينخفض إلى حوالي 2500 في يناير، حيث يأتي ذلك في ظل تزايد النفوذ الإيراني في العراق وكذلك في ظل تزايد عمليات تنظيم داعش هناك.

وفي الصومال، تأتي خطة الانسحاب، حيث تواصل حركة الشباب، وهي جماعة تقول واشنطن أنها مرتبطة بالقاعدة، تكثيف هجماتها على الأهداف العسكرية والمدنية في محاولة للزعزعة استقرار حكومة مقديشيو المدعومة من الغرب.

ويقول مسؤولون ومحللون في الصومال إن التخفيض المفاجئ لهذه القوات أو الانسحاب الكامل سيكون نصرا دعائيا لحركة الشباب في هذا الوقت الحرج. وفي هذا السياق، يقول محلل شؤون الصومال في مجموعة الأزمات الدولية عمر محمود: “فيما يتعلق بتحسين القدرات المحلية وضرب حركة الشباب، لم يتم تحقيق أي من ذلك بالفعل”.

بينما يدور الجدل حول الانسحاب من افغانستان تشير تقارير استخبارية المانية إلى تصاعد هجمات تنظيم داعش أو ما يسمى الدولة الاسلامية مما يخلط الاوراق أمام انتصار سريع لحركة طالبان مع العلم أن مصادر عديدة ومنها روسية كشفت منذ سنوات كيف تتعاون الاجهزة الأمريكية مع التنظيم لضرب خصومها في افغانستان والعراق. في الصومال تفيد معلومات من كينيا أن طائرات مموهة الهوية تنقل مقاتلين من تنظيم داعش من منطقة شبه الجزيرة العربية إلى كينيا ومنها نحو الصومال.

 

توجهات رجال بايدن

 

في نطاق المحاولات التي تبذل لإستكشاف اساليب ادارة الرئيس جو بادن في التعامل مع مختلف قضايا العالم، يجرى التطرق إلى خيارات المسؤولين الذين سيتولون مناصب مؤثرة في البيت الأبيض.

يوم الاثنين 23 نوفمبر 2020 أبلغ مصدر في الفريق الانتقالي للرئيس بايدن، قناة "الحرة" أن أنتوني بلينكن، يتصدر قائمة المرشحين لمنصب وزير الخارجية.

وبلينكن دبلوماسي مخضرم تولى مناصب رفيعة في الخارجية، وهو أحد المقربين من بايدن منذ فترة طويلة.

وعمل الدبلوماسي الأمريكي من قبل نائبا لمستشار الأمن القومي، في الفترة من 2013 إلى 2015 خلال ولاية الرئيس السابق، باراك أوباما، الثانية، ونائبا لوزير الخارجية بين 2015 إلى 2017. 

ظهر بلينكن في الصورة الشهيرة التي التقطت من غرفة العمليات بالبيت الأبيض لأوباما وكبار مساعديه أثناء العملية التي أدت إلى قتل زعيم تنظيم القاعدة السابق، أسامة بن لادن.

وكان قد قال في مقابلة مع رويترز، في أكتوبر 2020، إن الولايات المتحدة يجب ألا تتخلى عن دورها القيادي في العالم، مضيفا "بقدر العبء في بعض الأحيان... البديل لمصالحنا وحياة الأمريكيين أسوأ بكثير".

واختار، بايدن، بالفعل تسعة من كبار مسؤولي حملته الانتخابية لتولي مناصب رفيعة في البيت الأبيض إلى جانب كبير الموظفين، وقال إنهم "يحملون وجهات نظر متنوعة، ولديهم التزام مشترك بالتصدي لمختلف التحديات لإخراج البلاد منها أقوى وأكثر اتحادا".

ويقول دبلوماسيون أوروبيون أنه لا يوجد خلاف كبير بين توجهات لينكن ووزير الخارجية الحالي بومبيو وأن الفرق هو فقط في اسلوبهما. مقالات كثيرة كتبها بلينكن لصحيفة "نيويورك تايمز" خاصة خلال سنة 2017 تكشف قرب افكاره من تلك التي يتبناها المحافظون الجدد.

في يوليو 2020 قال بلينكن: "ببساطة المشاكل الكبرى التينواجهها كبلد وككوكب، سواء كانت الوباء "جائحة كورونا" أوانتشار الأسلحة السيئة، لا يمكن مواجهة تلك القضايا عن طريقفرض حلول أحادية"، وأضاف "حتى دولة قوية مثل الولاياتالمتحدة لا يمكنها التعامل مع تلك القضايا بمفردها". 

وسوف يخضع بلينكن شأنه شأن جميع مرشحي بايدن للوزارات- لحتمية الموافقة على تعيينه في مجلس الشيوخ الذي يمتلكالجمهوريون فرصة استمرار أغلبيتهم فيه إذا ما فازوا بمقعديولاية جورجيا في جولة الإعادة يوم 5 يناير 2021، لكن علىالأرجح لن يجد بلينكن صعوبة في الحصول على موافقة مجلسالشيوخ، نظرا لمواقفه الوسطية بشكل عام.

وفيما يتعلق بملفات الشرق الأوسط على وجه الخصوص، يعتبربلينكن من أبرز الداعمين لإسرائيل وقد عبر عن ذلك بشكل واضححتى عندما أشار أن صفقة تطبيع إسرائيل علاقاتها مع الإماراتربما تكون قد تمت على طريقة "المقايضة" للسماح لأبوظبيبشراء أسلحة أمريكية كان محظورا بيعها في الشرق الأوسطباستثناء إسرائيل.

وفي 17 يونيو 2020 ذكر إن بايدن "لن يربط المساعداتالعسكرية لإسرائيل بأشياء مثل ضمها للضفة أو المستوطنات، أوقرارات أخرى من قبل الحكومة الإسرائيلية قد نختلف معها". 

كما عبر بلينكن صراحة عن اعتراضه على بيع أسلحة للسعوديةتستخدمها في حرب اليمن، وهو في هذا يحمل نفس وجهة النظرالتي عبر عنها مرارا جو بايدن نفسه، لكن علاقة بلينكن بالسعوديةربما تكون أكثر تعقيدا مما تبدو عليه الأمور على السطح.

فقد ورد اسم بلينكن في كتاب "النفط والدم" الذي يتناول صعودولي العهد السعودي محمد بن سلمان إلى الحكم، والذي صدرفي سبتمبر 2020، وكما ذكر في الكتاب سافر بلينكن إلىالرياض في أعقاب انطلاق الحملة العسكرية السعودية علىاليمن، والتي عرفت باسم "عاصفة الحزم" في مارس 2015.

وكان الغرض من سفر بلينكن، كبير مستشاري نائب الرئيس جوبايدن إلى السعودية وقتها هو لقاء عدد من أصدقائه ومحاولةقراءة الموقف، وكان من بينهم ولي العهد السابق محمد بن نايف،الصديق القوي لبلينكن، وخلال اللقاء مع بلينكن، وصف بن نايفحرب اليمن بأنها "رهان خاسر"، بالرغم من محاولته تفاديالحديث عنها صراحة، وكان يبدو أن بن نايف لم يعلم شيئا عنتلك الحملة العسكرية، بحسب الكتاب.

وفي ذات السياق، كان بلينكن هو الشخص المخول من إدارةباراك أوباما لاكتشاف الأمير الشاب الصاعد محمد بن سلمانعام 2015، وبالطبع الأمور الآن أصبحت مختلفة بالنسبةلكليهما، فالأمير أصبح وليا للعهد وحاكما فعليا للمملكة وبلينكنأصبح وزيرا للخارجية.

هذه العناصر، بحسب مراقبين، رجحت كفة بلينكن لمنصب وزارةالخارجية على حساب سوزان رايس المرشحة الأخرى للمنصبكما أشارت تقارير إعلامية، فبلينكن كام مصنفا من الصقورضمن إدارة أوباما وكان يريد استخدام القوة العسكرية ضدسوريا، أما رايس فكانت سفيرة أوباما للأمم المتحدة ومستشارتهللأمن القومي وأصبحت هدفا لانتقادات عنيفة من جانبالجمهوريين بعد مقتل السفير الأمريكي في بني غازي بليبيا عام2012.

يذكر أنه في 18 نوفمبر 2016، قام الرئيس ترمب بترشيح بومبيو لمنصب مدير وكالة الاستخبارات المركزية ليشغله رسميا في 24 يناير من 2017 بعد موافقة مجلس الشيوخ ويوم 26 أبريل 2018 عينه وزيرا للخارجية خلفا للوزير ريكس تيلرسون.

 

ممارسة الحرب بوسائل أخرى

 

جاء في تحليل نشرته صحيفة البيان في أواخر سنة 2019: "الانسحاب" كلمة شاع استخدامها بكثرة عند الحديث عن السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط. فمنذ إعلان الرئيس الأمريكي باراك أوباما في عام 2009 عن انسحاب القوات الأمريكية من العراق وأفغانستان، وإطلاق "استراتيجية إعادة التوازن" في آسيا والمحيط الهادئ، ولم يتوقف استعمالها. وبدوره استعمل دونالد ترمب كلمة الانسحاب أكثر من مرة تجاه سياسة إدارته للشرق الأوسط. ذلك يعني أن هناك استمرارية للخط الذي بدأه سلفه أوباما.

إن تفسير الانسحاب الأمريكي بأنه يعد نصرا لخصومها فيه كثير من التبسيط، وهو لا يحجب حقائقه السياسية فحسب بل ويمارس التغفيل في أن لهذا الانسحاب أهدافا استراتيجية تستكمل به الاستراتيجية الأمريكية ما بدأته في المنطقة وليس بالقطيعة معها. 

الحقيقة أن الانسحاب استمرار للحرب بوسائل أخرى. إذ تسعى الولايات المتحدة من ورائه إلى ممارسة السياسة بوسيلة مغايرة ترمي إلى إعادة تنظيم الجغرافية السياسية للحصول على نتائج فعالة في نقل الثروة من جهة لضبط منافس مكافئ أو شبه مكافئ من جهة أخرى.  

الموقف الأمريكي ههنا يريد أن يتلاعب بالمنطقة من خلال استدراج المحاور في لعبة سياسات القوة وعبر توريطها وإغراقها في حروب بينية لابتزازها وانهاكها مما يزيد من تشققها وتفريقها قوها. بمعنى آخر إدخال الحرب كعنصر في استراتيجية واشنطن وكفن من فنون الحكم السياسي لضبط المحاور المتنافسة بما يضمن ربط هذه القوى بمواثيق تضمن عدم تمردها أو محاولة منافستها لأمريكا.

الولايات المتحدة عازمة على تأخير الصعود الصيني ووضع العراقيل أمام مسيرة الصين الاقتصادية. ومن خلال توريط الصين في لعبة تنافس القوى في الشرق الأوسط لحماية مصالحها وخاصة امدادات النفط، وبالتالي تحويل المنطقة إلى منطقة صدام لإهلاك المحاور في صراعات بينية عبر إطلاق صراع واسع النطاق بينها يدفع المنطقة إلى مأزق أمني بفعل اشعال التنافسات الأمنية فيها من شأنها إدخالها في توترات متدحرجة قد تفضي إلى حروب بينية تحول من خلالها ثروات المنطقة من الدول المتنافسة إلى الولايات المتحدة.

من غير المرجح إطلاق تعارك مباشر بين دول المنطقة وأمريكا. لقد اعتادت هذه الدول على الحماية الأمريكية. غير أن الولايات المتحدة تعيد طريقة استخدام قواعدها العسكرية المنتشرة في الخليج وشمال شرق آسيا للضغط على الدول الإقليمية خاصة تلك التي ترهن حمايتها بالولايات المتحدة فتغير من أبنية القوة بطرق تجعل النزاع أرجح منه اليوم. تهدف هذه الخطوة إلى نقل المسؤولية إلى القوى المحلية لتأخذ زمام المبادرة، ويبقى التدخل الأمريكي يقتصر على الضرورة.

إن أمريكا لا تريد تثبيت إيران قطبا إقليما مهيمنا فحسب بل والتحكم في إمكانيات قوتها في الشرق الأوسط واستثمارها في تحفيز الدول، للدخول في تنافس أشد معها. ويمكن للولايات المتحدة بصفتها القوى البحرية العظمى أن تنسحب من البر وتأسيس قوة هجومية بحرية في الخليج العربي وشمال شرق آسيا، تحافظ على أصول بحرية جوهرية متواضعة وفعالة على إطلاق عمليات تدخلية عند الضرورة.

إن تسعير التنافسات الأمنية بين الدول يرسخ عدم الثقة بينها في المقابل تظهر أمريكا كطرف نزيه ليس له أغراض ومصالح خاصة إلا في ضبط الجيوبولتيك الشرق أوسطي المفكك العاجز عن ضبط نفسه بنفسه فهو بحاجة دوما إلى إنقاذ خارجي من نفسه، أي استمرار الاستثمار العالمي بالولايات لمتحدة. وبهذا المعنى تصبح القوة الأمريكية الضامنة الأساسية للاستقرار العالمي. وبهذا المعنى ليس كما يقول زبيغنيو بريغنسكي بأنه "لا يوجد بديل واقعي للهيمنة الأمريكية" بل إن الصحيح هو أن الولايات المتحدة أوجدت استحالة البديل الواقعي للهيمنة الأمريكية وانعدام شروط إمكان ظهوره عبر هذا الترتيب الهرمي لتوزيع القوة على الخارطة الشرق أوسطية وشمال شرق آسيا فضلاً عن تفتيتها، الأمر الذي يضمن لها أن تبقى العنصر الأوحد الذي لا غنى عنه للأمن العالمي".

عمر نجيب

[email protected]