جائحة كوفيد 19 تسرع خطوات إقامة نظام عالمي جديد... هل تنجح واشنطن في انقاذ مكانة الدولار كعملة عالمية ؟

أربعاء, 2020-08-05 16:32

تتجمع وتتراكم وتختلط عناصر الازمة الاقتصادية العالمية ضمن أزمات أخرى اجتماعية وسياسية وصحية في ظل تفشي جائحة كوفيد 19 عبر كل أرجاء المعمور دون وجود رؤيا واضحة عن المدى الزمني لاستمرار أو انتهاء هذه الجائحة أو امكانية العثور على علاج أو لقاح فعال.
الكل يتحدث عما هو قادم بعد كوفيد 19، البعض متفائل بتحسن سريع خاصة على الصعيد الاقتصادي وآخرون يتحدثون عن تحسن أقل سرعة، كما أن هناك من لا يرى سوى مزيد من الازمات وارتفاع حدة الصراعات حتى الوصول إلى الحروب الاقليمية او العالمية. غير أن هناك اجماعا على أن عالم ما بعد كوفيد أو حتى في ظل استمرار الوباء سيكون مخالفا بشكل كبير للعالم الذي كنا نعرفه عند مطلع سنة 2020.
في السنوات العشر الأخيرة من العقد الثاني للقرن الحادي والعشرين، كان العالم يشهد صراعا اساسا بين كل من روسيا والصين من جهة والولايات المتحدة وبعض حلفائها من جهة أخرى من أجل الحفاظ أو تعديل النظام العالمي القائم على القطبية الواحدة الذي تكرس مع نهاية عقد التسعينات من القرن العشرين مع انهيار الاتحاد السوفيتي.
في هذا الصراع كان واضحا وخاصة منذ سنة 2010 أن قدرات الولايات المتحدة عسكريا واقتصاديا وسياسيا في تقلص في حين أن قدرات خصومها كانت في تصاعد، ولكن رغم ذلك ظلت واشنطن خاصة من حيث القدرات الاقتصادية في المقدمة ليس لأن اقتصادها وصناعتها متفوقة على الآخرين بل لأنها تملك أغلب مفاتيح تحريك الاقتصاد العالمي وذلك بفضل عملتها التي جعلتها اداة تداول واحتياط عالمية. لهذا كان السبيل الوحيد لإنهاء هذه الهيمنة خلال مهلة زمنية مرئية، إذا استبعدنا الوصول إلى ذلك عبر هزيمة الولايات المتحدة عسكريا في حرب عالمية، هو إنهاء دور الدولار الأمريكي كعملة عالمية.
الدولار كسلاح
كتب المحلل الاقتصادي العربي فواز بن حمد:
أصبح الدولار العملة الرئيسة في العالم بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، على أثر انتصار أمريكا وتدمير أغلب اقتصادات الدول المهمة الأخرى، بعد أن تشارك في الدور الرئيس مع الجنيه الاسترليني في النصف الأول من القرن الـ 20. ليس الدولار أول عملة تصبح الرائدة ولن تكون الأخيرة، لذلك بعد 70 عاما في القمة ترتفع أصوات من مشارب مختلفة اقتصادية وسياسية تنادي وأحيانا تتمنى إزاحة سيطرة الدولار. ازدادت وتيرة الترقب على أثر الأزمات المتلاحقة في أمريكا، خاصة بعد الأزمة المالية العالمية التي بدأت في أمريكا عام 2007 و 2008، ومن ثم تعامل أمريكا مع أزمة كوفيد 19 وتبعاتها الاقتصادية، وأخيرا حدة الاستقطاب السياسي داخليا، وتكاثر توظيف الدولار لمعاقبة دول كثيرة لأسباب مختلفة، وأخيرا ظهور الصين منافسا اقتصاديا حقيقيا، حيث تشير التقديرات إلى أن حجم الاقتصاد الصيني يفوق الأمريكي قياسا على قوة الشراء التعادلية PPP في 2020، وكذلك تفوق الصين في أنظمة الدفع الإلكترونية الحديثة وتقليل استخدام النقد. ما زال الدولار هو العملة الرئيسة ليس بسبب حجم الاقتصاد الأمريكي فقط، لكن بسبب المنظومة المالية التي تخدم الدولار من قوة وسيولة أسواق المال وحرية تعامل أسواق رأس المال، والثقة بالمنظومة الأمريكية من قبل الآخرين ومركزية نيويورك لتعاملات الدولار، وشبه هيمنة أمريكا على المنظومة العالمية بعد اتفاقية بريتون وودز بعد الحرب ممثلة في صندوق النقد والبنك الدوليين.
المعيار الأهم لمركزية الدولار يتمخض عن قبوله كعملة لاحتياطيات الدول الأخرى وهنا ليس للدولار منافس حقيقي حتى الآن. لكن هناك من الترقب ما دفع هنري بولصن الرئيس التنفيذي لـ"غولد مان ساكس" ووزير الخزانة السابق، أن يكتب مقالا مطولا في مجلة الشؤون الخارجية عن الموضوع يقول فيه، إن مصير الدولار سيتحدد في أمريكا وليس في الصين. ويضيف، إن التاريخ لا يعرف بلدا حافظ على الصدارة دون تحكم رصين في سياسة المالية العامة، خاصة استمرار العجز وارتفاع حجم الديون، إذ بدا واضحا أن هناك عجزا هيكليا يعالج مزيدا من قبل سياسة نقدية توسعية تساعد على تنامي الدين. استمرار هذا النهج مرهون بقبول الآخرين لأوراق الدين الأمريكية بسعر فائدة مقبول كما هي الحال، لكن هذا قد يتغير لأنه يعبر عن حالة عدم توازن. العجز والدين أحد أعراض التحدي الاقتصادي لكن لا بد من إصلاحات جذرية في السياسة، لتمكين الاقتصاد وجعله أكثر مرونة وتفاعلا مع التحديات الاقتصادية الجديدة خاصة في العصر التقني الجديد، فمثلا هناك حديث قديم عن تأخر البنية التحتية في أمريكا دون أخذ خطوات عملية مؤثرة. البديل مرهون بقدرة الصين على التفوق على نفسها من عدة نواح.
سارق الليل
يحذر المؤرخون من "سارق ليل" مفاجئ، أو من "ارتطام سيارة متسارعة".. "إحدى حقائق التاريخ المزعجة أن حضارات كثيرة تنهار"، هذا ما يحذر منه عالم الإنتروبولووجيا جير دياموند في كتابه: "الانهيار: كيف تختار المجتمعات النجاح أو الفشل". عدة "حضارات تتقاسم ميلا حادا للانحدار. في الحقيقة، قد يبدأ زوال مجتمع ما بعد عقد أو عقدين من بلوغ ذروته في القوة والثروة وعدد السكان".
حاليا، نايل فيرغسون من جامعة هارفارد، أحد أهم المؤرخين الماليين في العالم، يردد تحذير دايموند: "ربما يأتي الانهيار الإمبراطوري على نحو مفاجئ جدا أكثر مما يتخيله العديد من المؤرخين. فاجتماع عجوز الميزانيات المالية والاستنزاف العسكري يفترض أن الولايات المتحدة قد تكون الإمبراطورية التالية في بلوغها شفير الهاوية".
يتساءل الكاتب جوزيف ناي أستاذ العلوم السياسية فهي جامعة هارفارد وعميد سابق لكلية جون كينيدي الحكومية، هل أمريكا الآن تشبه الإمبراطورية الرومانية من حيث عوامل سقوطها.. هل ستشاركها نفس المصير؟ وما السبب في هذا التشابه إن ثبت وجوده؟ وهل التوسع الإمبريالي أحد هذه الأسباب، وهو بالتحديد ما حذر منه جيف جنارو في مقال تحليلي نشر في يوليو 2014 بعنوان “خطر التوسع الإمبريالي” والذي اختتمه قائلا “إذا لم تتعلم الولايات المتحدة الأمريكية الدرس من الإمبراطوريات السابقة، ينبغي إذا توقع انهيار اقتصادي وسياسي وعسكري"، أم أن سقوطها سيكون بسبب عوامل داخلية؟.
حقائق
حتى منتصف سنة 2020 كان الاقتصاد الأمريكي الأكثر تضررا على الصعيد الدولي نتيجة جائحة كوفيد 19، أحد الاسباب الاساسية لهذه الوضعية كان الخلل المالي القائم منذ سنوات إن لم يكن عقودا ولكنه ظل مخفيا إلى حد ما بعمليات العلاج المؤقتة إلى أن قلب فيروس كوفيد 19 أو كورونا الصورة.
يجرى تصنيف اقتصاد الولايات المتحدة دوما على أنه ضمن أقوى اقتصادات العالم، ولكن إذا ما توقف هذا الاقتصاد عن إدمانه لتلقي الديون واستنفاد ما يملك من احتياطي الذهب والعملات ، لظهرت صورة مختلفة تماما.
ووفقا لبيانات قامت وكالة أنباء “بلومبرغ” الأمريكية بجمعها ونشرها في 31 أغسطس 2019، فإن سلامة وعافية الاقتصاد الأمريكي الذي يقاس بنصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي للبلاد، سيسقط في منطقة سلبية إذا توقف عن الاقتراض.
وفي الحقيقة، ستهوي الولايات المتحدة إلى القاع ضمن ترتيب يضم 114 اقتصادا من حيث نصيب الفرد من إجمال الناتج المحلي، وستكون إيطاليا واليونان واليابان فقط هي الدول الأسوأ حالا في هذا الصدد، وسيمثل هذا “تحولا زلزاليا” مقارنة بالمركز الخامس الذي تشغله أمريكا في القائمة حاليا. وتستند القائمة إلى معايير تقليدية.
وتوصلت “بلومبرغ” إلى هذه النتيجة البائسة عبر اتخاذ توقعات صندوق النقد الدولي لإجمالي الناتج المحلي لاقتصادات دول القائمة لعام 2020، كنقطة بداية. ثم قامت الوكالة بتعديل الأرقام وتجريدها من الاقتراض، وفي نفس الوقت إضافة احتياطات كل دولة لتصبح معيارا بديلا للثروة.
وخلصت الوكالة إلى أن دخل الفرد في الولايات المتحدة، والذي يبلغ حاليا 66 ألفا و900 دولار، سيتراجع إلى أربعة آلاف و 857 دولار فقط، مما يشكل خسارة 72 ألف دولار لكل رجل وامرأة وطفل.
ورغم ذلك، ليست الولايات المتحدة وحدها في هذا المضمار، فالصورة قاتمة تماما بالنسبة لجميع دول القائمة تقريبا، حيث ستشهد 102 دولة ضمن الاقتصادات الـ 114 تراجعا في نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي، إذا ما فقدت هذه الدول، فجأة، قدرتها على الاقتراض.
وفي هذه الحالة، ستحل اليابان في المركز 96 في القائمة بدلا من الـ 18 حاليا، حيث سينهار دخل الفرد المتوقع لعام 2020، وهو 43 ألفا و 701 دولار، إلى سالب 50 ألف دولار.
وليست المملكة المتحدة هي الأخرى بمنأى عن هذا الاتجاه، ففي ظل حقيقة أن ديون البلاد واحتياطاتها النقدية تمثل 83 في المئة و5 في المئة من إجمالي الناتج المحلي للبلاد على الترتيب، سيشهد اقتصاد بريطانيا تراجعا بواقع عشرة مراكز في القائمة ليكون رقم 29، حيث سينخفض دخل الفرد من إجمالي الناتج المحلي من 43 ألفا و522 دولارا إلى تسعة آلاف و779 دولارا فقط.
وعلى النقيض من ذلك، ستشهد الصين صعودا لبعض المراكز في القائمة، حيث تمتلك البلاد أكبر احتياطي للنقد الاجنبي في العالم، ومقداره 3 تريليونات و360 مليار دولار، أي نحو 22 في المئة من إجمالي الناتج المحلي للبلاد.
ولحسن الحظ بالنسبة للأمريكيين، ليس من المنتظر أن يبرأ اقتصاد بلادهم من الديون في أي وقت في المستقبل القريب.
وحتى في ظل تصاعد حدة الحرب التجارية مع الصين، ودول أخرى، وتوقع عجز قدره تريليون دولار في الميزانية التي أعدتها إدارة الرئيس دونالد ترامب لعام 2020، فإن سوق الديون الأمريكية يسمح بمعدلات سيولة هائلة، كما أن الدولار الأمريكي هو العملة التي يقوم بها احتياطي النقدي العالمي.
وستواصل الولايات المتحدة عمليات الاقتراض. ويتوقع صندوق النقد الدولي أن يصل حجم الديون الأمريكية إلى 109 في المئة من إجمالي الناتج المحلي للبلاد خلال السنوات الخمس المقبلة. كما سيشكل حجم الاحتياطي النقدي لأمريكا، والذي بلغ متوسطه 425 مليار دولار في الفترة بين عامي 2014 و 2018 أقل من 2 في المئة من إجمالي الناتج المحلي والذي يتوقع أن يصل إلى 22 تريليون و200 مليار دولار في 2020.
اقتراض جديد وعام
ضخت واشنطن والدول التي تتبع النموذج الاقتصادي الليبرالي تريليونات الدولارات وعملة اليورو وغيرها من أجل انقاذ اقتصادها من الانهيار وما كان سيليه من ازمات، في حين فعلت نفس الأمر الدول التي تتبع نموذج الاقتصاد الموجه أو الاشتراكي حيث تتحكم الدولة في وسائل الانتاج، غير أن الفرق هو أن الفريق الأول كان يعتمد على شكل من اشكال الاقراض وضخ السيولة بدون تحكم في تبعات التضخم وأخطار إنهيار العملات، في حين أن الفريق الثاني كان يتحكم في كل العملية بدء من الاصدار حتى التحكم في الانتاج والاستهلاك.
الضخ النقدي في النظام الرأسمالي سيف ذو حدين وهو يحمل خطر خلق فقاعة مدمرة.
ووفقا لتصريحات أنخيل غوريا الأمين العام لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، فإن جهود إعادة بناء الاقتصاد العالمي بعد احتواء فيروس كورونا ستكون "ذات أبعاد هائلة". وتتضح ضخامة برامج التحفيز الاقتصادي وشموليتها من أنها امتدت إلى جميع الاقتصادات بلا استثناء تقريبا، فالعديد من الحكومات الأوروبية أعلنت عن حزم مساعدات لدعم الشركات، وثنيها عن إنهاء الوظائف.
في الولايات المتحدة قدرت حزمة المساعدات الأمريكية بنحو 10 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، من بينها مشروع قانون بقيمة 100 مليار دولار أسهم في توسيع نطاق الاجازة مدفوعة الأجر، بينما اتخذت المملكة المتحدة إجراءات غير مسبوقة لضمان دفع ما يصل إلى 80 في المائة من أجور العمال نتيجة سياسة الإغلاق.
من جهته، يقدر البروفسير إدوارد سميث الاستشاري السابق في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إجمالي برامج التحفيز العالمية مجتمعة بنحو 10 تريليون دولار، وربما تتجاوز ذلك، إذ سيتوقف الأمر على الجردة النهائية لحجم الخسائر الدولية نتيجة الوباء ومدى الركود العالمي.
ويضيف، "برامج التحفيز ستختلف بالطبع من دولة إلى أخرى، كما أن تأثير تلك البرامج على الاقتصاد العالمي سيختلف أيضا، وربما يكون برنامج التحفيز الأمريكي ومجموعة الاقتصادات الرأسمالية عالية التطور والصين هي الأهم على المستوى الدولي لضخامتها".
ويقول، إن "الأنظار ستتجه إلى برنامج التحفيز الأمريكي، نظرا للدور القيادي للاقتصاد الأمريكي على المستوى العالمي. ونظرا لأن حجم الخسائر التي مني بها الاقتصاد الأمريكي نتيجة فيروس كورونا ضخم للغاية، فإن برنامج التحفيز ضخم ومتشعب، فنحو 42 مليون أمريكي أي حوالي واحد من كل ستة عمال أمريكيين تقدموا بطلبات للحصول على معونة بطالة منذ منتصف مارس. قبل هذه الأزمة كان أعلى عدد من الطلبات في أسبوع واحد قد بلغ 695 ألف أمريكي عام 1982. كما انخفض الناتج الاقتصادي بنسبة 5 في المائة تقريبا في الأشهر الأولى من عام 2020، وهو أكبر تراجع منذ عام 2008، ويتوقع أن تصل البطالة إلى 40 في المائة، وهي أعلى بكثير من ذروته البالغة 25 في المائة خلال فترة الكساد الكبير".
ويؤكد أنه من هذا المنطلق اعتمد برنامج التحفيز الأمريكي على الدعم المالي الكثيف، ومن ثم تم الاعتماد بشكل رئيسي على مجلس الاحتياطي الفيدرالي لقيادة عملية التحفيز الاقتصادي، فخفض أسعار الفائدة إلى الصفر تقريبا، كذلك قلصت متطلبات الاحتياطات البنكية إلى الصفر أيضا، وتم شراء ما يقرب من تريليوني دولار من سندات الخزانة والأوراق المالية المدعومة بالقروض العقارية، كما تم شراء ديون الشركات والبلديات، وتقديم الائتمان الطارئ لغير البنوك.
هذا البرنامج يتم مساندته أيضا عبر حزمة تحفيز بتريليوني دولار أقرها المشروعون في الولايات المتحدة، ويمكن النظر إليها باعتبارها شكل من أشكال القروض لإخراج الاقتصاد الأمريكي من أزمته، عبر العمل على تشجيع الطلب الاستهلاكي بمدفوعات مباشرة تصل إلى 1200 دولار للفرد ومئات المليارات في شكل قروض ومنح للشركات، مع زيادات واضحة في إعانة البطالة.
ولمزيد من دفع عملية التحفيز وافق الكونغرس على حزمة إنقاذ ثانية تبلغ قيمتها الإجمالية نصف ترليون دولار تقريبا، بهدف توفير الإغاثة للشركات الصغيرة.
بصفة عامة تبنى برنامج التحفيز في الولايات المتحدة مفهوم الاعتماد على السياسة المالية لإعادة دعم الاقتصاد. واعتمد هذا المفهوم أيضا، مع تفاصيل مختلفة، في منطقة الاتحاد الأوروبي وتحديدا بلدان العملة الأوروبية الموحدة اليورو، إذ وافق وزراء مالية منطقة اليورو على حزمة مالية لتوفير الإقراض الطارئ، وتقديم مساعدات للدول الأعضاء والشركات والعمال.
ففي ألمانيا أكبر الاقتصادات الأوروبية، ذكرت الحكومة رسميا أن توقعاتها الاقتصادية تشير إلى انكماش بنسبة 6 في المائة، ما دفعها إلى اتخاذ حزم من المساعدات المالية لتحفيز الاقتصاد، لكن برنامج التحفيز الألماني اتسم بخطوات جريئة تخلت فيها برلين عن التزاماتها الثابتة بمفهوم الميزانية العامة المتوازنة، وأجبرها الوضع الاقتصادي المتردي نتيجة الجائحة، إلى ضخ ما يقارب نحو 10 في المائة من ناتجها المحلي لدعم الاقتصاد الوطني، عبر تقديم قروض غير محدودة وشراء حصص من الأسهم.
برنامج التحفيز البريطاني يبدو ذو طابع خاص فالوباء شل الاقتصاد البريطاني في الوقت الذي تتفاوض فيه الحكومة البريطانية على علاقة ما بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. فقبل تفشي المرض، كانت هناك مخاوف بالفعل بشأن الركود نتيجة مغادرة الاتحاد الأوروبي، وهذا السبب المزدوج إذا جاز التعبير هو ما دفع بوزير المالية ريشي سوناك إلى التصريح بأن الحكومة مستعدة للقيام بتدخلات "غير مسبوقة في تاريخ الدولة البريطانية" لدعم الاقتصاد.
يلاحظ أن برنامج التحفيز البريطاني تضمن إجراءات طارئة بدفع 80 في المائة من رواتب العمال لعدة أشهر لمنع الشركات من اللجوء إلى تسريح العمال بشكل كبير، وعرض تعويضات على العمال الذين يعملون لحسابهم الخاص نتيجة الأجور التي خسروها، وتأجيل المدفوعات الضريبية، وزيادة اعانات البطالة، ووضع برنامج اقراض للشركات الصغيرة والمتوسطة.
من جانبه، يقول الخبير المصرفي هاريس كولين، "على غرار البرنامج الأمريكي للتحفيز الاقتصادي يسير البرنامج البريطاني، ربما الخلاف يكمن في أن تخفيض بنك إنجلترا لسعر الفائدة القياسي لم يصل إلى صفر وإنما 0.5 في المائة، لكن في نهاية المطاف يعد مستوى قياسي منخفض، وتواكب ذلك بتخفيف متطلبات رأس المال للبنوك".
ويعتقد هاريس كولين، أن الخطوة الاستثنائية التي اتخذها بنك إنجلترا بالموافقة على تمويل الإنفاق الحكومي مباشرة خلال الأزمة، قد ساعدت بنك إنجلترا على التحرر من الاضطرار إلى زيادة المديونية عبر بيع المزيد من السندات الحكومية، وهذا يميز برنامج التحفيز البريطاني عن البرامج الأخرى، لكنه لن يحول دون أن تضخ بريطانيا نحو 400 مليار جنيه إسترليني أو حوالي 15 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في اقتصادها المحلي لإخراجه من أزمة كورونا.
ويرى البعض وفي مقدمتهم البروفسير ماك دين نائب رئيس اللجنة المالية لبنك إنجلترا بين عامي 2007 -2010، أن برامج التحفيز ولتثبت فاعليتها ونجاحها يجب أن تتبنى تدابير لدعم الطلب الكلي، وذلك رغم إقراره بأن هذا يظل غير كافي نظرا إلى أن الاقتصاد العالمي يعاني من صدمة غير مسبوقة في مجال العرض.
ويقول إن "الناس لم يعودوا إلى العمل بعد بشكل كامل، في مثل هذه الحالة، فإن تحفيز الطلب سيعزز التضخم، مما يؤدي إلى تضخم الركود نمو ضعيف أو هبوط في الناتج المحلي الإجمالي يترافق مع ارتفاع الأسعار، وبذلك فإن الإجراءات التي تستهدف جانب الطلب يمكن أن تؤدي إلى نتائج عكسية".
ويضيف "نفس الحجج تنطبق على دعم السيولة، فالعالم غارق في السيولة نتيجة انخفاض أسعار الفائدة إلى قرب الصفر تقريبا، ما يخلق فقاعة غير مستدامة".
 التحفيز الصيني
برامج التحفيز التي تبنتها الاقتصادات الرأسمالية المتقدمة، تطرح تساؤل حول برنامج التحفيز الصيني، وهل يمكن أن يسير على ذات المنوال، وما مدى قدرته على النجاح إذا تبنى ذات النمط التحفيز الغربي، بينما هيكله الاقتصادي يختلف بشكل ملموس عن الهياكل الرأسمالية في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية واليابان حيث تلعب الدولة دور أقل في توجيه الاقتصاد الوطني.
ربما أول ما يجعل برنامج التحفيز الاقتصادي للحكومة الصينية مختلفا عن الاقتصادات الأخرى، أنه يكشف عن ميل أقل لقيادة الانتعاش الاقتصادي العالمي، مقارنة بالسلوك الصيني في أعقاب الأزمة المالية لعام 2008، حيث أن تراجع معدلات نمو الاقتصاد الصيني قبل الجائحة، والتحول من نمو اقتصادي قائم على التصدير إلى نمو اقتصادي قائم على زيادة الاستهلاك الداخلي، يجعل تحمل الصين لحزم مالية ضخمة لاستعادة التوازن الاقتصادي مشكوك فيها.
مع هذا يعتقد البعض أن برنامج التحفيز الصيني سريعا ما حقق نتائج إيجابية بعكس البرامج المطبقة في الدول الرأسمالية سريعة التطور، فقد تراجع معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي في الصين بنسبة 6.8 في المائة خلال الربع الأول من عام 2020 بسبب إغلاق المصانع والشركات للحد من انتشار الوباء، لكن هذا الانكماش الاقتصادي سريعا ما تلاشى في النصف الثاني ليصل معدل النمو إلى 3.2 في المائة.
مع هذا فإن هناك تساؤلات حول مدى قدرة برنامج التحفيز الصيني الذي يوازي 4.1 في المائة من الناتج الإجمالي المحلي على مواصلة النجاح، إذا ما ظل شركاء الصين التجاريين وفي مقدمتهم الولايات المتحدة يعانون من المرض، ما يضعف الطلب على الصادرات الصينية.
يتشابه السيناريو الياباني في بعض جوانبه مع النموذج البريطاني، فالاقتصاد الياباني المدفوع بالصادرات يتوقع أن يتقلص بنحو 3 في المائة هذا العام، ليكون أسوأ أداء له منذ عام 2008. لكن التأثير العميق للوباء يأتي أيضا في أعقاب تباطؤ اقتصادي ناتج عن زيادة ضريبة المبيعات في خريف 2020.
مع هذا فاليابان مثل نظرائها في الغرب، استجابت للأزمة عبر حزمة إغاثة ضخمة، تبلغ قيمتها حوالي تريليون دولار، أي ما يعادل 20 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي.
إلا أن الباحث في الاقتصاد الآسيوي والتن كولمان يقول إن "تأثير الإنفاق الفعلي سيكون أصغر بكثير، كما أن برنامج التحفيز يواجه صعوبات حقيقية، فعلى الرغم من إعلان البنك المركزي الياباني استعداده لشراء كمية غير محدودة من الديون الحكومية، ومضاعفة مشترياته من ديون الشركات، فإن خياراته تظل محدودة بعد أن أبقى أسعار الفائدة لسنوات قريبة من الصفر، وهذا يضيق هامش الحركة لديه، ويفقد قوى الدفع داخل برنامج التحفيز القدرة على النهوض بالاقتصاد مجددا".
أزمة في الافق
جاء في تحليل نشره المحلل السياسي ألكسندر نازاروف في 26 مايو 2020:
تبدو البيانات الاقتصادية القادمة من الولايات المتحدة الأمريكية كارثية، ولا أجد كلمة مناسبة أكثر من تلك.
ووفقا لأحدث التقديرات لبنك أتلانتا الاحتياطي الفدرالي، سينخفض الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي في الربع الثاني من عام 2020 بنسبة 41.9 في المئة. ولن ينجو جزء كبير من الشركات الصغيرة ومتوسطة الحجم من الحجر الصحي الحالي، حتى مع وضع جميع برامج المساعدة الحكومية في الاعتبار، ويتحدث الأطباء بالفعل عن موجات ثانية وربما عديدة من الوباء. في الوقت نفسه يعترف المزيد من الاقتصاديين، وحتى المسؤولين، أن الركود لن يكون على شكل حرف V بالإنجليزية، أي هبوط ثم زيادة حادة، وإنما على شكل حرف L، أي سقوط ثم ركود طويل. 
لقد تضاعفت البطالة في أبريل 2020 إلى أكثر من ثلاثة أضعاف لتصل إلى 14.7 في المئة، ومن المرجح أن تستمر في النمو لبعض الوقت على الأقل.
كذلك انفجر عجز الموازنة الأمريكية، ووفقا للتوقعات قد يقترب من 4 تريليونات دولار عام 2020، وهذا إذا لم تضطر البلاد إلى فرض حجر صحي جديد قرب نهاية العام. كل ذلك يجبر الاحتياطي الفدرالي على طباعة دولارات غير مغطاة بكميات لا تصدق، وبسرعة مذهلة. وعلى مدى عامي 2018 و 2019، بلغ حجم الدولارات المتداولة الضعف تقريبا، وأثناء شهري الربيع بعد انهيار مارس، ارتفعت القاعدة النقدية للاحتياطي الفدرالي حجم الدولارات المتداولة بمقدار 2.8 تريليون دولار، لتصل إلى 7 تريليون دولار. إنه ذات النهج الذي سارت عليه الأرجنتين وفنزويلا وزيمبابوي وغيرها من البلدان التي عانت من التضخم المفرط من قبل. بالطبع، فإن مخزون قوة الدولار، كعملة عالمية أكبر، لكن هذا قد يؤجل انخفاضه فحسب، لكنه لن يمنعه.
لقد خفف هذا التدفق من المال من الكارثة الاجتماعية مؤقتا وجزئيا، كما أنه أعاد مرة أخرى سوق الأسهم إلى ذروتها، لكن كما يحدث دائما، أصبح الأغنياء أكثر ثراء، على خلفية فقر الفقراء، واتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء، وازدياد التفسخ الطبقي. لم تعد سوق الأوراق المالية تعكس الواقع هي الأخرى، وتوقفت عن أداء وظيفتها. لقد ماتت الرأسمالية في الولايات المتحدة الأمريكية.
وعلى الرغم من أن احتمالات إعادة انتخاب دونالد ترامب على خلفية ما سبق تتدهور بكل تأكيد، إلا أن الحزب الديمقراطي، في المقابل، يفعل كل ما يلزم من أجل خسارته في معركة الانتخابات الرئاسية، بترشيحه أحد ممثلي النخبة الفاسدة القديمة، والمتورط في فضائح فساد بأوكرانيا، جو بايدن، والذي لا يرجح فوزه أمام ترامب، أي أن فرص إعادة انتخاب ترامب لا زالت كبيرة على أي حال.
يحدث كل ذلك بالتوازي مع تغير كبير للصورة الديموغرافية والعرقية بين سكان الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما يؤدي فعليا إلى تغير في توازن القوى السياسية، حتى أن الحزب الديمقراطي يمكن أن يحصل على السيطرة الكاملة على مجلسي البرلمان الأمريكي هذا الخريف، لتصبح قضية عزل ترامب، حال انتخابه لفترة رئاسية ثانية، مسألة وقت لا أكثر.
إن المجتمع الأمريكي يعاني اليوم من انقسام شرس غير مسبوق، وهو ما يعكس مواجهة بين فئات تختلف فيما بينها على أساس العرق والخلفية الاجتماعية. وفي هذا العام، أو ربما عام 2021، من المحتمل أن تتم الإطاحة برئيس منتخب شعبيا، يعبر عن مصالح الأمريكيين البيض المحافظين بأي ذريعة مختلقة. يتزامن ذلك مع فقدان البيض لأغلبيتهم المطلقة، على الأقل بين الفئة الأكثر نشاطا تحت سن 50-60 عاما، أي أن الانقسام حول قضية عزل الرئيس سوف يمس كل الحدود التي تقسم المجتمع الأمريكي، وعلى رأسها التقسيم العرقي. هكذا تبدأ الحروب الأهلية والعرقية، ولا حاجة للتذكير بأن سكان الولايات المتحدة مدججون بالسلاح. 
كل هذا سوف يحدث على خلفية أزمة اقتصادية غير مسبوقة، وأكبر انخفاض في مستوى معيشة الأمريكيين على مدى عدة أجيال، أي أن درجة السخط الاجتماعي سوف تكون عالية جدا، وسيصبح الكثير من المواطنين الأمريكيين على أتم استعداد للاحتجاج أو المشاركة في المواجهات.
ليس هناك ما يضمن أن تجري الأحداث على هذا النحو، لكنه أحد السيناريوهات الواقعية المحتملة.
ماذا يحدث لو أصبح الرئيس الأمريكي القادم جو بايدن؟
لن تصبح الأزمة الاقتصادية الأمريكية أقل عمقا، ولن تصبح الاحتجاجات أقل اتساعا، لكن المحافظين البيض سيحاولون الانتقام لا على مستوى الدولة، وإنما على مستوى الولايات أو الجمعيات أو حتى بالنزعات الانفصالية. على أي حال، ستمر الولايات المتحدة الأمريكية بأعمق أزمة للنظام في الخريف القادم، ويمكن حتى أن تستمر فترة أطول من الركود الاقتصادي، ولا أحد يمكنه الجزم بما إذا كانت ستستطيع الخروج من هذه الأزمة على نفس الشكل الذي دخلت به فيها أم لا.
طبع الأموال
يمكن لأحدهم أن يقول: وماذا هنالك، طبعوا 4 تريليونات عقب اندلاع أزمة 2008، ولم يكن هناك تضخم مفرط، وسيطبعون 4 تريليونات الآن، البورصات تنمو...
الحقيقة هي أن الأسعار تعني التوازن بين كمية المال وكمية البضائع. فإذا قمت بطباعة ضعف كمية الأموال "من الهواء"، فلابد أن ترتفع الأسعار. وإذا قمت بطباعة المزيد من الأموال، فلابد أن يحدث تضخم مفرط كما حدث في زيمبابوي. هذا هو قانون الاقتصاد، وقانون الحفاظ على الطاقة في علم الفيزياء أيضا.
ولكن، لماذا لا يوجد تضخم في نظام الدولار بعد؟
يوجد هذا التضخم، لكنه في قطاعات منفصلة، وليس في السلع الاستهلاكية لسببين:
الأول، هو أن تريليونات الدولارات واليورو والين التي تمت طباعتها عقب الأزمة السابقة أدت إلى تضخم فقط في القطاعات التي لم يتم فيها تلبية الطلبات. بمعنى، أن الغرب يتميز عموما بارتفاع مستوى المعيشة، وقد وصل الأمريكيون والأوروبيون إلى حد التشبع في استهلاك السلع اليومية. أي أن الأمريكي سوف يأكل نفس عدد شطائر الهامبورغر ويشرب نفس عدد أكواب اللبن التي سوف يشربها بالراتب الحالي، حتى لو أعطيناه ألف دولار إضافية، لأنه يأكل الحد الأقصى، وليس بإمكانه أن يستهلك أكثر. يعني ذلك أن 4 تريليونات دولار إضافية لا يمكن أن تجعل الأمريكيين يرغبون في شراء 4 تريليونات شطيرة هامبورغر إضافية، لأنهم يستهلكون فعليا الحد الأقصى من الهامبورغر. أي أن الطلب الإضافي على السلع الاستهلاكية الأساسية لا يزداد بضخ تريليونات جديدة. لكنه يزداد في مجالات أخرى لا يتم فيها تلبية الطلب، مثل التعليم والصحة والإسكان وسوق الأوراق المالية، وهي القطاعات التي نلمس فيها ارتفاعا في أسعار كل شيء، بل وتضاعفت تلك الأسعار في السنوات الأخيرة. هذا بالتحديد هو الفرق بين الولايات المتحدة الأمريكية وزيمبابوي، فالطلب على الهامبورغر سينمو 100 مرة، إذا ما منحت الفرد في زيمبابوي 100 دولار إضافية، وسيكون هناك تضخم مفرط على الفور. أما إذا ما منحت الأمريكي 100 دولار إضافية، فسوف يستثمرها في الأسهم، وسيحدث تضخم في سوق الأسهم.
الثاني، هو أنه طالما لم يكن هناك أي نقص في السلع اليومية في السوق، فلن تؤدي تريليونات الدولارات إلى التضخم المفرط. هنا تأتي "البجعة السوداء" الصينية فيروس كورونا، فتوقف المصانع حول العالم، وتغلق المطاعم، وتقطع السلاسل التجارية. فعلى سبيل المثال، انخفضت صناعة السيارات في كوريا الجنوبية في فبراير بمقدار الربع.
باختصار، فإن الغرب والعالم أجمع سيعاني للمرة الأولى منذ عقود من نقص في السلع، في الوقت الذي يبدأ فيه بالفعل ضخ أموال للتداول بسرعة كبيرة، وبمبالغ هائلة.
على هذا المنوال، سوف يدخل العالم إلى المرحلة قبل الأخيرة في انهيار النظام المالي العالمي، من خلال ضخ تريليونات الدولارات واليورو والين، وهو ما سيؤدي إلى ارتفاع مؤقت في البورصات، وسنرى الأعاجيب بينما ترتفع أسعار أسهم المصانع والشركات المتوقفة...
سوف يساعد ضخ الدولارات في تقوية الدولار مؤقتا، حيث معظم القروض تترجم إلى الدولار، ويحتاج إليه الجميع على خلفية موجات الإفلاس. ولكن فيما بعد، وحينما تهدأ الأسواق قليلا، سيجد المستثمرون أن الأموال كثيرة، دون أن تأتي بأي أرباح. ولا يمكن استثمارها في أي مكان، فجميع السندات والأسهم تؤدي إلى الخسارة. وحينها تبدأ أسعار الأصول المادية في الارتفاع، كل الأصول التي يمكن وضعها في الجيب ولمسها باليد: الذهب، الحبوب، النفط وغيرها.
وبنفس الكيفية التي لم تتمكن بها تريليونات الدولارات المطبوعة بعد عام 2008 من تجنب "الخميس الأسود"، 12 مارس 2020، فلن تتمكن تريليونات الدولارات الجديدة المطبوعة من منع انهيار جديد. وحينها سوف ينهار الهرم العالمي للقروض والنظام المالي العالمي، ويبدأ التضخم المفرط حول العالم.
الثقة في الذهب
يوم الاثنين 3 أغسطس 2020، تجاوزت أونصة الذهب مستوى 2000 دولار لأول مرة في التاريخ، حيث وصل إلى 2009.5 دولار كأعلى سعر. وتأتي الارتفاعات المتواصلة للذهب بالتزامن مع الطلب المتزايد عليه كملاذ آمن نتيجة لتداعيات جائحة كورونا التي تضرب الاقتصاد العالمي وانخفاض الثقة بالدولار الأمريكي.
قبل ذلك وفي 23 يوليو لحقت الفضة بقطار الملاذات الآمنة بسرعة تفوق الذهب بعد أن قفزت أسعارها بنحو 97 في المائة منذ تفشي وباء كورونا، مسجلة أعلى مستوياتها منذ 2013، متجاوزا 23 دولارا للأوقية يوم 23 يوليو الجاري، مقابل نحو 11.8 دولار للأوقية هو إغلاق 18 مارس مع تفشي الفيروس عالميا.
الانخفاض الكبير
في هذه الاثناء واصل الدولار انخفاضه الكبير في نهاية شهر يوليو 2020، مما يضعه على مسار تسجيل أكبر انخفاض شهري في عشر سنوات إذ يخشى المستثمرون من خروج انتعاش للاقتصاد الأمريكي عن مساره بفعل صعوبات في احتواء وباء فيروس كورونا، وفقا لـ"رويترز".
ودعم ضعف العملة الأمريكية اليورو ليرتفع، إذ لامست العملة الأوروبية الموحدة 1.19 دولار وهي أقوى مستوياتها منذ مايو 2018، لتسجل أفضل أداء شهري منذ سبتمبر 2010.
وتقوضت الثقة في العملة الأمريكية أكثر بعد أن أثار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب احتمال إرجاء انتخابات الرئاسة الأمريكية المقررة في نوفمبر.
جاء ذلك في نفس اليوم الذي أظهرت فيه بيانات الناتج المحلي الإجمالي انكماشا بوتيرة سنوية 32.9 في المائة في الربع الثاني، وهي أسرع وتيرة منذ الكساد الكبير، فيما تشير بعض البيانات الحديثة إلى أن التعافي الاقتصادي يخسر قوة الدفع.
في مؤشر آخر على تراجع العملة الأمريكية خفضت وكالة "فيتش" للتصنيف الائتماني يوم 2 أغسطس 2020 درجة الآفاق الاقتصادية للولايات المتحدة من "مستقرة" إلى "سلبية"، على خلفية "التدهور المستمر للمالية العامة".
وعلى الرغم من إبقائها التصنيف الائتماني للولايات المتحدة في أعلى درجة "أيه أيه أيه"، أشارت الوكالة إلى "غياب خطة ذات مصداقية لتصحيح أوضاع المالية العامة"، بحسب "الفرنسية".
وشددت وكالة التصنيف الائتماني في بيان على أن "عجز المالية العامة وارتفاع الدين كانا في مسار تصاعدي قبل بداية الصدمة الاقتصادية" التي سببها تفشي فيروس كورونا المستجد.
وذكرت الوكالة بأن الدين العام لأكبر قوة اقتصادية في العالم هو الأكبر بين الدول التي تحظى بأعلى تصنيف ائتماني.
وبحسب تقديرات "فيتش" ستتخطى نسبة الدين العام 130 في المائة من إجمالي الناتج المحلي الأمريكي بحلول عام 2021.
وتابعت الوكالة أن هذه النسبة يمكن أن تستقر "مؤقتا بدءا من عام 2023" إذا ما عادت أرصدة الموازنة إلى مستويات ما قبل الجائحة "شرط بقاء معدلات الفائدة عند مستويات متدنية للغاية".
كما توقعت الوكالة ارتفاع تكلفة القطاع الصحي والضمان الاجتماعي على المدى المتوسط.
قبل ذلك ويوم الجمعة 31 يوليو أظهرت إحصاءات تدفقات الصناديق الأسبوعية لبنك أوف أمريكا، أن مديري الأموال خصصوا 3.9 مليار دولار للذهب، في ثاني أكبر تدفقات أسبوعية على الإطلاق، وكذلك 5.6 مليار دولار للنقد.
وسجلت أدوات النقد دخول إجمالي تدفقات صافية بواقع 1.1 تريليون دولار في النقد منذ بداية 2020 إذ تسببت إجراءات العزل العام المدفوعة بكوفيد 19 في اضطراب الاقتصادات العالمية.
وتظهر البيانات الأسبوعية أن صناديق السندات استقطبت 17.2 مليار دولار، من بينها 12.6 مليار دولار ذهبت إلى السندات المصنفة عند درجة جديرة بالاستثمار. وسجلت السندات ذات العوائد المرتفعة تدفقات داخلة صافية في 17 من بين 18 أسبوعا فائتا.
وتدفق خارجا 1.9 مليار دولار بشكل صاف من الأسهم، فيما شهدت الأسهم في الولايات المتحدة أكبر نزوح للتدفقات في أربعة أسابيع، بينما تدفقت الأموال إلى الأسهم الأوروبية للأسبوع الثالث على التوالي.
وقال بنك أوف أمريكا "في رأينا، القصة الأكبر في العصر المقبل هي لحكومة أكبر، وعالم أصغر، وسياسة مالية غير تقليدية تسرعها الجائحة، يبشر بها ارتفاع الذهب وضعف الدولار الأمريكي".
خفضت وكالة فيتش الأمريكية للتصنيف الائتماني توقعاتها للديون السيادية للولايات المتحدة إلى سلبية، بينما أبقت تصنيفها للبلاد عند "أيه أيه أيه" دون تغيير، مستشهدة بمخاطر على قدرتها الائتمانية في خضم تصاعد أعباء الديون.
وقالت فيتش عقب إغلاق الأسواق اليوم الجمعة إن تغيير التوقعات يعكس "التدهور الجاري في الماليات العامة الأمريكية وغياب خطة ترشيد مالي موثوق فيها".
بحسب "الألمانية"، قالت الوكالة إن "هناك خطرا متناميا من أن صناع السياسة الأمريكيين لن يقوموا بترشيد الماليات العامة بشكل كاف لإحداث استقرار للدين العام، بعد أن ولت صدمة الجائحة"، مشيرة إلى الإنفاق الحالي للمساعدة في التخفيف من حدة ضربة تفشي فيروس كورونا. وبالمعدل الحالي للإنفاق، سيبلغ الدين الوطني في الولايات المتحدة 130 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي السنوي، وهو الأعلى بين أي دولة ذات تصنيف "أيه أيه أيه".
وتأتي الخطوة في خضم جمود تشهده واشنطن بشأن مشروع قانون لإطلاق حزمة تحفيز جديدة، بعد أن أصدر الكونغرس بالفعل تشريعا بشأن 3 تريليونات دولار لمساعدة الاقتصاد وتمويل الاستجابة الطبية للجائحة.
عمر نجيب
[email protected]