معركة الاتحاد الاوروبي المتدرجة للتخلص من الهيمنة الأمريكية... برلين وباريس والبحث عن صيغ تحالفات جديدة في عالم يعاد تشكيله / عمر نجيب

ثلاثاء, 2020-06-23 06:01

عندما انفجرت الأزمة الإقتصادية في اليونان في أبريل 2010 وطلبت حكومة اثينا من الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي تفعيل خطة إنقاذ تتضمن قروضا لمساعدة الدولة على تجنب خطر الإفلاس والتخلف عن السداد، تحدث عدد من المسؤولين خاصة في المانيا عن وجود أطراف تسعى لتخريب الجهود الأوروبية لمساعدة اليونان وضرب العملة الأوروبية اليورو. لم يسم المسؤولون الكبار في الاتحاد الأوروبي الطرف المخرب ولكن وسائل الاعلام ومحللين اقتصاديين غربيين وجهوا أصابع الاتهام إلى الولايات المتحدة.
مر حل الأزمة الاقتصادية اليونانية بثلاث مراحل:
حزمة الإنقاذ الأولى من مايو 2010 حتى يونيو 2011
حزمة الإنقاذ الثانية في فبراير 2012
حزمة الانقاذ الثالثة في اغسطس 2015
لا ينكر أحد أن خطط الانقاذ حملت اليونانيين أثقالا مؤلمة ولكنها كانت ضرورية في نظر كثيرين لتعديل أوضاع اقتصادية كارثية.
خلال السنوات الخمس الأولى من الأزمة تدخلت واشنطن عدة مرات تحت غطاء موقف معلن مفاده مساعدة أثينا وبروكسل على إيجاد تسوية تنفع الطرفين وتسمح بتحسن وضع الاقتصاديات الغربية وتبقي عضوية أثينا في التجمع الأوروبي.
مارست واشنطن ضغوطا على الأوروبيين وخاصة ألمانيا وفرنسا في موضوع اليونان لتقوما بشطب قسم من ديون الأخيرة، فأرسلت وزير ماليتها جاكوب جوزيف ليو إلى برلين يوم 16 يوليو 2015 ليلتقي نظيره الألماني فولفغانغ شويبله، وبعد ذلك غادر إلى باريس ليلتقي نظيره الفرنسي ميشيل سابين ويطرح نفس الفكرة.
الوزير الألماني عبر عن رفض برلين للمقترحات الأمريكية حيث قدر أنها بمثابة لغم وفخ، قائلا لإذاعة دويتشلاند الألمانية: “إن إلغاء الديون لا يتوافق مع عضوية الاتحاد النقدي لمنطقة اليورو. الرد ألالماني كان حازما واعتبر تحديا في حينه للأمريكان ... ولعلها من المرات القليلة حتى ذلك التاريخ، التي يتحدى فيها وزير ألماني السياسة الأمريكية بمثل هذا الوضوح.
خبراء ذكروا إن عملية إلغاء الديون دون اصلاح كانت ستضعف التركيبة الاقتصادية الأوروبية وستفتح الباب أمام دول اخرى في الاتحاد لتلقى معاملة مماثلة لليونان، الأمر الذي من شأنه إضعاف مركز عملة اليورو ومنع نموها أو تثبيت وتوسع ساحة التعامل بها عالميا، وهو ما يعزز قدرتها على منافسة الدولار كعملة تعامل واحتياطي.
قبل أن تشجع واشنطن بريطانيا على الخروج من التركيبة الوحدوية الأوروبية وبعد أن فشل تمسك لندن بعملتها الجنيه الاسترليني في إضعاف اليورو، ضغط البيت الأبيض من أجل ضم تركيا إلى الاتحاد وقد قدر سياسيون في برلين في ذلك التوقيت أن واشنطن تريد اضافة عضو حليف قوي لها إلى بريطانيا حتى تفرض واقعا معينا.
يوم الثلاثاء 10 ديسمبر 2002 وقبل أشهر قليلة من غزو القوات الأمريكية للعراق اكد الرئيس الامريكي جورج بوش ان واشنطن تقف الى جانب انقرة في تطلعها للانضمام الى الاتحاد الاوروبي، وذلك خلال استقباله رجب طيب اردوغان، زعيم حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا.
وقال بوش "نقف الى جانبكم في رغبتكم للانضمام الى الاتحاد الاوروبي" مشيدا بالتزام اردوغان "في سبيل الديموقراطية".
ورحب الرئيس الامريكي بكون تركيا "حليفة وصديقة" للولايات المتحدة وهنأ اردوغان على نجاح حزبه في انتخابات نوفمبر.
وذكر بوش "انني مندهش لفوز حزبكم".
التصريح الامريكي جاء بعد شهر من تصريح رئيس الاتفاقية حول مستقبل اوروبا فاليري جيسكار ديستان ان انضمام انقرة سيشكل "نهاية الاتحاد" ويطرح السؤال حول حدود اوروبا.
 عض الاصابع
 
طوال فترة العشر سنوات التي ارخت بدايتها الأزمة اليونانية، تصاعدت تدريجيا عملية عض الاصابع بين واشنطن وبروكسل، حيث أراد كل الرؤساء الامريكيين الذين تعاقبوا على البيت الأبيض وأن كان بدرجات متفاوتة من الحدة جعل الاتحاد الأوروبي جزء مما يسمى الدرع الأمريكي لمواجهة المنافسين والخصوم.
الرئيس الأمريكي ترمب كان أكثر جرأة من سابقيه في محاولة إعادة أوروبا إلى الحظيرة الأمريكية، وتحديد دورها الاقتصادي العالمي في نطاق ما يسمى تقسيم العمل، كما ذهب أبعد من سابقيه في جهود واشنطن لانتزاع امتيازات دول أوروبية وفي مقدمتها فرنسا من مناطق أفريقية أساسا بإستخدام أساليب الثورات الملونة والتنظيمات المسلحة المتطرفة.
رغم كل ذلك لم يصل الأمر إلى مرحلة متقدمة من المواجهات وذلك لسببين رئيسيين، أنه كانت في عضوية الاتحاد اطراف ملتزمة بالولاء التام للسياسة الامريكية وفي مقدمة هؤلاء بريطانيا فيما تذبذت مواقف دول اخرى بين الولاء للإتحاد والتبعية للبيت الأبيض مثل بولندا والمجر. بريطانيا تم التخلص من عضويتها في فاتح فبراير 2020، وهو أمر وصفه سياسي ألماني بالتخلص من زعيم ومحرك الطابور الخامس.
السبب الثاني هو أن أهم أو أقوى طرفين اقتصاديين في الاتحاد أي ألمانيا وفرنسا أرادا تأجيل أي مواجهة مع واشنطن لأطول وقت ممكن حتى يتم تجنب خسائر اقتصادية كبيرة محتملة والابقاء على الدعم العسكري في مواجهة روسيا التي أفاقت من غيبوبة حكم يلتسين وأعادت بناء قوة ردعها العسكري، وحتى تتضح صورة النظام العالمي الجديد والافاق التي يفتحها لإوروبا، حتى تختار أشكال التحالفات والتعاون الاقتصادي المستقبلية مع الصين وروسيا والتكتلات الاقتصادية والسياسية المرشحة للبزوغ في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا وجنوب آسيا.
 
الاقتصاد أحد أعمدة القوة
 
كتب المحلل مارتن ساندبو من لندن في صحيفة فاينانشال تايمز يوم الخميس 12 ديسمبر 2019:
تطلب الأمر أصواتا مشفرة من طائرة هليكوبتر تابعة لسلاح مشاة البحرية الأمريكية، لتفعيل تصميم أوروبا على عدم الخضوع لهيمنة الدولار، بعد الآن.
عندما غادر الرئيس الأمريكي دونالد ترمب مبكرا من قمة مجموعة السبعة في شارليفوا كندا، في يونيو عام 2018، وانسحب بشكل مفاجئ من بيان رسمي مشترك، ترك القادة الأوروبيين أولا "عاجزين عن الكلام، ثم مصممين على العمل معا"، كما يقول مارتن سيلماير، الأمين العام للمفوضية الأوروبية برئاسة جان كلود يونكر الذي ينظر إليه منذ فترة طويلة بأنه المسؤول الأكثر نفوذا في بروكسل.
يقول سيلماير: "ركوب ترمب طائرة الهليكوبتر في شارليفوا أثار فكرة السيادة الأوروبية. تعزيز الدور الدولي لليورو كان إحدى الإجابات عن تلك اللحظة السياسية".
بعد ذلك ببضعة أشهر فقط، تعهد يونكر بجعل اليورو "يلعب دوره الكامل على الساحة الدولية".
المفوضية التالية تبدو حريصة على التقاط عصا المايسترو: أورسولا فون دير لاين الرئيسة الجديدة أدرجت هدف تعزيز اليورو في الرسائل إلى فريقها.
منذ بداية العام كانت المفوضية تعمل بهدوء لتعزيز استخدام اليورو في الفواتير عبر الحدود خاصة بالنسبة إلى منتجات الطاقة.
تم إنشاء مقاصة للتحايل على التهديدات الأمريكية، لإبعاد الشركات التي تتعامل مع إيران من نظام الدولار. وتم حث البنك المركزي الأوروبي على تفادي العواقب الاقتصادية المترتبة على زيادة استخدام اليورو على المستوى الدولي.
في الوقت الذي تتطلع فيه أوروبا بحذر إلى المنافسة المتزايدة التي تواجهها صناعاتها الرئيسة من الصين، والقيادة المتقلبة على نحو متزايد لحليفها الأمريكي أصبح دور اليورو أحد الأركان الرئيسة لإعادة التفكير العميق في المنطقة حول كيفية دفاعها عن مصالحها التي تشمل السياسة الصناعية والتجارة.
 
سياسة الدفاع
 
بالنسبة إلى القادة الأوروبيين، فإن اليورو الذي يشغل مكانة أبرز، ضروري لضمان الاستقلال المالي والنقدي في المنطقة وحمايتها من محاولات الولايات المتحدة، لتسليح الدولار من خلال العقوبات المالية.
يعتقد جوزيف بوريل الممثل الأعلى للشؤون الخارجية، أن المشروع الرامي إلى تعزيز مكانة اليورو ينبغي التعامل معه على قدم المساواة مع سياسة الدفاع: "ينبغي علينا تعزيز دور اليورو الدولي، وكذلك قدرتنا العسكرية على العمل، يجب أن يتعلم الاتحاد الأوروبي استخدام لغة القوة"، كما قال أمام البرلمان الأوروبي.
عقدة النقص النقدي في أوروبا تعود إلى وقت بعيد. قبل نصف قرن، أعرب فاليري جيسكار ديستان وزير المالية الفرنسي آنذاك، عن أسفه من "الامتياز المفرط" لواشنطن، تفوق الدولار الذي وضع أوروبا في وضع غير موات تجاريا، وساعد على توفير حافز الأوروبيين على الطريق الطويل للاتحاد النقدي.
الاستياء نفسه عاد إلى الظهور مع الفوضى النقدية التي أطلقها ريتشارد نيكسون، الرئيس الأمريكي في ذلك الحين، عندما فكك نظام سعر الصرف المتبع في اتفاقية بريتون وودز، بشكل أحادي، من خلال إزالة ربط الدولار بالذهب عام 1971.
يقول سيلماير إن شارليفوا كانت "لحظة نيكسون ثانية" بالنسبة إلى أوروبا.
الازدراء في مجموعة السبعة تبع إعلانات أمريكية أخرى جعلت أوروبا تشعر بالقلق من هيمنة الدولار. قرار ترمب بالانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني في مايو عام 2018، سلط الضوء على كيفية بقاء الشركات الأوروبية معتمدة على الأسواق المالية المقومة بالدولار. بموجب العقوبات التي أعادت فرضها إدارة ترمب، يمكن أن يواجه الأوروبيون الذين يتعاملون مع طهران عقوبات أمريكية.
التهديد أوقف من الناحية العملية الشركات الأوروبية التي تتعامل مع إيران، وقوض الحوافز الاقتصادية التي في صميم الصفقة النووية.
في أغسطس 2019، دعا هايكو ماس وزير الخارجية الألماني إلى إنشاء "قنوات مدفوعات مستقلة عن الولايات المتحدة ونظام سويفت مستقل". نظام سويفت، خدمة رسائل تستخدم لتوجيه المدفوعات عبر الحدود، قائم في بلجيكا، لكنه موجود في الولايات المتحدة، وهو جزء لا يتجزأ من نظامها المالي.
ردا على ذلك أنشأت ألمانيا وفرنسا وبريطانيا مقاصة مالية للصفقات مع إيران، معروفة باسم إنستيكس.
هل يمكن أن تكون هذه الجهود أكثر نجاحا من محاولات أوروبا السابقة للتحرر من هيمنة الدولار؟ التوقيت مناسب، حيث يواجه الدولار رياحا معاكسة بسبب سياسات ترمب المتقلبة، وهناك بلدان أخرى تبحث أيضا عن بدائل للنظام المالي الأمريكي.
يحذر باري إيتشنغرين، أستاذ الاقتصاد في جامعة كاليفورنيا، بيركلي، من أن هيمنة العملة يمكن أن تتغير، و"يمكن أن نتخيل هذا التحول يحدث بسرعة كبيرة إذا ما حدث خطأ ما".
اليورو هو ثاني أكثر العملات استخداما في العالم. ويمثل نحو خمس احتياطات النقد الأجنبي العالمي، ونسبة مماثلة للحيازات الدولية من السندات والقروض والودائع، مقارنة بأكثر من النصف بالدولار.
أحد المجالات القليلة التي يقترب فيها اليورو من مطابقة الدولار هي في المدفوعات العالمية والفواتير، حيث تمثل كلا العملتين نحو 40 في المائة لكل منها وذلك وفقا لأرقام البنك المركزي الأوروبي.
مع ذلك، فإن التجارة بين القوتين الاقتصاديتين مقومة بالدولار بشكل ساحق.
وفقا لأبحاث صندوق النقد الدولي، يتم إصدار فواتير ثلاثة أرباع مبيعات منطقة اليورو إلى الولايات المتحدة، وأكثر من 90 في المائة من وارداته من هناك بالدولار.
إطلاق اليورو عام 1999 أدى إلى إيجاد توقعات أن العملة الأوروبية ستتمتع قريبا بمكانة متساوية مع الدولار.
بعد فترة نمو أولية، أصبح دوره في الاقتصاد العالمي راكدا أو تقلص، إلى الحد الذي أصبح فيه اليورو الآن أقل أهمية مما كان عليه وقت إنشائه.
"وفقا لبعض المقاييس لا يلعب اليورو دورا أكبر من المارك الألماني والفرنك الفرنسي الذي حل محلهما"، وذلك وفقا لدراسة جديدة أجراها خبراء الاقتصاد إيثان إلزيتزكي وكارمن رينهارت وكينيث روجوف.
الثلاثة يجادلون بأن "السبب الرئيس هو ندرة الأصول القابلة للتسويق ذات الجودة العالية المقومة باليورو، والافتقار العام للسيولة مقارنة بأسواق السندات المقومة بالدولار".
بسبب تخفيضات التصنيف الائتماني في الأزمة السابقة وسوق الأوراق المالية الخاصة التي لا تزال مجزأة، فإن اليورو لديه عدد قليل جدا من الأصول الموثوقة التي يستخدمها المستثمرون العالميون كاحتياطات: عادة ما تكون سندات ذات تصنيف ائتماني AAA آمنة للغاية تصدرها حكومات أو شركات ذات جدارة ائتمانية.
البنك المركزي الأوروبي يتفق مع ذلك، وذلك وفقا لبينوا كوريه، أحد أعضاء مجلسه التنفيذي. "في تحليلنا، الخطوة الأكثر أهمية ستكون تعميق أسواق رأس المال الأوروبية وإدخال أصول آمنة. هذا سيغير قواعد اللعب".
في الواقع، لم يسبق لأي عملة أن اكتسبت هيمنة دون أسواق سائلة في أصول قياسية، كما يقول إيتشنغرين. "إذا نجحت أوروبا في تعزيز الدور الدولي لليورو بشكل كبير دون هذه الخطوة، فستكون هذه سابقة".
نقص الأصول الآمنة المقومة باليورو تفاقم بسبب أزمة الديون السيادية في منطقة اليورو للأعوام 2010-2012، عندما خشي المستثمرون من أن العملة الموحدة قد تنهار.
تقول جيتا جوبيناث، كبيرة الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي: "إنها فكرة جيدة تماما أن يتم تعزيز اليورو في الأسواق الدولية، لكن الشرط الضروري لهذا هو تحسين بنية منطقة اليورو لتعزيز المرونة، القدرة المالية المركزية، اتحاد أسواق رأس المال، الاتحاد المصرفي".
تعزيز بنية منطقة اليورو ليس سوى البداية. تقول إيلينا ريباكوفا، خبيرة الاقتصاد في معهد التمويل الدولي، إنه يجب أيضا دعم "الوصول الفعلي" للمستثمرين من خارج منطقة اليورو إلى العملة بشكل فعال.
 
تسعير النفط
 
من بين أشياء أخرى، يجب أن يكون البنك المركزي الأوروبي أكثر استعدادا "لتوفير خطوط مقايضة باليورو إلى مصارف مركزية أخرى خارج منطقة اليورو"، كما يفعل مجلس الاحتياطي الفيدرالي بالدولار.
وتشير إلى أن المصارف الأوروبية كانت تعتمد بشدة على التمويل بالدولار خلال الأزمة المالية، وهو ما قدمه مجلس الاحتياطي الفيدرالي، لأن الولايات المتحدة كانت في مركز الأزمة.
وتتساءل قائلة: "ماذا لو جاءت صدمة من خارج الولايات المتحدة، أو كانت لا علاقة لها بمجال مسؤولية مجلس الاحتياطي الفيدرالي؟ مع أسواق اليورو الأعمق والأكثر دعما، ستحصل على مصارف أكثر تمويلا باليورو".
يغلب على خبراء الاقتصاد قياس الدور العالمي للعملة، من خلال النظر في استخدامه في الاحتياطات الدولية للمصارف المركزية وكبار المستثمرين من القطاع الخاص.
في الآونة الأخيرة، بدأوا يهتمون أكثر بمقياس مختلف: اختيار العملة للفواتير التجارية والصفقات.
"أصول هيمنة العملة تكمن في الصفقات"، كما تقول جوبيناث، التي تعتقد أن الاستخدام الكبير للدولار في التجارة عامل مهم في "امتيازه المفرط".
وتضيف: "بالنسبة إلى عديد من الأسواق الناشئة، يتم إصدار أكثر من 80 في المائة من وارداتها بالدولار. لحماية نفسها من تحركات العملة، من الطبيعي تماما أنها ستختار الادخار بالدولار، الأمر الذي بدوره يؤدي إلى هيمنة الدولار في أسواق الأصول".
وهي تجادل أن المركز المهيمن في الفواتير والمدفوعات يجلب معه مزايا في الاقتصاد الكلي. وتقول: "بقية العالم أكثر حساسية بكثير للسياسة النقدية الأمريكية مما هو بالعكس. التضخم الأمريكي معزول تماما عن تحركات عملتها".
هذا هو السياق لحملة المفوضية الأوروبية لزيادة حصة اليورو من التجارة مع العالم الخارجي، ولا سيما في مجال الطاقة.
أصدرت فون دير لاين تعليماتها إلى كادري سيمسون، مفوض الطاقة قائلة: "للنظر في طرق زيادة استخدام اليورو في أسواق الطاقة بشكل حاد".
يبدو أن المبادرة تؤتي أكلها منذ الآن. بعد اجتماع بين مسؤولين روس ومسؤولين من المفوضية في يونيو 2019، ذكرت وسائل الإعلام الروسية أنه سيتم تشكيل لجنة عمل مشتركة بشأن إصدار فواتير الطاقة بعملة غير الدولار.
في أكتوبر 2019، أعلنت شركة روسنفت أكبر شركة روسية لإنتاج النفط، أنها تحولت إلى اليورو من الدولار لجميع عقود صادراتها.
تجادل ريباكوفا أن السلطات الأوروبية يمكن أن يكون لها بعض التأثير في نوع العملة المستخدمة في الفواتير في "السلع ذات القيمة الكبيرة" مثل أسواق الطاقة حيث إن هناك عددا محدودا من الصفقات.
وتقول: "لأسباب تاريخية في الماضي، كان يتم ربط معظم موردي الطاقة بالدولار، فالولايات المتحدة كانت المستهلك الأكبر.
الآن الأوروبيون هم أكبر المستهلكين، ولم يعد يتم ربط بعض من أكبر الموردين بالدولار".
وتوصي بإنشاء معايير جديدة لأسعار الطاقة لتشجيع الأسواق المالية، على إنشاء أدوات تحوط باليورو.
 
العملة الرقمية كبديل
 
في حين أن الخطط لتعزيز اليورو في فواتير الطاقة أحرزت بعض التقدم، إلا أن المحاولة لإنشاء بديل من اليورو لنظام سويفت كانت مخيبة للآمال، حتى مع انضمام ستة بلدان أوروبية جديدة لنظام إنستيكس.
تقول ريباكوفا إن نظام إنستيكس "لم ينجح على الإطلاق"، لأن الشركات التي تستخدم نظام إنستيكس، لا تزال تواجه خطر فصلها عن النظام المالي القائم على الدولار.
"أعتقد أن تكلفة تفويت السوق الأمريكية كبيرة فوق الحد، حيث لا يمكن أن تشارك المصارف فيه بل حتى الشركات غير المالية أيضا".
مع ذلك، يصر سيلماير على أن "الأمر الأكثر أهمية هو أن دور اليورو مدرج في جدول الأعمال ولم يختف. الأنشطة المستمرة لترمب تساعد في تعزيز الدور الدولي لليورو، فالولايات المتحدة لا تبدو شريكا موثوقا به".
تعتقد جوبيناث من صندوق النقد الدولي أنه سيكون من الصعب على اليورو إزاحة الدولار، بسبب "تأثيرات شبكة قوية جدا" تدعم العملة الأمريكية. "عندما تتداول أجزاء كبيرة من العالم مع بعضها بعضا وتدخر وتقترض بالدولار وتحتفظ باحتياطات بالدولار، فإن كل هذه القنوات تعزز بعضها بعضا، وكذلك المكانة البارزة للدولار".
إيتشينغرين من جامعة بيركلي واثق بحذر من أنه سيتم وضع الأساسيات من أجل يورو أكثر أهمية: "دائما ما كانت وجهة نظري هي أن اللحظة ستأتي، لكن علينا أن نتحلى بالصبر. بناء الإجماع يستغرق وقتا طويلا".
 
استبدال الدولار بعملات افتراضية
 
تتعرض هيمنة الدولار أيضا للضغط الآن بسبب التغيرات السريعة في تكنولوجيا المدفوعات وإطلاق عملات رقمية بديلة عن النقدية.
عندما أعلنت شركة فيسبوك في مايو 2019، أنها تريد دخول صناعة المدفوعات من خلال عملة افتراضية تدعى ليبرا، أصر وزراء المالية ومسؤولو المصارف المركزية على الفور، على أنه لن يسمح لها بالالتفاف على الأنظمة أو تقويض الاستقرار المالي.
بالنسبة إلى الحكومات، فإن الخوف النهائي هو أنه يمكن لعملة ليبرا أن تحل محل عملات البلدان، وتجعل السياسة النقدية عاجزة. هذا يمكن أن يحدث بشكل أسرع بكثير من التغيرات التاريخية في استخدام العملات، كما يحذر بينواكوريه.
ويضيف: “يغلب علينا أن نرى اختيار العملة، على أنه عملية تاريخية ترتبط بالتغيرات البطيئة في التجارة. العملات الرقمية لديها القدرة على أن يحدث التغير بشكل أسرع بكثير”.
تستطيع العملات الرقمية أن تسرع التحول بعيدا عن الدولار، وفقا لما تقوله إلينا ريباكوفا.
“كلما ازداد استخدامك للمنصات البديلة، قل اعتمادك على الولايات المتحدة.”
على سبيل المثال “وي تشات” تطبيق المدفوعات الصيني أقل “اعتمادا بكثير على النظام المالي الأمريكي.
وهذا أمر تسعى السلطات الروسية إليه كذلك.” هناك تقارير تفيد بأن الصين قريبة من إطلاق عملة رقمية رسمية، مع انخراط مباشر للبنك المركزي الصيني.
هل يمكن أن تكون هناك فرصة لزيادة استخدام اليورو من خلال إنشاء بديل أوروبي لهذه المبادرات؟ تقول ريباكوفا إن التأكيد ينبغي أن يكون على الأنظمة الجيدة للمدفوعات.
وتضيف: “لا أعتقد أن من الضروري تعزيز أنظمة رقمية يهمين عليها اليورو. من المهم أن تكون هناك أنظمة شفافة ومنظمة جيدا، ثم ترجو أن تتماشى العملة معها. هذا من شأنه أن يقلص الاعتماد على الأنظمة القائمة على الولايات المتحدة”.
القطاع الخاص في أوروبا بدأ يطلب مزيدا. تطالب رابطة المصارف التجارية في ألمانيا بإنشاء يورو رقمي.
أحد دوافعها المعلنة هو تجنب الاعتماد على الخدمات القائمة في الصين أو الولايات المتحدة.
 
تدمير ارث
 
يسير ترمب إلى تدمير إرث من العمل المشترك الذي جمع بلاده بالاتحاد الأوروبي، إذ نقل ترمب أمريكا من حليفة للأوروبيين إلى خصم لهم، لدرجة أن هناك من يقول: ترمب لا يحمل شعار أمريكا أولا.. بل المال أولا.
غاي فيرهوفشتات، السياسي البلجيكي، ذكر في مقابلة مع موقع "نيو أتلانتيك" إن الأوروبيين كانوا دائما يعتقدون أن أمريكا تقف إلى جانبهم في كل الملفات، ولكن الآن هي المرة الأولى في التاريخ يرغب رئيس أمريكي بانهيار الاتحاد الأوروبي.
ويشير حسني عبيدي، مدير مركز الأبحاث والدراسات حول العالم العربي ودول المتوسط، إلى أن ترمب متقلب في اتجاهاته السياسية، لكنه يريد إيصال رسالة إلى العالم مفادها أنه لا يعتبر الاتحاد الأوربي شريكاً لبلاده، وأن أمريكا تفضل التعامل مع الدول كل على حدة وليس منظمة إقليمية واحدة. ويتابع عبيدي في تصريح لدويتش فيله أن ترمب مقتنع بأن تكتل الأوروبيين داخل اتحادهم سيجعلهم أكثر قوة في مفاوضاتهم التجارية والاقتصادية، عكس ما سيكون عليه الحال لو جرى التفاوض مع كل دولة لوحدها.
ويضيف عبيدي أن ترمب يتعامل بمنطق تجاري بحت قوامه الربح والخسارة، ولا يؤمن بشيء اسمه الحلفاء أو الأصدقاء. كما أنه لا يستهدف الاتحاد الأوروبي بشكل مباشر في قضية رسوم الصلب والألومنيوم، بل يريد أن يجعل من هذا الاتحاد جزءا من صراع بلاده الاقتصادي مع الصين، وهو ما يعيه كل من ماكرون وميركل.
زيادة على ذلك وفي الوقت تعترض فيه فرنسا ومن خلفها ألمانيا على التدخل العسكري التركي في ليبيا، يقف ترمب مساندا للرئيس أردوغان في الحروب التي لا يخوضها فقط في ليبيا بل في سوريا والعراق بطريقة تدعم بشكل واضح المصالح الأمريكية.
جاء في تقرير كتبته فرح مرقة من برلين يوم 18 يونيو 2020 استبق الرئيس الأمريكي دونالد ترمب اجتماعات الناتو المُنعقدة الأربعاء والخميس بإعلان أن بلاده ستسحب ما وصفه بنصف قواتها في القاعدة الألمانية رامشتاين والتي تعد قوة ردع لحلف شمال الأطلسي، لتؤكد تصريحاته سلسلة من التسريبات والاعلانات المبهمة التي سبقتها.
بالأثناء تبحث واشنطن وفق سفيرتها في بولندا إرسال عدد من معداتها وجنودها الى هناك، ما يعزز فكرة أن الأزمة الحقيقية اليوم تتضاعف بين حليفي الأطلسي الكبار في واشنطن وبرلين، وأن الأولى بقيادة ترمب تسعى لخلق انطباع بتبعية الثانية إليها من جهة، وأنها تحاول زرع المزيد من الشقاق في اطار الاتحاد الأوروبي وتحديدا ضد المانيا.
ورغم تصريحات ترمب الاثنين إنه يعتزم تقليص عدد القوات الأمريكية التي تتمركز في ألمانيا بشكل كبير، رفضت برلين الوقوع في فخ الصدام او حتى التصعيد الكلامي مع الأمريكيين، محافظة على سياستها الخاصة في ملف الانفاق على الدفاع والتجارة اللذين اعلن ترمب انهما السبب في قراره.
وقال ترمب يوم الإثنين 15 يونيو إن القوة الأمريكية المنتشرة في ألمانيا والتي تشكل عماد المساهمة الأمريكية في حلف شمال الأطلسي وعديدها 52 ألف جندي، تمثل “كلفة باهظة للولايات المتحدة” مضيفا “سنخفض العدد، سنخفضه إلى 25 ألف عسكري”.
لكن بحسب وزارة الدفاع الأمريكية، هناك 34 إلى 35 ألف جندي فقط منتشرين بشكل دائم في ألمانيا، وتناوب الوحدات يعني أن العدد الإجمالي لا يمكن أن يتخطى 50 ألف عسكري إلا بشكل مؤقت.
وقال ترمب “ألمانيا متأخرة عن السداد، هي متأخرة عن السداد منذ سنوات وهي مدينة بمليارات الدولارات لحلف شمال الأطلسي وعليهم أن يدفعوا”، واصفا ألمانيا بدولة “مقصرة”. وأضاف “نحن نحمي ألمانيا وعليها متأخرات، هذا أمر مثير للسخرية”.
وكان اكثر ما قيل ردا على تصريحات ترمب حول سحب القوات تصريح وزيرة الدفاع الحالية والمرشحة لخلافة المستشارة اغريت كرامب كارنباور، والتي اكدت ان “الناتو ليس منظمة تجارية وان الأمن ليس سلعة”، وهذه تصريحات بكل الأحوال تظهر انزعاج برلين وقد كان سبقها وزير الخارجية هايكو ماس بقوله “العلاقات مع الأمريكيين معقدة” قبيل ذهابه في رحلته الى الشرق الأوسط.
وعن زيارة ماس وإدانته ضم أجزاء من الضفة الغربية للسيادة الإسرائيلية، حذرت وسائل اعلام محلية في بلاده بأن رفضه للخطة، يعني مواجهة جديدة بينه وبين نظيره الأمريكي مايك بومبيو مباشرة في توقيت لا تتمتع فيه العلاقات بين ضفتي الأطلسي وتحديدا بين المانيا والولايات المتحدة بأفضل مراحلها. إشارة توحي بحجم الحساسية بين البلدين واحتمالات تأججها.
الكثير من السياسيين في برلين يرون المشهد فيما يشبه النكايات السياسية، والتصريحات في ألمانيا تؤكد ان الرئيس الأمريكي اتخذ خطوته الأخيرة ردا على رفض المستشارة الألمانية انجيلا ميركل حضور قمة السبع في واشنطن التي كان المفترض ان تحصل خلال شهر يونيو، الأمر الذي تسبب في تأجيل الاجتماع وغضب ترمب.
أزمة ترمب مع المستشارة ميركل عميقة منذ استلامه السلطة، إذ يصر على الهيمنة على العلاقات الألمانية الخارجية من جهة وتقييد برلين تجاريا من جهة ثانية، إلى جانب اصراره على زيادة انفاقها الدفاعي، كل هذا تقاومه العاصمة الألمانية، ودلالات الأزمة وعلاماتها كثيرة منها خطاب ميركل في هارفرد والذي اثار الاعجاب باعتباره مناهض تماما لسياسة ترمب ولكن دون ان تذكره.
بالعودة لسحب القوات، فالخطوة الأمريكية تضاعف بالضرورة الشرخ بين الحليفين من جهة، وتخلق من جهة ثانية المزيد من الرغبة الأوروبية في الاستقلال عن واشنطن، والتي ظهرت ليس فقط من تصريحات ميركل بل ومن مقترحها مع الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون حول صندوق الإقراض لما بعد كورونا، والذي قرأته صحيفة الغارديان كأول خطوات الشركاء الأوروبيين لاستخدام النهج الأمريكي في الاستقلال قبل أكثر من قرنين.
وجددت فرنسا دعوتها إلى “استقلالية استراتيجية” أكبر لأوروبا داخل الحلف الأطلسي في مواجهة الانكفاء الأمريكي. إذ قال وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان في مقابلة نشرتها صحيفة “لا كروا” يوم الأربعاء 17 يونيو إن “التطورات ترغمنا نحن الأوروبيين على تأكيد استقلاليتنا الاستراتيجية داخل الحلف لضمان أمننا الخاص”.
وأدت تصريحات ترمب وهجماته على برلين إلى تصعيد التوتر بين واشنطن وحلفائها الأوروبيين في الحلف الأطلسي، الذي يشهد تجاذبات أيضا بين تركيا وفرنسا جعلته يبدو بحالة تشظي.
وقال دبلوماسي أوروبي مستنكرا اتهامات الرئيس الأمريكي “وُصفت ألمانيا خمس مرات بالدولة المقصرة”.
بكل الأحوال، أزمة ترمب مع ألمانيا لا يبدو أنها ستقف عند حدود سحب القوات من ألمانيا، إذ بدأت الانباء تتحدث عن مشروع قانون في مجلس الشيوخ الأمريكي يسعى لتوسيع العقوبات على خط الغاز الروسي نوردستريم 2 والذي يمس بدرجة كبيرة المانيا.
 
سلاح ذو حدين
 
جاء في تقرير اقتصادي نشر يوم 28 أبريل 2020: نما الائتمان بالدولار الأمريكي لغير المصارف خارج الولايات المتحدة 6 في المائة خلال 2019، ليصل إلى 12.2 تريليون دولار في نهاية عام 2019. غير أن الائتمان المقوم باليورو إلى أوروبا الناشئة تجاوز الائتمان بالدولار. 
لكن وباء فيروس كورونا دخل على خط أسواق الائتمان الدولية بالعملات الأجنبية، حيث ستكون للوباء "ندوب مهمة" على هذه الأسواق، حسب مصرف التسويات الدولية.
وطبقا للإحصائية السنوية المنتظرة لمصرف التسويات الدولية حول تنافس العملات الرئيسة في الهيمنة على سوق الائتمانات الدولية، تباطأ النمو السنوي في الائتمان المقوم باليورو لغير المصارف خارج منطقة اليورو إلى 6 في المائة على أساس سنوي، ليصل إلى 3.4 تريليون يورو "3.8 تريليون دولار".
وانكمش الائتمان المقوم بالين الياباني لغير المصارف خارج اليابان إلى معدل سلبي "-1 في المائة" على أساس سنوي مقابل نموه في الدولار 6 في المائة.
وبحسب إحصائية المصرف الصادرة من مقره في مدينة بازل السويسرية يوم 27 أبريل 2020، فإن القروض المقومة بالدولار الأمريكي لغير المصارف في الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية 40 دولة، نمت 5 في المائة خلال 2019. لكن الائتمان المقوم باليورو لهؤلاء المقترضين قد توسع على حساب الدولار بوتيرة أسرع "10 في المائة على أساس سنوي".
ويقول مصرف التسويات الدولية إن الائتمان باليورو قد توسع بشكل متواصل وبسرعة أكبر من الائتمان بالدولار الأمريكي لأكثر من خمسة أعوام متتالية، أو تحديدا من الربع الثالث 2013 حتى نهاية الربع الرابع سنة 2019.
عمر نجيب
[email protected]