لعل عودة المواطن الموريتاني المهندس محمدُ ولد الصلاحي، إلى أرض الوطن، تذكّر الآن ببعض «إنجازات» عهد 12-12 الذي سلَّمه نظامه قبل 15 سنة. وعلى ذكر «إنجازات» ذلك العهد، أستدعي الآن واحدة من الطرائف التي أتذكرها عن الرئيس معاوية آنذاك، وهي أن كثيراً من معارفي، وخاصة من غير الموريتانيين، كانوا يقولون إنني أشبهه في ملامح وجهي إلى حد كبير. وحتى في موريتانيا عندما كنت أدرس في الجامعة كان بعض الأصدقاء يلاطفونني باسم «السيد الرئيس»! ولا أعرف في الحقيقة مدى دقة هذه الفراسة، ولكن أعرف أن مزاجنا مختلف كثيراً، وأن فخامته هو آخر رئيس موريتاني يمكن أن أكون راضياً عنه وعن عهده الصعب، عهد الرعب، بكل المقاييس. وأعتبر أن تشردي وهجرتي من أرض الوطن في أرض الله الواسعة بشكل دائم منذ كان عمري 22 سنة وحتى وقت كتابة هذه السطور، كل هذا أعتبره من «إنجازات» عهده، بعدما سد علينا أبواب الرزق والعمل في بلادنا، وطردنا بما يشبه القوة -تقريباً- إلى المَهاجر والمنافي في مشارق الأرض ومغاربها، ومارس علينا كافة صنوف التضييق وتجفيف الريق، بعدما تحول الوطن في عهده إلى مزرعة خاصة به وبهتـِّـيـفته ومصفقته وعسسه وحرسه، وحزبه الأغبر، لا رد الله مثل تلك الأيام.
لقد درستُ منذ أيام طفولتي الأولى في المدرسة النظامية من الصف الأول ابتدائي، حتى تخرجت من كلية الآداب والعلوم الإنسانية، ولم أرسب يوماً ولا أنهيت سنة من هذه السنوات الـ16 المتوالية إلا كنت ضمن أوائل المتفوقين في دفعتي. وكنت طيلة هذه السنوات المديدة أمنـِّي النفس، وأحلم ببراءة، بأن أصير مدرساً أو أستاذاً في إحدى المدارس أو الإعداديات أو الثانويات، في أي مكان من موريتانيا. وإن لم يتيسر ذلك كنت أحلم بأن أصير موظفاً مستور الحال في أي قطاع آخر، وفي أي ركن قصي من أرض الوطن. ولكن في يوم تخرجنا من الجامعة قال لنا ذلك النظام: ليس أمامكم سوى الشارع، أو المهجر. وعلى رغم أننا كنا أول دفعة تقريباً من تخصصنا تتخرج من جامعة نواكشوط، فلم يشفع لنا هذا ولم يقنع ذلك النظام بإتاحة الفرصة لاكتتابنا أساتذة في الثانويات. بل إن مدرسة الأساتذة في ذلك العام أعلنت أنها لن تكتتب إلا عشرة من تخصصنا، ولكن بشرط أن يكونوا من طلاب الصف الثاني في الكلية، وليس منا نحن الجاهزين، المتخرجين سلفاً من الكلية. وكان هذا الشرط مصمماً على طلبة معينين كانوا يدرسون فعلاً في السنة الثانية. وحين نظمت مسابقة اكتتاب هؤلاء العشرة المبشرين بالتوظيف، وأنِفت «تـْخُومَيتْ» شخصياً عن المشاركة فيها مع طلاب ورائي بسنتين، شارك معهم زملاء متخرجون من دفعتنا ومتفوقون ومتميزون علمياً بكل المقاييس، ولكن ظروفهم العائلية الصعبة تفرض عليهم التعلق ولو بقشة أمل توظيف، ومع ذلك لم ينجحوا في المسابقة، ونجح طلاب السنة الثانية الذين صممت عليهم المسابقة سلفاً. وقد جاءني بعضهم في الليلة السابقة على الامتحان، لأنهم يعرفون أنني لست مشاركاً فيه، وطلبوا مني مساعدتهم في شرح سؤال تبين أنه هو الامتحان الذي سيأتي غداً وشرحته لهم قدر الجهد. ونجحوا والحمد لله، وإن كانوا بصراحة أخذوا فرصة العمل بغير وجه حق ممن هم أحق منهم وأسبق، لا لشيء إلا لأن عندهم واسطة ومحسوبية في غفلة من القانون والعدل والإنصاف.
ومع أن ذلك النظام ادعى في تلك السنة أن شروط صندوق النقد الدولي القاسية تفرض عليه عدم توظيفنا كأساتذة في التعليم الثانوي، فقد أعلن، بعد تخرجنا بشهر تقريباً، بسبب ما أعتقد أنه ضغط من أحد رجال الأعمال المقربين من رئيس النظام حينها، عن مسابقة لاكتتاب مئة أستاذ لمادة «التربية الإسلامية» دفعة واحدة، وراح طلبة المعاهد الدينية يشاركون في تلك المسابقة، وتم اختيار مئة منهم، كانوا في الغالب من طيف سياسي واحد مقرب من رجل الأعمال ذلك. ووُزعوا مباشرة للعمل في الثانويات على امتداد التراب الوطني، دون تكوين في مدرسة الأساتذة. والمفارقة أن أقل القليل منهم هم من راحوا يدرِّسون في الثانويات مادة «التربية الإسلامية»، بل كلفوا بتدريس اللغة العربية والفلسفة والتاريخ والجغرافيا وغيرها من تخصصاتنا نحن خريجي كلية الآداب، التي رفض النظام توظيفنا فيها. وزد على معاناتنا نحن الذين هجرنا إلى المنافي والمهاجر لانسداد سبل وأبواب العمل والعيش الكريم أمامنا، مأساة عشرات الآلاف من الزنوج الموريتانيين الذين هُجروا لأسباب أخرى سياسية، أو عنصرية، وهم من يشكلون الآن قوام الدياسبورا الزنجية- الموريتانية الكبيرة في أميركا وأوروبا.
أعرف أن هذه قصص قديمة، وأنه ليس من المروءة في شيء كيل النقد لرئيس ونظام مضيا وانقضيا منذ أكثر من عشر سنوات، ولكن القصد هنا أن النظام الذي سلم ولد الصلاحي للأجانب الذين برؤوه بعد 15 سنة من المعاناة، هو ذاته النظام الذي شرّد جيلاً كاملاً من شباب الوطن، تقاسمتهم المنافي في الشرق والغرب، وكثير منهم الآن يحملون جنسيات دول بعيدة في القارات الخمس، وأبناؤهم لا يعرفون شيئاً عن أرض آبائهم وأجدادهم. إنهم أبناء صلاحي كثر، سلمهم نظام 12-12 للضياع، وقدمهم كباش فداء لتغول ذلك النظام وتألـُّـه رئيسه الذي كان يتصرف في البلاد والعباد وكأنهما ملك يمين خاص به. وبسبب ذلك فقدنا نسبة، حتى لا أقول نخبة، من جيل كامل من أبناء الوطن. وعدد غير قليل من أبناء ذلك الجيل انقطعت صلتهم الآن بأرض الوطن، وانتهت علاقتهم به إلى الأبد. ولعل من سخريات الصدف أن رئيس ذلك النظام نفسه انتهى به الأمر هو أيضاً منفياً ومهجّراً صحبة أفراد أسرته الكريمة في دولة شقيقة بعيدة. والسؤال: متى تفكر حكومتنا الرشيدة في لملمة شتات «دياسبورا» ذلك الجيل الضائع في المنافي، على امتداد قارات العالم الخمس؟ أو على الأقل ربط الصلة به، في دول الإقامة، وتنظيم زيارات لأبناء المنفيين والمشردين في ذلك العهد ليروا أرض آبائهم وأجدادهم، ولتكتحل عيونهم برؤية هذا الوطن العزيز؟