اهداف كثيرة أعلنت عنها “إسرائيل” في حربها على عزة، والواقع أنها كلها كانت وسائل لتتحقق الهدف الحقيقي وهو تصفية القضية الفلسطينية حيث لا وسيلة لذلك وهناك مقاومة فلسطينية. فهذا وحده الذي يفرضها كدولة، ووحده الذي يمهد لتحقيق مشروعها التوراتي، ووحده الذي يمكنها من تصفية الدول العربية وإعادة تشكيلها كشرق أوسط متصهين تحت قبضتها. وإذا كان طوفان الأقصى قد أوقف في حينه المخطط الذي كان مزمعاً ومعلناً بحق المسجد الأقصى وما يتبعه من ضم الضفة وتهويد فلسطين بصمت عالمي مطبق وشلل عربي وإسلامي، فإن الحرب على غزة قد تجاوزت هذا لتتمخض عن ثلاث خلاصات حاسمة في تغيير وجهة الصراع في المنطقة:
ـالأول: أن هذه الحرب كشفت للعالم الصورة الحقيقية عن نازية الكيان وأسقطت مصطلحاته “الإبتزازية” والتعاطف الدولي معه.
ـ الثانية: انتصار نهج المقاومة على نهج السلام الإستسلامي على مستوى الدول العربية والإسلامية، بما له من انعكاسات إيجابية على القضية على قناعات ومواقف هذه الدول.
ـ والثالثة: تشكل نوع من القناعة لدى الكيان وأمريكا والغرب بعبثية استخدام القوة المفرطة للقفز عن القضية الفلسطينية والحقوق الفلسطينية، والتبشير بوقف مشاريع تصفية القضية الفلسطينية في عقل الصهيو أمريكي والغرب والمنتهية بصفقة القرن، وفتح أفاق لأول مرة فيها العدو هو الذي قد يطرح المبادرات السلمية، والفلسطيني المقاوم هو من يناقشها.
والمهم هنا، أن النصر الذي حققته المقاومة الفلسطينية، فإنما حققته بصمود الشعب الفلسطيني وتأييده لها، وأن هذا كان مرتبطاً بإيمانه كشعب فلسطيني بنهج المقاومة وبوقوفه معها وليس مع السلطة المتعاونة مع الإحلال، هو ما يُفترض أن يكون المعيار الصحيح لصوابية الموقف السياسي الدولي والعربي الرسمي من هوية الممثل الحقيقي للشعب الفلسطيني، وبما يقتضيه هذا من الأنظمة العربية بضرورة التعامل مع المقاومة الفلسطينية كخيار شعبي فلسطيني حقيقي يجب احترامه. حتى لو اقتصر موقفها على توقفها عن معاداة المقاومة قولاً وفعلا، والتطبيع معها. وأن تتذكر في هذا أنها بمعظمها تطبع أو تتعاون مع حكام الكيان المتطرفين والمطلوبين للعدالة الدولية كمجرمين.
بل أن محصلة هذه الحرب تكفي للنظام الرسمي العربي لكي يحرر نفسه مما يدعيه من ضغوطات ميزان القوة، ويغيّر موقفه من نهج المقاومة وهو يشاهده يحقق نتائج مغايرة لنهج السلام مع المحتل الذي رسخ الإحتلال وارتد وبالاً على فلسطين وشعبها وقضيته وعلى مصالح وسلامة الدول العربية، علاوة على أنه نهج جعل من حكامه أذلة وصغاراً وخونة بأعين حكام وأنظمة العالم الحر عندما اعترفوا باحتلال عدوهم لأوطانهم. وجعل منهم الوحيدين على هذا الكوكب الذين يحكمون شعوبهم بعقلية العصور الوسطى مستعينين بالعدو؟ إنها المفارقة التاريخية التي يصعب ابتلاعها.
وربطاً بالخلاصات الثلاث لدي كلمتين.
ـ الأولى: أن العدو يعلم بهذه الخلاصات وبما سيترتب عليها من نتائج كارثية على مشاريعه التصفوية والتوسعية. فتحوله للضفة الغربية التي له فيها شريك فلسطيني متعاون، جاء للإنقلاب على هذه الخلاصات واستحقاقاتها. وفي هذا مسؤولية ترقى للمصيرية تقع على عاتق الأردن والفلسطينيين سأتكلم عنها في السياق.
ـ أما الكلمة الثانية: فقد يقود فشل العدو العسكري في الضفة الغربية بعد فشله في غزة، وإسقاط خطة التهجير ومسعى وكالة إلغاء وكالة الغوث، إلى ضغط دولي على الكيان للتعامل مع حل الدولتين راضخا أو مضطراً، وبهذا أوضح.
حل الدولتين هذا هو العودة لقرار التقسيم عام 1947 ورفضه الفلسطينيون والعرب في حينه. أما اليوم فالعربي لا يقتنع بتقاسم أرضه مع محتل، ولا المحتل المتمكن يقبل بحل الدولتين الذي يسقط مشروعه ومشروعية احتلاله ولا يضمن أمنه، المستحيل، ولا أن يتخلى عن ارض احتلها ويدعي بأنها ملكاً توراتياً له وأمريكا تدعمه. والحد الأقصى الذي يقبله هو الحكم الذاتي باسم دولة منزوعة السلاح وتحت سيادته. فلا تسوية سلمية لمسألة احتلال قادرة على تحقيق الأمن والإستقرار للمحتل، والسلام في المنطقة، سوى خروج المحتل سلماً. وحتى لو تحقق الحل بالشروط الفلسطينية وهو من المستحيلات، فسيكون إنجازاً على طريق التحرير في عالم يدخل مرحلة الهتلرية السياسية المستندة للقوة الطاغية، وفيه الأمتيين صاغرتين للمحتل.. ومن الجدير بالذكر أن نتنياهو يدعي أنه نفّذ قرار التقسيم لفلسطين باعتبارها تشمل الأراضي الأردنية، وأنهم أخذوا خمسها من البحر للنهر وتركوا للعرب أربعة أخماسها. منوهاً هنا الى أن قرار التقسيم نص على تقسيم فلسطين بين العرب واليهود وليس الفلسطينيون واليهود. ولكن خطة التقسيم وخارطتها تدحض لعبة الكلمات، حيث كانت خريطة التقسيم للمساحة بين البحر والنهر. بخلاف وعد بلفور الذي يمتد للأردن.
للفلسطينيين
فالتحدي أمامهم على ثلاثة مستويات.
ـ الأول: المحافظة على نهج المقاومة ومستحقات النصر من التآمر، وعدم السماح لمخالب الإحتلال، الفلسطينية منها والعربية باي اختراق. بمعنى لا محظورات ولا محذورات أمام منع سلطة التعاون وغيرها من الرافضين لنهج المقاومة من الدخول على الخط على جثث ما يزيد عن مئة ألف شهيد وضعفه من المصابين.
ـ والثاني: أن التعويلُ أساسيٌ ومصيري على صمود شعب الضفة بمقاومتها، أمام الهجمة عليه وأهدافها التصفوية، بأن تكون غزة المثال للضفة بعنوان الشهادة، ولا للإستسلام والتهجير.
ـ المستوى الثالث: يجب ألا يكون عائق أمام إعادة وحدة الصف الفلسطيني من خلال عقد مؤتمر وطني تاريخي لإعادة تشكيل البيت النضالي الفلسطيني.
مؤتمر يحيي منظمة التحرير بكل مؤسساتها على أسس من الواقع والمستجدات، ويضم كل الفصائل السياسية والعسكرية الفلسطينية بما فيه فتح والنخب الفكرية في الشتات. فقد نكون مقبلين على مرحلة يمتزج فيها النضال الدبلوماسي والسياسي مع استحقاقات انتصار نهج المقاومة كاستراتيجية للتحرير، التي لا يقيدها المكان ولا الزمان.
للأردن
أما الأردن، فالمطلوب له تفخيخ نفسه لعبور العدو، والتحدي الكبير أمامه ينبع من إدراك قيادته بأن فشل الكيان في الإنتصار على المقاومة الفلسطينية الغزية وعجزه عن زعزعة صمود شعبها وعن تهجيره رغم ما أوتي من دعم أمريكي بأعتى وأحدث أسلحة الدمار، قاده لاستخدام الطلقة الأخيرة في الضفة الغربية ليُنفذ ما عجز عن تحقيقه بالقوة بتعاون الأردن. وهي الطلقة التي إن أصابت فستخترق جسد الأردن. ويُفترض أن يكون فشل العدو هذا عبرةً للأردن وحافزاً لصموده بوجه الضغوطات. فالقيادة الأردنية مطالبة لأسباب وجودية بإفشال الهجمة على شعب الضفة ومقاومتها. وكل تقاعس في هذا هو بمثابة الإذعان لقبول خطة الضم والتهجير وتهويد فلسطين بكل انعكاساتها التدميرية على الأردن. وبهذا حان الوقت لعقل النظام لاستيعاب أن حماس كانت وما زالت الأصلب في رفض تفريغ أي من مكونات القضية الفلسطينية في الأردن، وأنها أكبر عدو لما يسمى بالوطن البديل. وبأنها الحليف الإستراتيجي الحقيقي للأردن.
وختاماً، فإن قوة أو ضعف أي قيادة لنظام في مواجهة أمريكا وابتزازها، مرتبط بعلاقتها بشعبها. فتخريب هذه العلاقة بين قادة الدول وشعوبها هي لعبة المستعمرين الأساسية لابتزاز الحكام وتدمير الدول. وعلى القيادة الهاشمية أن تلتقط اللحظة التاريخية وتكسرها أولاً، والوسيلة هي في تغيير نظرتها للمعارضين للنهج السياسي وللفساد الذي يُدمر الدولة، ووقفه يغنينا عن ابتزاز أمريكا. المعارضون الأردنيون لا يتمتعون بحقوق المواطنة الكاملة في الدولة وفي التعبير الحر عن الرأي بعيداً عن الإقصائية والقمع. فهذه المعارضة المتطرفة (كما يتم تصويرها) والممنوع مأسستها ووجودها وتضطر للعمل كأفراد ومجموعات ملاحقة، ليست أقلية، فهي التي تمثل غالبية الشعب الصامت وضمير الشعب كله. فالتصالح معها هو تصالح مع الشعب على وطن ودولة في مهب الريح. فالظرف ظرف الشعب لا ظرف المنافقين والجواسيس والمجندين لأمريكا ينتظرون ساعة الصفر ليتوجوا مسيرتهم.
كاتب عربي اردني