
لم يكن غريباً أن يتصدى الدكتور محمد ولد الراظي للدفاع عن بيرام، فلطالما كانت الألسن الأكاديمية عندنا تُسخّر لخدمة المشاريع الأجنبية المختبئة خلف أقنعة الهامش وحقوق الأقليات. غير أن الغريب أن يُكتب هذا الدفاع بصيغة أكاديمية جافة، في زمن لم تعد فيه الأقنعة تُقنع أحداً، ولا الأسماء تحمي أصحابها من الانكشاف.
في مقاله المنشور مؤخراً، يحاول الدكتور أن يرسم لبيرام صورة الضحية والمصلح، ويشرعن له ممارساته السياسية والاجتماعية عبر بوابة الاسترقاق التاريخي، متناسياً – أو متجاهلاً عن عمد – السياق التاريخي والاجتماعي والسياسي الذي يتلاعب فيه بيرام بالقضية، لا بحثاً عن العدالة، بل سعياً إلى الزعامة بأي ثمن.
إن الدفاع عن بيرام بهذا الشكل المبالغ فيه، لا يمكن فهمه إلا بوصفه خيانة للوعي القومي، واصطفافاً صريحاً مع أجندات خارجية تدفع باتجاه تفجير المجتمعات من الداخل عبر تأجيج قضايا الهوية والعرق والذاكرة المؤلمة. فبيرام – الذي لم يعرف عنه يوماً انخراط في نضال فكري أو مشروع وطني – يتاجر بجثث الماضي، ويرقص على آلام أجيال سابقة ليصنع من نفسه ناطقاً باسم أمة لحراطين، وكأنها شعب منفصل، أو طائفة معزولة، لها سرديتها الخاصة التي تستحق دولة أو كيانا سياسياً خاصاً.
ما فعله الدكتور محمد ولد الراظي هو محاولة أكاديمية لتزييف التاريخ وتزوير الوقائع، عبر قراءة انتقائية تجعل من بيرام أيقونة للنضال، متناسياً عنفه اللفظي، شتائمه العنصرية، وتهديداته المتكررة لكل من يخالفه الرأي، بل وحتى لمجتمعه المفترض. إن الرجل الذي دعا صراحة إلى إعادة النظر في دين المجتمع، واتهم علماءه بأنهم أدوات للرق، لا يمكن أن يكون مصلحاً، بل هو مشروع فتنة يمشي على قدمين.
لقد تحوّلت قضية الاسترقاق في الخطاب البيرامي من معركة ضد ماضٍ مظلم إلى أداة لابتزاز الحاضر، وتخدير العقول، وتكريس الانقسام. وكل من يهلل لهذا المشروع – كما فعل الدكتور الراظي – إنما يشارك في هذه الجريمة الرمزية بحق الوحدة الوطنية، ويعطي مشروعية زائفة لخطاب تخريبي خطير.
بل إن محاولة تشبيه لحراطين باليهود – كما ورد في مقارنات خفية بمقال الدكتور – لا تخلو من خبث سياسي مدروس، يستدعي ذاكرة الهولوكوست وما أنتجته من صكوك غفران عالمية لإسرائيل، في محاولة بائسة لتكرار السيناريو نفسه في بلادنا. وهو تشبيه باطل، ومرفوض أخلاقياً وتاريخياً، لأن لحراطين لم يكونوا يوماً أقلية دينية أو عرقية مضطهدة، بل هم جزء أصيل من نسيج الأمة، ساهموا في بنائها وقادوا معاركها.
إن الذين يحاولون اللعب على ذاكرة الظلم – كما يفعل بيرام ومن يروج له – إنما يعيدون إنتاج الاسترقاق بصيغة جديدة، فيها نخبة متسلطة تتحدث باسم الجماهير، وتوظف معاناتها لتصعد على أكتافها، دون أي مشروع تحرري حقيقي، أو رؤية جامعة.
وما يزيد المشهد بؤساً، أن يتحوّل بعض الأكاديميين، ممن عُرفوا سابقاً بانتمائهم القومي، إلى أدوات لتبييض هذه المشاريع، وتقديمها في قوالب فكرية مشوهة، كأننا أمام أبو رغال جديد، لكن هذه المرة بثوب الدكتوراه، ولسان البحث العلمي.
إن وحدة موريتانيا اليوم، ومشروعها الوطني، يتعرضان لتهديد خطير، لا من الخارج فقط، بل من الداخل أيضاً، عبر أدوات تتحدث باسم التحرر، لكنها تحمل في طياتها بذور الانقسام والتفكك. وعلينا، نحن أبناء هذا الوطن، أن نكشف هذه الوجوه، ونفضح هذه الأقلام، ونُعيد صياغة الخطاب الوطني على أسس الحقيقة، لا على أوهام الشرعية المصطنعة.
فمن يكتب فوق الجثث لا يصنع وطناً، ومن يبيع القضايا الكبرى في سوق الهويات الضيقة لا يستحق أن يُسمى مفكراً. ولأن التاريخ لا يرحم، فإننا نكتب لا لنكسب الجدل، بل لنوقظ الضمير الوطني، قبل أن يُسلم رايته للمرتزقة.
قاسم صالح