في ثالث المقالات عن منظماتٍ أمريكيةٍ يهوديةٍ نلقي الضوء على أكبرها وأكثرها ذكراً وتأثيراً وهي “الإيپاك” -اللجنة الأمريكية الإسرائيلية للعلاقات العامة- التي تأسست عام ١٩٥٤ لتبييض سمعة إسرائيل إثر مجزرة قرية قبية بفلسطين {“حدثت في ليلة ما بين 14 أكتوبر و15 أكتوبر من عام 1953 عندما قام جنود إسرائيليون تحت قيادة أرئيل شارون بمهاجمة قرية قبية الواقعة في الضفة الغربية (التي كانت حينها تحت السيادة الأردنية). قتل فيها 69 فلسطينيا، العديد منهم أثناء اختبائهم في بيوتهم التي تم تفجيرها. تم هدم 45 منزلا ومدرسةً واحدة ومسجدا”}. وتضم الإيبپك من ٣ إلى ٤ مليون أمريكياً مُؤازراً ويزيد، وتعمل دون حواجزٍ عبر المسطح و العمق السياسي والحياتي الأمريكي بهدفٍ وحيدٍ هو دعم إسرائيل. بإمكانِ القارئ العودة للمواقع التي تشرح عمل الإيپاك لكن التوقف في هذه المقالةِ عند بعض الحقائق المحيطة بها مفيدٌ للمتابع الراغب بمعرفتها عن قُربٍ و سرعةٍ.
من أكثر ما يثير الانتباه في ما تنشره هذه المنظمة عن أعمالها هو العبارة المتكررة أن استمرار قوة الولايات المتحدة تتحقق باستمرار وجود إسرائيل قوية. وأن وجود إسرائيل القوية في كل المجالات يعودُ فائدةً متعاظمةً لأمريكا. ترى هذا التأكيد في شروحات كل الأنشطة التي ترعاها المنظمة وتدعو لتمويلها ولتشريعِ حدوثها كما سنذكر هنا. في دور الانعقاد ١١٨ لمجلس النواب الأمريكي، نواباً و شيوخاً، و الذي يمتد من يناير ٢٠٢٣و إلى يناير ٢٠٢٥، دفعت ودعمت الإيپاك ٨٩ مشروع قرار كان أغلبيتها الساحقة لدعم إسرائيل مباشرةً بالتعهد بالدعم المالي و العسكري و باستهداف محور المقاومة في فلسطين ولبنان وسوريا والعراق واليمن. كما استهدفت حركات المقاطعة و ما يمكن أن يفسر أنه عداء السامية، بل و ما تدفعه السلطة الفلسطينية من رواتب لعائلات الشهداء المصنفين عند المجلس النيابي و إيپاك إرهابيين، و محاربة ما يوصف بالمناهج التعليمية المناهضة لإسرائيل. وطالب أحدها وزير الدفاع للعمل مع الحلفاء والشركاء بمنطقتنا لتطوير نظامٍ متكاملٍ لأمن الفضاء والأقمار الصناعية و لأغراض أُخرى. بينما اعتبر قرارٌ آخر أن عبارة “من النهر للبحر وفلسطين ستكون حرة” هي تعبيرٌ ضد السامية و يجب إدانتها. تطول القائمة، و فيها للأمانة، دعوةً لإيصال المعونات الإنسانية لقطاع غزة، لكنها بكليتها قائمةً تزهو بها الإيپاك في دعمها لإسرائيل و الحلفاء مثل أوكرانيا، ولا تعدو كونها لائحةً من دعم العداء وتقويةِ الاستعداء و التحضير للانتهاكات والاعتداءات والدفاع عنها وتبرير كل ما تقوم به إسرائيل مهما بلغت وحشيته. ففي عام ٢٠٢٤ قامت الإيپاك بالتبرع بحوالي ٤٢ مليون دولار للحملات الانتخابية كان ثلثيها للنواب الديمقراطيين و الباقي للجمهوريين. لكن الملاحظة الهامة التي يجب ذكرها أنه لا يوجد تبرعات مباشرة من الإيباك كمنظمة للنواب و الشيوخ تماشياً مع القوانين الأمريكية وإنما تذهب التبرعات من أعضاء المنظمة الأفراد وعبر لجان انتخابية بتوجيهٍ لهم لمن يجب دعمه وفي هذا دلالةٌ واضحةٌ على قوة التأثير والانضباط. وتمنح المنظمة للمتبرعين عضويةَ ناديها بمبلغِ تبرعٍ سنوي لا يقل عن ١٨٠٠ دولار يمنح المتبرع بعض الميزات لحضور الاجتماعات في العاصمة واشنطن وتفتح الإيپاك للمتبرعين فرصة الإعفاءات الضريبية حسب القوانين الأمريكية. وعليه، بمساعدة هذه التبرعات الجزيلة، فقد فاز في الانتخابات النيابية ١٢٩ ديمقراطياً هم كل من دعمتهم الإيپاك و كلهم من مؤيدي إسرائيل الذين ينحدرون من أصول إفريقية وآسيوية ولاتينية و ممن يدعمون اللواطة وأشكال الشذوذ. و بنفس النسق فاز ١٩٣ جمهورياً تؤيدهم المنظمة التي تسوِّقَ عبارةَ “إنها سياسةً جيدةً أن تكون من مؤيدي إسرائيل” وفي هذا دلالةً واضحةً أن تأييد إسرائيل يقود للانتصار في الانتخابات وعكسه صحيح فقد عملت الإيپاك على هزيمة ١١ مرشحاً للانتخابات النيابية صنّفتهم معادين لإسرائيل.
تعتَّدُ الإيپاك بإنجازات المجلس النيابي وسياساتهِ على نحوٍ مدهشٍ من الربط بينها وبينه فكأن هذه الإنجازات ملكها، و هذا صحيحٌ فعلاً كونها تلعب دور المُحَرِّضَ و المُمَوِّلَ الرئيسي لتوجيه المجلس لأخذ قراراتٍ ومبادراتِ تأييدٍ غيرِ محدودٍ لصالح إسرائيل. من موقعها الإعلامي الترويجي الذي تتخلله باستمرار كلمة “تَبَرَّعْ” تذكر الإيپاك إنجازات المجلس النيابي في دعم إسرائيل. فالمجلس النيابي يضمن أمن إسرائيل والدعم السياسي لها الذي كان من شأنه “خلق آلاف فرص العمل بأمريكا وضمان بقاء أمريكا قويةً بوجود شريكٍ قويٍّ وقادرٍ في الشرق الأوسط”. كما أنه المجلس الذي قام قبل ربع قرن بتأكيد القدس عاصمةً لإسرائيل. إنه المجلس الذي يحرص على دعم منظومة الدفاع الجوي الصاروخية متعددة الطبقات الجوية والتي ساهمت بدورها بتقوية الدفاع الجوي الأمريكي. وهو الذي يدعم التقنية الإسرائيلية لاكتشاف الأنفاق و المُسَيَّرات ودعم تبني هذه التقنية ضمن القوة العسكرية الأمريكية. إنه المجلس الذي يحرص على بقاء التفوق العسكري الإسرائيلي لمواجهة وهزيمة أي تهديد مع ضمان أدنى حدود الضرر بإسرائيل. هو المجلس الذي يعادي إيران و يدعم السلام بين إسرائيل والعرب “ما يؤكد لأعداء إسرائيل أنهم لن يهزموها وأن تقدم مصالحهم الاقتصادية والأمنية يأتي فقط من خلال الشراكة مع إسرائيل”. وهو المجلس الذي يتبنى السلام بين إسرائيل والفلسطينيين رافضاً التوجه الفلسطيني نحو إدانة إسرائيل دولياً و معرقلاً المساعدة للفلسطينيين (السلطة) حتى “توقف معونتها الهمجية للإرهابيين وعوائلهم”. وهو المجلس الذي يحارب كل مبادرات مقاطعة إسرائيل العربية الرسمية و الشعبية، وبذات الوقت يعقد الاتفاقيات الثنائية مع إسرائيل للتطوير المشترك في العلوم والزراعة والطب مما نتج عنه ٧٣٠٠ مشروعاً مشتركاً تخطت عوائدها ١٠ مليار دولار. هو المجلس الذي يرعى الشراكة الاستراتيجية الأمريكية الإسرائيلية التي تغطي مجالات المياه والطاقة والفضاء لما لها من نتائج إيجابيةً على أمريكا.
عسكرياً لا تقتصر الإنجازات على المعروف من الدعم بل تتعداه لتصف تعاوناً “لضمان أمن القوات الأمريكية” عبر مواجهة أعداء أمريكا مباشرةً في المنطقة حيث تزود إسرائيل تقنياتها وخبرتها القتالية لأمريكا “لضمان جهوزية أمريكا لمواجهة التحديات التي نواجهها”. وعدا عن ذلك التعاون المعروف يعمل الطرفان لمعالجة حالات المرض (الإكتئابي) الذي يصيب الجنود بعد خوض الحروب. و يتدربون سوياً لمواجهة المُسَيَّرات حيث خصص المجلس منذ عام ٢٠٢٠ ما يزيد عن ٦٠ مليون دولار لهذا الأمر موجهاً للتعاون في هذا الشأن مع الجهات الأمنية الأمريكية كوكالة التحقيقات الفيدرالية و الحماية السرية وبالطبع المنظومة العسكرية. ومنذ عام ٢٠١٧ خصص المجلس أكثر من ٢٧٠ مليون دولار للتعاون المشترك بمجال كشف وتدمير “أنفاق الإرهاب”.
تضع الإيپاك هذا التعاون في إطار “المفاهيم والمصالح المشتركة” فقوة أمريكا من قوة إسرائيل، وقوة إسرائيل رادعٌ لأعداء إسرائيل في المنطقة. وهي دافعٌ لتحقيق السلام عندما “يدرك أعداء إسرائيل استحالة هزيمتها”. كما أن إسرائيل “تُنَمِّي مبادئنا” فإسرائيل هي الديمقراطية الوحيدة في المنطقة والتي تحمل لواء الحرية والعدالة والمساواة لكل المواطنين، ففي الكنيست الإسرائيلي، كما تتفاخر الإيپاك، يُمَثَّلُ “النساء و العرب و المنتمين لمجتمع اللواطة وأمثالهم (تستخدم الإيپاك تعبيراً خاصاً بهم أترفع عن ذكره) و هو ما لا يحدث في أي مكانٍ آخر في المنطقة”. تقول الإيپاك أن التعاون الأمريكي الإسرائيلي عادَ اقتصادياً على أمريكا بأكثر من ٢٥٥ ألف وظيفة وأن قطاع العمل الإسرائيلي يحوز على عقودِ عملٍ مع أكثر من ١٠٠٠ شركة أمريكية في ٤٨ ولاية أمريكية، و قد تعهدت إسرائيل أن تصرف كل المعونة العسكرية الأمريكية بحلول عام ٢٠٢٨ على منتجاتٍ تصنع داخل أمريكا خالقةً بذلك أكثر من ٢٠ ألف وظيفةً. كما أن إسرائيل هي المقر ل ٢٥٠٠ شركة أمريكية تستفيد من قطاع الابتكار الإسرائيلي الذي يساهم في تطوير مكوناتٍ لشركاتٍ من مثيل “إنتيل وسيسكو وموتورولا وإتش پي و أپلايد ماتيريالز”. أما المستقبل لهذا التعاون كما تروج له الإيپاك فينظر لقطاع “فضاء السايبر” الذي تسيطر إسرائيل على ٢٠٪ منه عالمياً، وتأتي فيه بعد الولايات المتحدة. و تنظر كذلك لقطاع التطوير الصحي و تقنياته التي ينتج عنها بلايين الدولارات في الاستثمار، و الذكاء الصناعي و قطاعات المياه و إعادة التدوير و الترشيد و الأمن الغذائي و لتطوير المهارات الزراعية. وختاماً التعاون في كل ما يتعلق بتقنيات المناخ و الطاقة. كل هذا إضافة نوعيةً للتعاون العسكري و السياسي و الإعلامي.
إنها منظمةٌ عملاقةَ التأثير تعمل دؤوبةً منذ ٧٠ سنةً بدون كللٍ، متجددةً متطورةً، لتضمن انحيازاً كاملاً من المجلس النيابي الأمريكي لصالح إسرائيل، و من خلاله انحياز كافة المؤسسات الأمريكية الرسمية وغير الرسمية لدعم إسرائيل و الوقوف ضد كل فكرٍ وممارسةٍ تعتبرها المنظمة معاديةً لإسرائيل. وهو عملٌ عرفناه مما أعلنته المنظمة أما ما خفيَ فقد يكون أدهى و ألعن. يكفي أن رئيساً أو نائباً أو الطامحين للمنصب ووزراء و قادةً كلهم يعتلون منصة الإيپاك ليعلنوا الولاء لإسرائيل ولا يتخلف منهم أحد. إنها في حَدِّ ذاتها حكومةٌ فوق حكومة ومن يعترض يفقد مكانه. و لنا مع غيرها من منظماتٍ أمريكيةٍ يهوديةٍ مؤثرةً و موجعةً مقالةً قادمةً إن شاء الله.
علي الزعتري دبلوماسي أُممي سابق
الأردن