قادة النظام العالمي القديم يستميتون في محاولة عكس حركة التاريخ... من يقف على الجانب الخطأ من مسيرة التحول

ثلاثاء, 2022-03-22 07:36

في كل صراع وخاصة إذا كانت حربا تسعى الأطراف المشاركة فيها بشكل مباشر أو بغيره، على الصعيد الإعلامي إلى تبرير مواقفها وإدانة الخصوم بإستخدام كل الأساليب بما في ذلك الكذب والخداع، كما تعمل على إضعاف معنويات الخصوم وكسب التأييد من جانب الرأي العام أو الأطراف المحايدة عن طريق تقديم تقارير عن الانتصارات والهزائم التي تسجل أو تلحق بالآخر حتى وإن كانت وهمية.

مدة هذه الممارسات تطول أو تقصر حسب طبيعة ومدة المواجهة، وهي تتعرض في أحيان كثيرة لعثرات وسقطات ولكن ذلك لا يحول دائما دون استمرارها وإن كان بنمط مغاير.

أسلوب التعامل هذا كان معمما لدى القوى الغربية في حرب الفيتنام التي استمرت زهاء ثلاثة عقود، من الثاني من سبتمبر سنة 1945 عندما اعلن عن إقامة الجمهورية الفيتنامية بعد استسلام اليابان في الحرب العالمية الثانية ورحيلها عن ما كان مستعمرات فرنسية، ثم رفض فرنسا ذلك وعودتها إلى احتلال البلاد حتى انسحابها سنة 1954، بعدها تولت الولايات المتحدة عسكريا مهمة ما سمي مواجهة المد الشيوعي في جنوب شرقي آسيا حتى 29 من شهر أبريل عام 1975 عندما دخلت قوات هانوي منتصرة العاصمة سيغون.

خلال 30 سنة التي تناوبت فيها فرنسا والولايات المتحدة على مواجهة هانوي قدمت باريس نفسها كمنتصر مدافع عن الحق حتى جاءت هزيمتها في معركة ديان بيان فو يوم 8 مايو 1954، واشنطن صورت نفسها كمنتصر حتى رحيل قواتها سنة 1975، وإلى اليوم لا تعتبر السجلات الرسمية الأمريكية الانسحاب من الفيتنام كهزيمة. نفس الأمر ينطبق على حربها في أفغانستان التي دامت أكثر من 20 سنة.

نهاية صيف سنة 2015 صدرت تحذيرات موجهة لموسكو من إدارة الرئيس باراك أوباما ونائبه جو بايدن، قبل التدخل الروسي في الحرب شبه الدولية في سوريا والذي بدأ فعليا يوم 30 سبتمبر من نفس السنة.

وذكر مسئولو البيت الأبيض حيئذ أنه "إذا تدخلت روسيا فستواجه قتالا صعبا" و"سيتعين على القوات الروسية أن تواجه مقاومة" و"عندما تبدأ جثث الجنود الروس العودة إلى الوطن، سيتعرض فلاديمير بوتين لضغط شعبي متزايد" و"روسيا لن تكون قادرة على تحقيق أهدافها، وستغرق في مستنقع".

ركز التدخل الروسي في سوريا بشكل رئيسي على تدمير القدرات والهياكل القتالية للفصائل المسلحة التي تواجه الجيش العربي السوري، أكثر من الاستيلاء على أراض. وهكذا فشل المخطط المعادي لدمشق وكسب الجيش السوري واستعاد السيطرة على 70 في المئة من مساحة البلاد.

حاليا ومع مرور ثلثي شهر مارس 2022 تبين أن القيادة العسكرية الروسية تطبق نفس التكتيك وذلك بالتركيز على ضربات بعيدة المدى لتدمير المعدات الأوكرانية، خاصة مخزوناتها من الدبابات والمدفعية والطائرات دون طيار، والسعي لكسر وحصار التشكيلات النظامية الرئيسية للجيش الأوكراني.

في الصراع المسلح الذي بدأ عمليا سنة 2014 بين روسيا وأوكرانيا وتوسع في 24 فبراير 2022 إلى حرب واسعة ولكن ليست شاملة حتى الآن، يشهد العالم حربا إعلامية ونفسية ربما هي الأشرس في التاريخ بسبب اتساع وسائل الاتصال. هذه الأوضاع تخلق التباسا.

 

هل ورطت واشنطن كييف

 

مع استمرار المعارك داخل أوكرانيا تتناقض التصريحات حول مسارها. البعض في الغرب يتحدث عن هزيمة القوات الروسية، حكومة كييف وفي آخر بلاغاتها يوم الجمعة 18 مارس أعلنت عن مقتل 14400 جندي روسي وهو ما يعني جرح ما بين ثلاثة إلى أربعة أضعاف هذا العدد، وهذا يعني عمليا أن ال 142 ألف جندي روسي الذين عبروا الحدود قد أصبحوا قوة غير قادرة على القتال.

وبحسب البلاغ، فقد خسرت روسيا أيضا 95 طائرة و115 مروحية و1470 عربة مدرعة و213 قطعة مدفعية بالإضافة لمعدات أخرى.البنتاغون الأمريكي وفي نفس التوقيت أكد على لسان مسئول رفيع في وزارة الدفاع الأمريكية أن القوات الروسية لا تزال على بعد حوالي 15 إلى 20 كيلومترا إلى الشمال الغربي وحوالي 20 إلى 30 كيلومترا إلى الشرق من العاصمة كييف ولا تتحرك إلى الأمام.

وقدر احتفاظ الروس بنحو 90 في المئة من قوتهم القتالية المتاحة. وأكد أن الولايات المتحدة لم تلحظ أية تحركات روسية أو نقل إمدادات من مناطق روسية باتجاه أوكرانيا.

مصادر في العاصمة الألمانية برلين التي تحسب كحليف لحكومة أوكرانيا أشارت أن الكرملين يطبق سياسة القضم التدريجي ويعمل على استنزاف قوات كييف ويتجنب الدخول للمدن الكبرى حتى لا يتورط في حرب شوارع ولا يصبح مسئولا عن تموين ملايين السكان، وهو يسعى لحل سياسي مع حكومة في كييف لا يمكن للغرب الطعن في شرعيتها، ولكن حكومة مقتنعة أنها لا يمكن أن تربح الحرب وأن واشنطن ورطتها ولا تنوي تجاوز خطوط معينة في دعمها بحجة أن ذلك قد يقود إلى حرب عالمية ثالثة.

 

إشارات مختلطة تزعج الغرب

 

منذ يوم الجمعة 18 مارس 2022 تسود حالة توتر في البيت الأبيض ومختلف الأجهزة الأمريكية بعد ظهور مؤشرات عن عزم كييف توقيع اتفاق ينهي الحرب دون استشارة الغرب.

يوم السبت 19 مارس ذكرت صحيفة "واشنطن بوست" إن حصيلة قتلى الحرب العالية أجبرت الرئيس الأوكراني زيلينسكي، على التفكير في تقديم تنازلات لروسيا، من أجل إنهاء النزاع، وهو ما يثير قلق القادة الغربيين بشأن طبيعة تلك التنازلات.

وتنقل الصحيفة أن العناصر المحددة لأي اتفاق سلام قد تناقشه حكومة زيلينسكي مع موسكو لا تزال لغزا يحير القادة الغربيين.

وتشير الصحيفة إلى أن الجولات السرية من الاجتماعات بين المفاوضين الروس والأوكرانيين قد تحمل مفتاح إنهاء الصراع، لكنها تحمل أيضا تداعيات أوسع نطاقا على الأمن الأوروبي اعتمادا على كيفية تسوية موسكو وكييف خلافاتهما.

ويخشى الأمريكيون والأوروبيون أنه إذا تمكن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من استخدام القوة العسكرية لفرض تغيير سياسي في أوكرانيا، فقد يشجعه ذلك على استخدام نفس التكتيك في أماكن أخرى.

ووفق واشنطن بوست، تزيد الإشارات المختلطة لزيلينسكي من منسوب القلق الغربي بشأن مسار المفاوضات.

ونقلت الصحيفة عن دبلوماسي مطلع على المفاوضات، تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته، قوله إن "زيلينسكي لم يبد اهتماما كبيرا بالتوصل إلى تسوية عن طريق التفاوض، وأضاف إن أوكرانيا بحاجة إلى مواصلة القتال حتى يغير بوتين مطالبه".

ولكن في الوقت ذاته، تنقل الصحيفة، أشاد كبير مفاوضي زيلينسكي، ميخائيلو بودولياك، بالتقدم المحرز في المفاوضات مع روسيا، وأضاف "لدينا ثقة في التوصل إلى اتفاق قريبا".

وأدت هذه الإشارات المتضاربة إلى ارتباك لدى القادة الغربيين الذين يرون أن قدرتهم على التحرك محدودة، للتوفيق بين ما تريده روسيا وما قد تجده أوكرانيا مقبولا، بحسب الصحيفة.

ودعت موسكو إلى تجريد أوكرانيا بالكامل من السلاح وإلى اعتراف كييف بشبه جزيرة القرم التي ضمتها موسكو في عام 2014 كأراض روسية، ومنطقتي دونيتسك ولوهانسك الانفصاليتين كدولتين مستقلتين.

وأفاد مسئول أمريكي للصحيفة "إن الأوكرانيين يريدون القتال"، وعندما طلب منه تفسير بعض رسائل أوكرانيا المتفائلة بشأن التوصل إلى اتفاق، قال المسئول "كنا في حيرة من أمرنا بشأن هذا أيضا. لقد تلقينا رسائل مختلطة".

وذكر مسئول ثان في الإدارة الأمريكية إن تصريحات أوكرانيا تشير إلى أن زيلينسكي وكبار مساعديه لم يتوصلوا إلى استنتاج قاطع بشأن ما يرغب فيه الشعب الأوكراني". وأضاف مسئول أوروبي كبير "إنهم لم يتوصلوا إلى قرار بعد".

ويقول آخرون مقربون من زيلينسكي إنه يتعرض لضغوط غير عادية للقبول بالتقدم في المفاوضات مع روسيا حتى لو كان الواقع أقل تفاؤلا".

ويعارض بعض أعضاء حلف شمال الأطلسي في الجناح الشرقي أيضا اتفاق سلام يتم فيه التنازل كثيرا للرئيس الروسي بوتين خوفا من الرسالة التي سيوجهها ذلك للعالم.

وأعلن رئيس وفد التفاوض الروسي، فلاديمير ميدينسكي، مع كييف، يوم الجمعة، أنه لمس "تقاربا" في المواقف بشأن مسألة وضع أوكرانيا المحايد وإحراز تقدم بشأن مسألة نزع سلاحها.

ونقلت وكالات الأنباء الروسية عن ميدينسكي أن "مسألة وضع أوكرانيا المحايد وعدم انضمامها إلى حلف شمال الأطلسي هي إحدى النقاط الرئيسية في المفاوضات، إنها النقطة التي شهدت أكبر تقارب في مواقف الطرفين". 

لكنه أشار إلى وجود "اختلافات" حول "الضمانات الأمنية" التي تطالب بها أوكرانيا.

يوم السبت 19 مارس حمل وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف واشنطن المسؤولية في فرض موقفها على الحكومة الأوكرانية في المفاوضات المتواصلة والتي تهدف لوقف القتال في أوكرانيا.

ولفت لافروف إلى أن مشاركة الوفد الأوكراني في المفاوضات كانت شكلية في البداية، لكن لاحقا "تم تحسين بعض الحوار". وتابع: "وذلك على الرغم من أنه يشعر دائما أن الأمريكيين يمسكون بيد الوفد الأوكراني ولا يسمحون له بالموافقة على الحد الأدنى على الإطلاق، من المطالب".

 

البحث عن الحقيقة

 

بتاريخ 14 مارس 2022 وعلى الشبكة العنكبوتية نشر موقع "Sasa Post" الذي يخرج من حين لآخر بتقارير وأبحاث لا تجاري التوجهات الغربية، تقريرا أنجزه عدد من الباحثين تحت عنوان "ما لا يخبرك به الإعلام الغربي عن حرب روسيا في أوكرانيا" جاء فيه:

منذ بدء الهجوم العسكري الروسي على أوكرانيا في 24 فبراير 2022، أو كما تفضل روسيا بتسميته بـ"العملية العسكرية في أوكرانيا"، انطلقت حملة إعلامية غربية معارضة للهجوم الروسي، ولم يكن من المتوقع أن تكون مطابقة للواقع، بل مختلقة كليةً، من وجهة النظر الروسية.

وتضمنت الدعاية الغربية أمورا عديدة، أولا: مسار "العملية العسكرية" على الأرض. وثانيا: إلقاء الضوء على أي مظاهر معارضة لغزو أوكرانيا داخل روسيا. وثالثا: وبالطبع الأثر "المدمر" للعقوبات الاقتصادية الغربية على روسيا.

ولأن الحياد هو الضحية النموذجية في مثل هذه المواقف، سنحاول عرض سرديات مختلفة لما يعرضه الإعلام الغربي، بما في ذلك تغطية لوجهات نظر من داخل روسيا، تضمنت مقابلة شابين روسيين وطالب عربي في روسيا، لإبداء وجهات نظرهم المختلفة في المواضيع المتعلقة بالهجوم على أوكرانيا، ومن ثم سنحاول تقييم كل من الموقف السياسي الهجوم الروسي على أوكرانيا، والهجوم نفسه ومسار تقدمه على الأرض، والأثر الحالي للعقوبات الاقتصادية على روسيا، وتغطية جانب من الحياة اليومية لمواطنين روس.

منذ بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا سارعت وسائل الإعلام الغربية لوصفها بالغزو-الهجوم "غير المبرر"، ورسمت التقارير الغربية صورة معينة لجذور الصراع الحالي، تقوم بمجملها على سردية أن هناك شعبا حصل على استقلاله عام 1991، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وأصبحت غالبيته المتحدثة بالأوكرانية في غرب البلاد، تريد الفكاك من علاقتها التاريخية بالشرق أي روسيا، والاتجاه نحو الغرب، أوروبا تحديدا، وحلف شمال الأطلسي.

وبالتالي فإن الصراع على الأرض يدور بين أمة تصارع للحفاظ على ثقافتها واستقلالها ووحدتها أوكرانيا، ضد رغبة روسية بالهيمنة على كييف، وإعادة "أشباح" ماضي الاتحاد السوفيتي، أو الإمبراطورية الروسية، حين كانت أوكرانيا تابعة لروسيا. 

وانصب المجهود الدعائي الغربي على تفنيد كل ما يقوله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، من مبررات للعملية العسكرية في أوكرانيا، للوصول إلى النتيجة الوحيدة الممكنة وهي أن العملية العسكرية "غزو غير مبرر"، لدولة لا تهدد روسيا إطلاقا، بل على العكس روسيا هي التي تهدد هذه الدولة، وغيرها من الدول التي كانت تابعة في السابق للاتحاد السوفيتي.

 

زحف الناتو

 

في المقابل وبالاستماع إلى خطاب الرئيس الروسي بوتين للأمة الروسية صباح يوم العملية 24 فبراير 2022، نرى أن بوتين يحمل الغرب المسؤولية الكاملة "للأحداث المأساوية" التي حصلت في منطقة الدونباس شرق أوكرانيا خلال الأعوام الماضية، وأنه اتخذ قرار الغزو كخيار ألجأه إليه الغرب، ولا يوجد بديل عنه الآن.

يرى بوتين أن السياسيين غير المسئولين في الغرب سعوا خلال السنوات الماضية إلى إجبار روسيا على هذا الخيار بسبب توسيعهم لـحلف شمال الأطلسي "الناتو" إلى الشرق، مقربين جيوشهم وبنيتها التحتية أقرب وأقرب إلى الحدود الروسية، رغم تقديمهم وعودا بعدم توسيع الحلف سنتيمترا واحدا إلى الشرق.

بحسب بوتين فإن من المعروف أن روسيا حاولت بصبر وطوال 30 عاما الوصول إلى اتفاق مع "الناتو"، يضمن أمن أوروبا بشكل كامل ومتساو بين الأمم المختلفة، لكن "الناتو" لم يقابل روسيا إلا بـالخداع والأكاذيب، ومحاولات الضغط والابتزاز، إذ تجاهل كل مخاوف موسكو، واستمر في التوسع، واستمرت آلة الحرب في الاقتراب أكثر من حدود روسيا، مع شرح مستفيض للظرف التاريخي المؤدي للحظة الحالية، لا في زمن السوفيت وحسب، بل بالعودة إلى تاريخ الإمبراطورية الروسية أيضا.

في المقابل حاول الإعلام الغربي تفنيد حديث بوتين حول أوكرانيا، متجها إلى نتيجة حتمية أن "الغزو الروسي" لا مبرر له على الإطلاق، فـ"الناتو" لم يتوسع شرقا، بل إن دول الاتحاد السوفيتي السابقة هي التي طرقت بابه، وطلبت الحماية من روسيا الجارة المخيفة التي تهدد أمنها، وأن "آلة الحرب" الغربية كما يصفها بوتين لا تهدد روسيا، بل إن روسيا هي التي تهدد جيرانها والغرب من خلفهم.

وفي مقابل الرواية الروسية التي ما تكاد تجد مكانا لها في الإعلام، إلا لتنقد، فإنك بالكاد تستطيع رؤية رواية أخرى تحلق خارج السرب الغربي، لذا يقول الأكاديمي اللبناني أسعد أبو خليل أستاذ العلوم السياسية في جامعة ولاية كاليفورنيا ستانيسلاوس في مقالة على صحيفة الأخبار اللبنانية: "ليست مقالات الأمن القومي والسياسة الخارجية في صحف الغرب إلا منابر لدوائر الاستخبارات الغربية، وهي جزء من الآلة الحربية الغربية ضد أعدائها، وخصوصا عندما تجد الإعلام الغربي يتطابق في نقل رواية واحدة لا خلاف فيها تقريبا".

ويعدد أسعد أمثلة كثيرة عن طريقة عمل الإعلام الغربي، من أزمة القرم إلى حروب الشرق الأوسط، ومن فلسطين إلى العراق وسوريا، ويرى أن هذا الإعلام حضر للحرب الحالية، وأن مثل هذا التحضير لا يمكن أن يكون قد حصل دون تنسيق مع أجهزة أمنية واستخباراتية غربية.

فعلى مدار عقود حذّر الغرب العالم من خطر كبير متمثل في "الشموليات"، على شاكلة روسيا والصين، والاتحاد السوفيتي سابقا، ولكن أبو خليل يقول إن الحذر الأكبر من الشمولية يجب أن ينصب على الغرب، وعلى الولايات المتحدة وأوروبا وحلفائهم، خاصة أنهم يديرون اقتصاد العالم، ويتحكمون في آلة إعلامية لم يسبق لها مثيل، وبقوة عسكرية لا يمكن مقارنتها بأية قوة أخرى.

ومن جانبه يذكر المؤرخ الهندي فيجاي بارشاد، أستاذ كرسي إدوارد سعيد للدراسات الأمريكية في الجامعة الأمريكية ببيروت، والأستاذ بكلية "ترينيتي" بـ"هارفارد"، أن أية نظرة للتاريخ أو الحاضر تحاول تفسير الأحداث بناء على تفسير واحد، أو جذر واحد للمسألة، ستفشل دائما في فهم الأحداث.

ويقول بإرشاد إن الأزمة الأوكرانية الحالية ترجع أصولها إلى تاريخ قديم، ولا يمكن حصرها بما حصل منذ عام 2014 عند ضم القرم، بل يجب الرجوع إلى ما قبل ذلك، بل إن تفسير الأزمة بتوسع "الناتو" شرقا فقط أمر غير صحيح أيضا.

إذ حاولت روسيا نفسها التقارب مع الغرب، ودخلت في علاقات سياسية واقتصادية معه، حاولت دخول "الناتو" نفسه، ولم يبدأ بوتين انتقاد الحلف وسياساته إلا في عام 2007، بعد أن أصبح "الناتو" يشكل خطرا بالنسبة إلى الروس.

بالإضافة إلى ذلك، فإن الحكومة التي تشكلت في أوكرانيا عام 2014، دفعت كييف باتجاه "اليمين المتطرف"، وأعادت إلى الطاولة قضية الأقليات في أوكرانيا، وتحديدا الأقلية الروسية، وهي ليست قضية جديدة، بل كانت مطروحة منذ استقلال أوكرانيا وانهيار الاتحاد السوفيتي.

 

ليس حبا في بوتين

 

يقول دينيس 47 عاما، طبيب من موسكو: إن ما يسمى في الإعلام الغربي "غزو لأوكرانيا"، هو في الحقيقة عملية عسكرية روسية هدفها نزع العسكرة عن أوكرانيا، وهزيمة "النازيين" فيها، والذين استمروا بقتل سكان إقليم "الدونباس" من ذوي العرقية الروسية لثمانية أعوام، وأن الغرب استغل "النازيين" واستغل أوكرانيا بشكل كامل، في تهديد مصالح الدولة الروسية وقتل روس أوكرانيا. 

كما أن دينيس، ورغم اعتباره أن الأوكرانيين شعب سلافي شقيق، يتذكر أحاديث جده عن الحرب العالمية الثانية، وروايات المجازر التي قامت بها مجموعات قومية أوكرانية، متحالفة آنذاك مع النازيين الألمان، ويرى أن الوضع الحالي استمرار لهذا التاريخ.

وفي حديثه مع "ساسة بوست" أيضا يؤيد أندري 22 عاما، طالب من ساراتوڤ، ولا يتفق تماما مع سياسة بوتين، وله ملاحظات على العملية العسكرية في أوكرانيا، "قرار بلاده" بالدخول في هذه العملية العسكرية، مثل غالبية الناس في روسيا كما يقول، ويرى فيها ضرورة ملحة.

بدوره قال يزن، طالب عربي في مدينة بنزا الروسية، إنه لاحظ عند بدء الحرب أصواتا معارضة لها، لكن هذه الأصوات بدأت في الخمود والتحول، بعد أن شاهدوا ردة الفعل الغربية ضد روسيا، وانتشار ما أسماه "الروسوفوبيا"، وهي ظاهرة قديمة منذ الحرب الباردة، ويرى يزن أن العقوبات الاقتصادية، والإعلام الغربي، وكثيرا مما رآه الروس من تعليقات أوكرانيين على الحرب، دفعت الرأي العام الروسي أكثر في اتجاه تأييد الحرب.

يذكر في هذا الصدد أن "كتيبة آزوف" المصنفة "يمين متطرف"، و"نازية جديدة"، والتي يرى فيها الروس حركة مدعومة ومسلحة من الغرب، قتلت العديد من الروس في منطقة الدونباس شرق أوكرانيا، وتعادي الروس بشكل عام.

وعلى الرغم من أن الغرب يعول على إمكانية قيام معارضة روسية للحرب، وربما إمكانية أن تستطيع هذه المعارضة بمساعدة من العقوبات الاقتصادية الغربية، إسقاط حكم بوتين في روسيا، ولكن ما تظهره مقابلاتنا، واستطلاع رأي روسي يؤكدان أن شعبية بوتين في ازدياد منذ بدء العملية العسكرية، وأن عددا أكبر من الروس يدعم عمليات الدولة في أوكرانيا.

 

اسلوب عسكري مغاير

 

تستمر العملية العسكرية، ولم يحتل الجيش الروسي المدن المحورية الكبرى في أوكرانيا، سواء كان الحديث عن خاركيف القريبة جدا من الحدود الروسية، أو كييف القريبة من الحدود البيلاروسية التي استخدمتها روسيا قاعدةً لانطلاق جيشها، أو مدينة أوديسا الساحلية، القريبة من شبه جزيرة القرم.

في الإعلام الغربي هناك اتفاق عام على أن العملية العسكرية الروسية فشلت في تحقيق أهدافها، بل هناك شبه اتفاق على أسباب هذا "الفشل"، ولا تكاد تجد في الصحافة الغربية تغطية مختلفة عن هذا التحليل.

تنصب التحليلات الغربية على أن الجيش الروسي واجه مشاكل لوجستية، وتشمل أعطالا ميكانيكية، مثل تعطل إطارات الآليات، ونقص قطع الغيار، ومشاكل في إمدادات الطعام والوقود.

إضافة إلى ذلك تقول المصادر الغربية إن معنويات الجيش الروسي منخفضة جدا وأنهم لم يتوقعوا كل هذه المقاومة الأوكرانية.

كما أن الإعلام الغربي يروج لأن المقاومة الأوكرانية، والتي تتصدى لـ"الغزو الروسي" كانت أكفأ بكثير، لا من توقعات الروس وحدهم، بل من التوقعات الغربية أيضا، وأن هذه المقاومة هي ما يفشل المخططات الروسية، وأنها السبب الأساسي لانهيار معنويات الجيش الروسي.

طبعا لا يغفل الإعلام الغربي عن تغطية الدعم العسكري لأوكرانيا، فقد أقامت الدول الغربية جسرا جويا، والذي بدأ قبل الحرب، وهو مستمر حتى اللحظة.

 

فرضية أخرى

 

ولكن ألا يمكن أن تكون هناك فرضية أخرى عن مسار العملية العسكرية؟ فرضية لا توردها الصحف الغربية، وقد لا تخدم مصالح الغرب؟ يقول الكاتب اللبناني عامر محسن في مقالة بصحيفة الأخبار: إن الأسبوع الأول حمل بالفعل مفاجآت متمثلة في أن نمط الهجوم الروسي وشكله يختلف عما افترضه الجميع مسبقا، والذي تمثل في الغزو على الطريقة التقليدية، "بحرب جوية لإسكات دفاعات الخصم، يليها اجتياح بري بقوات ثقيلة تخترق خطوط العدو، تتبعها أنساق أخرى خلفها "تنظّف" وتمسك الأرض". 

لكن الذي فعلته روسيا على الأرض كان مخالفا لذلك، فقد بدا أن روسيا "لم تنتظر إسكات سلاح الجو الأوكراني بالكامل، ودفعت بقوات روسية لتخترق على محاور عديدة، وتتمدد في العمق داخل الأراضي الأوكرانية. وهذه القوات لم تقم على الإمساك بالأرض في شكل منهجي، بل تقدمت على الطرقات الرئيسة بسرعة نسبيا.

يميل محسن إلى رفض التفسيرات الغربية، ويشكك في إمكانية أن يكون الجنرالات الروس قد خفيت عنهم إشكالات يعرفها حتى غير المختصين، مثل المشكلات اللوجستية، أو أن الجيش الروسي قد لا يعرف الجيش الأوكراني، لكي لا يكون مستعدا لقتاله، خصوصا أن الجيش الروسي يقاتل الأوكرانيين في الدونباس طوال الأعوام الثمانية الماضية.

يرى محسن أن عقيدة الجيش الروسي قد لا تكون مشابهة لعقيدة الجيوش الغربية، والتي تعتمد تدمير القوات الرئيسة للعدو، أو إجبارها على التراجع إلى خطوط خلفية، كما لا يحاول الالتفاف عليها عبر "كماشات" تشكلها قوات مدرعة ثقيلة تخترق دفاعات العدو، وتناور على مساحات كبيرة.

بل يقدم فرضا آخر بموجبه تكون الخطة الروسية تهدف إلى التقدم في المرحلة الأولى بسرعة قصوى ومن عدة جبهات لخلق ممرات آمنة تنتشر وتمتد في مناطق لا مقاومة حقيقية فيها، دون السيطرة على الأرض والمدن من حولها، وفي المرحلة الثانية ستستخدم هذه الشبكة قوات ثقيلة، هدفها إقفال طرق متعددة على القطعات الأساسية للجيش الأوكراني، ومحاصرتها في جيوب.

نمط "الجيوب" هذا يضمن "أن يجري حصار أغلب القوة المقاتلة للجيش الأوكراني وتحييدها، بدلا عن خوض حرب مواجهة معها، وتراجع من خط دفاعي إلى آخر "أغلب الوحدات الأوكرانية الفاعلة هي متمركزة في الخطوط الأمامية في الشرق والجنوب، قرب جبهات دونتسك، ولوهانسك، والقرم، وأوديسا، وكييف، ولو تم حصارها أو إجبارها على الاستسلام، تكون أكثر القوة الرسمية للجيش الأوكراني قد عزلت. وحدود الجبهة مع دونتسك ولوهانسك، التي تعج بالوحدات الأوكرانية، هي الوحيدة التي لم يجر التقدم الروسي فيها والاصطدام بها، بينما تتقدم الطوابير الروسية حولها وفي كل مكان آخر".

ويقول محسن: إن طبيعة أوكرانيا وأراضيها تناسب هذا النوع من العمليات، فأرض أوكرانيا مسطحة، لا جبال فيها على سبيل المثال، وهي مناسبة تماما لمثل هذه التكتيكات في الحرب، وبالفعل فإن القوات الروسية انطلقت بشكل مسرع في الأيام الأولى، لكنها لم تصطدم بدفاعات مدينة كييف على سبيل المثال، وهي ما تزال تحاول السيطرة على خاركيف.

قبل أيام ذكر مسئول رفيع في البنتاغون الأمريكي أن 90 في المئة من القوات الروسية في أوكرانيا لم يلحق بها أي ضرر، وهي جاهزة للقتال، وهذا متعلق بالقوات في أوكرانيا فقط، لا بالجيش الروسي بشكل عام، وهذا لا يعني أن الـ10 في المئة الأخرى التي تضررت قد انتهت بالكامل، أو أنها غير قادرة على القتال مطلقا، رغم أن التقارير الغربية تتحدث عن خسائر ضخمة جدا في الآليات والأرواح.

كما أن نفس الجيش الروسي غير الكفؤ وفقا للإعلام الغربي، ومنهار المعنويات، والذي يعاني من مشاكل لوجستية بحسب تلك الرواية، و"الفاشل" في الشمال والشرق، وتحديدا حول خاركيف وكييف، هو نفسه الجيش الذي يحقق إنجازات معتبرة في الجنوب، ويتقدم بشكل ثابت نحو ما يفترض أنه ربط بري للقرم بالدونباس، وبالتالي بالأراضي الروسية.

رغم أن الرواية الغربية لا تقدم إجابات عن سؤال سر النجاح الروسي في الجنوب، مقارنة بالشمال والشرق، إلا أن المصادر الغربية، تضطر لذكر التقدم الروسي لأنه أوضح من أن يجري إنكاره لكنها لا تصفه بالنجاح، والملاحظ أن التقدم الروسي حتى الآن يحصل في مناطق أقل كثافة بالسكان، ومتباطئ في المناطق كثيفة السكان.

وبحسب كل من أندري ودينيس، فإن الروس عموما يرون في الشعب الأوكراني شعبا سلافيا شقيقا، لا يمكن بحال من الأحوال قبول قتله وتدمير مدنه، رغم دعمهم للعملية العسكرية الروسية، ويرون أن الجيش الروسي يأخذ هذا في عين الاعتبار، ويحاول تقليل الخسائر البشرية.

 

القوة الحقيقية

 

الواقع أن القوة الحقيقية للجيش الروسي لم تستخدم بعد على أرض المعركة فالجيش الروسي يحاول أن يخلي المدن الأوكرانية بشكل سلمي من المدنيين، قبل أن يبدأ ضغطه العسكري الفعلي عليها، ويطبق حصارا على هذه المدن، قد يجبر قطعا من الجيش الأوكراني على الاستسلام، دون الاضطرار لخوض معارك كبرى.

وفي ظل استمرار النزوح من العاصمة مثلا، فإن البطء الروسي قد يكون مبررا ضمن حسابات مختلفة عن حسابات الغرب، وقد يكون منطقيا أن الجيش الروسي لم يطبق حصاره، رغم أنه ما يزال يتقدم باتجاه ذلك، كما تظهر الخرائط، مع إبقاء مجال مفتوح أمام من يريد الهروب.

وتورد "TRT" التركية نقلًا عن خبير عسكري وجهة نظر مختلفة نوعيا عن وجهة النظر الغربية، وهي وجهة نظر ضابط متقاعد من الجيش الأمريكي، ومحاضر في التاريخ في جامعة المارينز، وهو د. إدوارد إريكسون، الذي يقول: إن التغطية الإعلامية تركز حصرا على المستوى التكتيكي من الحرب، ولا ترى إلا الجانب الأوكراني من القتال، مع تعاطف من قبل المراسلين مع الجانب الأوكراني، وهو لا يصدق أن أداء الجيش الروسي بالسوء الموصوف من طرف الإعلام الغربي.

فعلى مستوى عملياتي، وهو المستوى بين التكتيك والإستراتيجية، يرى إريكسون أن الروس يقومون بحملة متكاملة، وحتى الآن يبدو الأداء الروسي فيها جيدا، فهم يتقدمون على أكثر من محور، ويحرزون نتائج مهمة بشكل يومي، فقد قامت القوات الروسية بعزل خاركيف، وفي نظره فإن القوات الروسية ستعزل كييف قريبا.

وهو يؤكد أيضا أن الجيش الروسي لم يستخدم حتى الآن قدراته النارية الكاملة، بل إن الروس لم يستخدموا كثافة نيران عالية في أي مكان، ولم نشهد حتى اللحظة قيام القوات الجوية الروسية بعمليات ضخمة حتى الآن.

وستكون الأيام والأسابيع القادمة كفيلة بأن نعرف مدى نجاح هذه العملية، لكن قد لا نتمكن من تحديد أي التفسيرات كان الأصح، في ظل أن الخبراء الأمريكيين أنفسهم يشككون في القدرة على الوصول إلى معلومات وبيانات كافية من جانب الروس، في ظل التعاطف مع الجانب الأوكراني من طرف الإعلام والمراسلين.

 

أثر للعقوبات الاقتصادية

 

لا يسع أي مراقب محايد أن يفهم التغير الحقيقي الحاصل في حياة المواطنين الروس قبل شهور، وربما سنوات حتى من الآن، فهناك حاجة لبيانات مفصلة عن الأسعار، وعن توافر السلع، بما في ذلك بيانات البنك المركزي الروسي، واستطلاعات رأي من مختلف شرائح الشعب الروسي.

وحتى إذا حاولنا أن نستشف الآثار الحالية خلال الأيام القليلة الماضية، فيجب علينا التنبه إلى اختلاف الشرائح الروسية، واختلاف مشترياتها، وحاجاتها اليومية من المنتجات المختلفة، وتحديدا مدى شرائها للمستوردات من الخارج.

ففي عام 2020 وبمقارنة روسيا بكل من الصين، وتركيا، وإيران، يمكننا أن نقول إن روسيا استوردت أقل بشكل ملحوظ من كل من تركيا وإيران رغم أن إيران قبل حرب أوكرانيا كانت تعاني من عقوبات أكبر بكثير من روسيا، بينما استوردت الصين أقل من روسيا، بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي لكل بلد.

وبطبيعة الحال فكلما ازداد اعتمادك على المستوردات من الخارج، كلما كان أثر العقوبات أكبر عليك، وعلى الشرائح القريبة منك، والناس الذين يشبهونك إجمالا في نمط معيشتهم، والأمر مختلف طبعا بين المدن الروسية، فالنخب والطبقة الوسطى تتركزفي مدن مثل موسكو، وسان بطرسبرج، وسيكونون أقل تركزا في مدن مثل بنزا وساراتوف.

 

الجوانب السلبية فقط

 

رغم أن العقوبات تأخذ زمنا لتؤتي أكلها، إلا أن الغرب يتوقع أنها ستؤدي إلى أضرار بالغة بالاقتصاد الروسي، وأن الدولة الروسية بدأت بالفعل في الإحساس بأثر هذه العقوبات وحجمها، على الأقل على مستوى الانخفاض غير المسبوق للروبل، والذي وصل إلى 117 روبل للدولار الواحد، بعد أن حطم أرقاما قياسية تجاوزت 150 روبل للدولار في اليوم التالي للحرب.

قد لا يفرق الإعلام الغربي بين شرائح الشعب الروسي من النواحي السالفة الذكر، بل يمكننا القول إن الإعلام الغربي لن ينقل إلا الجوانب التي تثبت فاعلية العقوبات على الحياة اليومية في روسيا، والعقوبات كما أثبتت في كل حالات تطبيقها على بلدان أخرى، ليست عقوبة للسلطة فحسب، بل هي عقوبة للشعب أيضا، طالما أنه لا يتحرك ضد السلطات التي لا يحبها الغرب.

ويذكر تقرير لـ"BBC" أن التضخم في روسيا ارتفع 2.2 في المئة في أول أسبوع من الحرب عما كان عليه في عام 2021، وهي نسبة كبيرة لأسبوع واحد، وقد تتطور إلى نسب ضخمة لاحقا، ما لم تستطع الدولة الروسية السيطرة على هذا الارتفاع، وإحدى هذه الخطوات حتى الآن ما يذكره التقرير نفسه عن أن الحكومة أوعزت بعدم رفع الأسعار بأكثر من 5 في المئة.

وبحسب التقرير فإن السلع لم تختف عن أرفف المحلات بعد، في استحضار لمشاهد شهيرة من الأيام الأخيرة للاتحاد السوفيتي، وتنقل عن أحد سكان وسط موسكو أن الغذاء لن يختفي، ولكن سيرتفع سعره، من الغرابة أن بعض أسعار بعض السلع الأساسية عرفت إنخفاضا.

لكن كثيرا من المشاهدات المرصودة من قبل التقرير تتعلق أساسابمواد مستوردة من الخارج، ومن الطبيعي أن يرتفع سعرها،ويستمر التقرير في ذكر منتجات أخرى شبيهة، مثل الهواتفالمستوردة، وخدمات متعلقة بشبكة الإنترنت، حظرتها الحكومةالروسية، أو حظر استخدامها من الخارج، ومواطنين يستخدمونبعض التطبيقات الإلكترونية مصدرا للرزق.

تقرير آخر أكثر شمولًا من الأول، يتحدث عن خسائر المواطنينالذين استثمروا في البورصة الروسية، والتي انخفضت قيمةأسهمها بشكل كبير منذ بدء الحرب، وآخرين يعتمدون"YouTube" وما يشبهه مصدرا للرزق، وهو خيار لم يعد متوافرابعد الحرب، لكن التقرير يذكر حالات قليلة لمواطنين عاملين، ولكنلا يمتلكون مدخرات لاستخدامها، إلا مدخرات يمكن إنفاقهالشراء تذاكر للخروج من روسيا.

وإجمالًا تتركز التغطية الغربية على شرائح معينة من الطبقةالوسطى، وأغنياء روسيا، والذين تربطهم مصالح بالغرب، أويستهلكون منتجاته بشكل كبير وأساسي في حياتهم، أو علىالأقل يعيشون نمطا قريبا من النمط الغربي، ويخططون ربمالمغادرة روسيا بمجرد استطاعتهم ذلك.

بعض السلع عرفت ارتفاعا، مثل السكر، لكن المواد الأساسية فيالعموم متوفرة، وغالبيتها من إنتاج روسيا، وهو أمر مطمئن. 

البعض لاحظ في الاسواق أن بعض السلع عليها عروض بأسعارأرخص مما قبل الحرب، ويتوقع أن ذلك قد يكون رسالة من الدولةللجبهة الداخلية، فالمواطن الآن يشتري الدواجن على سبيل المثالبسعر لم يكن يجده قبل الحرب، ومن شركة تساهم فيها أحدالبنوك الروسية، والمفروض عليها عقوبات غربية مشددة، وهو ثانيأكبر بنوك روسياة بنك «VTB». 

 

روسيا والصمود الاقتصادي

 

دينيس الذي شهد أواخر سنوات الاتحاد السوفيتي يعلق علىالتخفيضات والعروض قائلًا إن روسيا اليوم ليست روسياالتسعينات، فعلى سبيل المثال لا تستورد روسيا الدواجن بالأطنانمن الخارج، كما كان الحال بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، بلتمتلك كل مدينة مزارعها الخاصة، وهو أمر مطمئن بالنسبة له بأنروسيا تستطيع الصمود اقتصاديا في هذه الحرب. 

الناس قادرون على الصمود طويلا دون "آيفون" أو "ماكدونالدز".

يقيس الإعلام الغربي الأثر الناتج عن العقوبات في كثير منالأحيان عن طريق احتساب التغير في قيمة الروبل، وهو منطقيستخدمه بعض الروس أيضا نظرا لاستهلاكهم كثيرا منالمستوردات في الخارج، ولكن انخفاض قيمة الروبل، وارتفاعسعر المستوردات نتيجة لذلك، لن يضر كثيرا بأسعار المواد التييعتبرها السواد الأعظم من الناس أساسية لحياتهم، مثل الحنطةالسوداء.

كما أن الدولة الروسية أبدت إشارات لقيامها بخطوات لمواجهةالعقوبات، منها تأميم المصالح الغربية على الأراضي الروسية،كما أن النهج العام للدولة الروسية يحاول أكثر وأكثر الاعتمادعلى الداخل، وربما مستقبليا الاستفادة من تجارب دول أخرىفي التغلب على العقوبات، وربما التحايل عليها أيضا.

وقد تستخدم هذه الأصول المؤممة في صالح الاقتصاد الروسي،وفي صالح توظيف من فقد عمله نتيجة لخروج هذه الشركات،وإعلان إغلاق أعمالها في روسيا، كما أن بعض الروس يرون أنمن الممكن أن تكون لهذه العقوبات آثار إيجابية في المستقبل، بأنيتجه الاهتمام الروسي في الاقتصاد إلى الداخل، وتستثمرروسيا انقطاع علاقاتها الاقتصادية بالغرب في الداخل الروسي،بحسب أندري، الذي قال إن جزءا من الشعب الروسي، وهو منهم،يرغبون أن تستخدم الدولة الروسية قدرا أكبر من "المركزية"،وإدارة أكبر للاقتصاد والسوق، وتوجيها لقدرات روسيا الكبيرةإلى الداخل، وهو رأي يستحيل سماعه في منصة صحافية غربية.

 

أوروبا المتضررة

 

يوم السبت 19 مارس 2022 صرح رئيس المركز الثقافي الروسيالعربي، مسلم شعيتو، إنه "سيكون هناك عالم جديد واضحبانقساماته، وبتمايزه بين الغرب وروسيا، وذلك عقب انتهاء حربأوكرانيا"، مؤكدا أن "أوروبا ستكون المتضرر الوحيد في هذهالحرب، بينما ستستفيد الولايات المتحدة مما يحدث، نتيجةلإضعاف أوروبا، لكن موسكو ستمد لاحقا يد العون لأوروبالإنقاذها من تلك الأزمة".

وأضاف، أن "العملية العسكرية في أوكرانيا زادت من شعبيةبوتين"، مشيرا إلى أن "70 بالمئة من الشعب الروسي يؤيدون هذهالعملية، في حين أن نسبة الـ 30 بالمئة الأخرى كانت تأمل فيخيارات أخرى سياسية أو دبلوماسية أو اقتصادية".

ورأى "شعيتو"، وهو خبير في الشؤون الروسية والعلاقات الدولية،أنه "لن تكون هناك فرص لنجاح المفاوضات ما دامت الولاياتالمتحدة تعلن أنها ستقدم السلاح والدعم المالي لأوكرانيا، وتتوهمالقيادة الأوكرانية أنها بذلك تستطيع تغيير موازين القوى"،مضيفا أن "الحرب لن تنتهي ما لم توافق كييف على الشروطالتي طرحتها موسكو".

العملية العسكرية الروسية تفرضها الأهداف التي وضعتهاالقيادة الروسية تحديدا، والتي تُسمى "عملية الدفاع عندونباس" من الاعتداءات الإرهابية التي تمثلها منظمات "آيدر"،و"آزوف"، وغيرهما، وهذه الاعتداءات مستمرة منذ 8 سنواتوحتى الآن.

القيادة الروسية قررت القيام بعملية محدودة في مناطق محددةفي أوكرانيا، حيث بدأت العملية باستهداف كل البنى التحتيةالعسكرية، خاصة المطارات، ومنظومة الدفاع الجوي، ومن ثمالتقدم بشكل تدريجي ومتصاعد إلى أن تُطوق هذه المجموعاتفي بعض المدن، منها ماريوبول، وخاركيف، وسومي، والمناطقالمحاذية لدونيتسك ولوغانسك.

والعملية العسكرية تسير بوتيرة تزعج الإعلام الغربي، والذي بدأيصورها مبتهجا، وكأنها فشل للقوات الروسية. بينما نحن نقومبعملية محددة بحسب ما أعلنته القيادة الروسية، وليس كمايطرحه المحللون والإعلام الغربي ومعه "الإعلام العربي التابع".

الإعلام الروسي لم ينجح في المواجهة مع نظيره الغربي، لأنالمنطلقات مختلفة، فالإعلام الغربي ومعه جزء من الإعلام العربييعتمد على الكذب، وقلب الحقائق، بينما الإعلام الروسي فيموقف رد الفعل، ولا يملك القدرة على السير في هذا الأسلوب منالتعاطي، وأعتقد أن هذا النهج سيستمر، وهذا عالم جديد منالصراع بين الحق والباطل، وبين الكذب والقتل والدمار وقيمالمثليين والفوضى الخلّاقة وصراع الحضارات بزعامة الولاياتالمتحدة، في مواجهة القيم الإنسانية والدينية والأخلاقية ومقاومةالمثلية بزعامة روسيا، ولا يمكن لروسيا أن تستطيع التصدي للهدموالقتل والدمار، فالهدم سهل جدا، لكن البناء صعب، وهذه هيالخريطة الجديدة للعالم.

 

معركة اخلاقية

 

إنها معركة دينية وأخلاقية بكل ما تحمل الكلمة من معنى، فهذهمعركة بين القيم بامتياز، الغرب الذي عمّم المثلية والفوضى، وحطّمالمجتمعات، وأدخل الصراعات بين القوميات والديانات، إن لميحرض بين الطوائف كما في سوريا، فقد حرض بين القبائل كمافي السودان وليبيا، كما أنه حرض بين الإثنيات كما في العراق،ولبنان، ويوغوسلافيا، وأفغانستان.. هذه الثقافة من الاعتداءات،ونشر المبادئ التي تقضي على الأسرة والعائلة، وتدمر الأديان.. بينما تقف أمامها مبادئ أخرى تعتمدها روسيا، وهي الإيمانبالقيم والتقاليد، والعادات، والديانات، وخاصة الأرثوذكسيةالقريبة جدا من المفاهيم الإسلامية في الشرق.

هناك تأثر مرحلي آني بالعقوبات الغربية، سينعكس سلبا علىالحياة الروسية الاجتماعية والاقتصادية، لكن على المدى المتوسطستصبح روسيا دولة مستقلة تماما عن كل السلع الغربية، وبحكمأنها تمتلك كل المقومات لتكون دولة منتجة، سواء من المواد الأولية،أو القدرات العلمية، أو الخبرات التي تمتلكها مصانعهاومؤسساتها المختلفة، كما أن ذلك سينعكس بشكل أكثر سلبيةعلى أوروبا في المدى القريب، نتيجة لارتباط أوروبا بالطاقةالروسية والمواد الأولية المنتجة في روسيا. 

عمر نجيب

[email protected]