نهاية النظام العالمي الأحادي أصبحت حتمية.... الصين والولايات المتحدة بين خياري المنافسة التعاونية والمواجهات الخطرة

أربعاء, 2021-07-21 15:54

عرفت العلاقات الصينية الأمريكية توترا متفاوت الحدة بشكل خاصة منذ سنة 2016 وطوال فترة حكم الرئيس دونالد ترمب وتواصل الأمر كذلك بعد وصول جو بايدن إلى سدة البيت الأبيض في 20 يناير 2021. الأزمات والمواجهات بين الطرفين وصلت إلى حدود حافة هاوية الحرب النووية. سعي الصين بالتعاون مع روسيا لتعديل النظام الدولي القائم على الأحادية القطبية والذي فرضته واشنطن خلال عقد التسعينيات من القرن العشرين الماضي أثر انهيار الاتحاد السوفيتي وتفوق الصين أو اقترابها من تخطي الولايات المتحدة في مجالات عديدة وخاصة الاقتصادية، دفع الكثير من المحللين إلى طرح فرضية اختيار ساسة البيت الأبيض شن حرب إستباقية ضد الصين للحفاظ على الهيمنة الأمريكية على العالم، لكن عدم ضمان الحصول على نصر حاسم بأقل خسائر جمد فكرة ركوب المقامرة، واختار الطرفان استخدام سبل أخرى سعيا وراء تكبيد الخصم أكبر خسائر ممكنة.

مع بداية العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين ركزت كل من بكين وواشنطن زيادة على السباق على التسلح وبناء تحالفات إقليمية في كل قارات العالم، على استخدام القدرات الاقتصادية في المواجهة.

أستاذ العلاقات الدولية في جامعة رنمين الصينية تشي يينهونغ يرى أن هناك حالة توتر خطيرة جدا وأنه "من الصعب توقع المدى الذي سيبلغه تدهور العلاقات"، مبديا اعتقاده أن الخصمين "شرعا في الانتقال إلى حرب باردة جديدة". غير أن هناك من يرى أنه أمام صعوبة ركوب مخاطر مواجهة قد يصل الطرفان إلى نوع من التعايش خاصة وأن هناك طرف صاعد وآخر متعثر.

 

ٍاستراتيجية التفوق الصينية

 

تتزايد الصين قوة يوما بعد يوم، تكنولوجيا، وعسكريا، واقتصاديا، وسياسيا، وقد أصبحت منافسا رئيسا لا يستهان به على المستوى العالمي في المجالات كافة، ما دفع القوى الكبرى، وخاصة الولايات المتحدة، إلى أن تأخذها في الحسبان بجدية كبيرة عند اتخاذ أي خطوة.

وتكثف مراكز الأبحاث العالمية تركيزها على استكشاف إمكانات الصين، وتقدمها المستمر، وقدراتها التنافسية، إذ نشرت مؤسسة الأبحاث والتطوير الأمريكية "راند" خلال الربع الأول من سنة 2021 تحليلا بعنوان "سعي الصين للتفوق العالمي"، في نحو 250 صفحة.

وشارك في إعداد التحليل الدكتور تيموثي هيث، وهو باحث دولي بارز في المؤسسة، وحاصل على الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة جورج مانسون، ودريك جروسمان، والمحلل العسكري البارز في "راند"، الذي عمل سابقا بجهاز الاستخبارات الأمريكية، وهو أستاذ مساعد في جامعة كاليفورانيا الجنوبية، وفقا لـ"الألمانية".

ويتمثل الهدف من تركيز معدي التحليل على الأبعاد الدولية والعسكرية للتنافس بين الولايات المتحدة والصين، في أمور ثلاثة، وهي أولا، أن يكون بمنزلة أداة للتخطيط من خلال عرض الاستراتيجبات الدولية والعسكرية، التي يمكن أن تتيح للصين التفوق على الولايات المتحدة، وثانيا، توعية الرأي العام بشأن استراتيجية الصين وعملياتها في مجال السياسة، وثالثا، السعي لتشجيع مزيد من المناقشات العامة بشأن طبيعة التنافس ومخاطره.

وتهدف الاستراتيجية الدولية للصين إلى ترسيخ تفوقها في منطقة آسيا المحيط الهادئ، وقيادة النظام الدولي، وتسعى هذه الاستراتيجية إلى تحقيق هذا الهدف عبر طرق سلمية، على الرغم من أنها لا تستبعد إمكانية وقوع أزمات ذات طابع عسكري، أو حتى نزاعات محدودة النطاق، مثل الحروب بالوكالة.

وجوهر الاستراتيجية الدولية المقترحة هو الاعتماد على قوة الصين الاقتصادية والمناورات الدبلوماسية لوضع بكين في مكانة متميزة، لا يمكن للولايات المتحدة اقتلاعها منها. وهناك استراتيجية عسكرية تكميلية تهدف إلى تقييد قدرة واشنطن على منع الصين من التفوق عليها، وذلك من خلال بناء جيش صيني متفوق يؤكد أن مخاطر مواجهته في أي صراع عسكري ستكون كبيرة للغاية.

وإحدى المسؤوليات العسكرية الصينية الرئيسة تتمثل في دعم الجهود الدبلوماسية لتهيئة ظروف دولية مواتية من خلال إقامة علاقات أمنية قوية مع الدول، التي تتعامل معها، وتشويه، أو إضعاف، جاذبية الولايات المتحدة كبديل للصين.

ومن النتائج، التي توصل إليها التحليل اعتراف السلطات الصينية بحتمية التنافس مع الولايات المتحدة، لكنها ترفض فكرة أن الصراع أمر حتمي. ولن تكون قيادة الصين الدولية مماثلة كثيرا لأشكال القيادة التي مارستها دول كانت تتمتع بالقيادة العالمية في السابق، وستتسم القيادة الدولية الصينية، التي ستمارس هيمنة عالمية جزئية تتركز أساسا على منطقة أوراسيا والشرق الأوسط وإفريقيا، بالاعتماد على التمويل، والتواصل الدبلوماسي، والمساعدات الأمنية، لممارسة النفوذ مع الحفاظ على وجود عسكري متواضع في الخارج. 

ومن ناحية أخرى، من الممكن أن تكون عواقب نجاح الصين في التنافس الاستراتيجي شديدة بالنسبة للولايات المتحدة، إذ إنه في حالة عدم قدرة أمريكا على إزاحة الصين من طريقها، من الممكن أن تواجه احتمالات اقتصادية متضائلة، وتهميشا دوليا، وقدرة ضعيفة على تشكيل الأمور العالمية.

 

توصيات

 

ومن التوصيات، التي قدمها التحليل الحاجة إلى مزيد من الاهتمام بالطرق الابتكارية الكثيرة، التي يمكن من خلالها أن توجه الصين العمل العسكري لتحقيق مزايا تتعلق بالمواقع في أي تنافس طويل المدى، كما يتعين أن تهدف السياسة الأمريكية إلى إضعاف قوة الانتقادات الصينية من خلال إظهار القيادة الأمريكية الفعالة، سريعة الاستجابة، وبالتالي يتم الحد من الحافز الذي يدفع الدول الأخرى إلى دعم جهود بكين لتجديد المنظمات الدولية بطرق تلحق الضرر بالمصالح الأمريكية.

كما تضمنت التوصيات حاجة وزارة الدفاع الأمريكية إلى الحفاظ على وجود عسكري كبير في الشرق الأوسط كوسيلة لتعزيز موقف الولايات المتحدة في منطقة آسيا المحيط الهادئ، وسيصبح التنسيق الأوثق بين الاستراتيجيات التنافسية داخل منطقة الهندالباسفيكي وخارجها أمرا أكثر أهمية.
وأكدت التوصيات أنه من الممكن أن يساعد وضع استراتيجية تشمل درجة ما من الطمأنينة والتعاون في استقرار التنافس، والحد من أخطار الحسابات الخاطئة والحوادث الخطرة، وأنه لتعظيم الردع وحماية المصالح الأمريكية، يتعين أن يكون هناك قدر أكبر من التنسيق بين أبعاد السياسة الدفاعية والخارجية لأي استراتيجية تنافسية.

وخلص معدو التحليل إلى أنه أبرز للحكومة ووزارة الدفاع الأمريكية الأهمية الدائمة لتحالفات وشراكات الولايات المتحدة، وأن الصين تدرك أن هذه الشبكة من التحالفات والشراكات ميزة استراتيجية هائلة للولايات المتحدة، وتسعى إلى أن تكون لديها شبكة مثلها.

يذكر أن مجلس الشيوخ الأمريكي، أقر أخيرا، مشروع قانون يقضي بتخصيص استثمارات كبيرة في العلوم والتكنولوجيا، وأعد نصا "تاريخيا" للتصدي اقتصاديا للصين ولنموذجها الذي تصفه بـ"الاستبدادي".

وفيما اتهمت بكين واشنطن بالمبالغة فيما يسمى "التهديد الصيني"، ترصد هذه الخطة أكثر من 170 مليار دولار لأغراض البحث والتطوير، وترمي خصوصا إلى تشجيع الشركات على أن تنتج على الأراضي الأمريكية أشباه موصلات تتركز صناعتها حاليا في آسيا.

ووفقا لـ"الفرنسية"، تعاني قطاعات أساسية عديدة من الاتصالات إلى السيارات نقصا في هذه الموصلات، ما يعكس البعد الاستراتيجي لهذا الإنتاج. وأقرت الخطة بتأييد 68 سيناتورا ومعارضة 32 ويفترض أن يتم تبنيها نهائيا في مجلس النواب، ثم يوقعها الرئيس جو بايدن.

جو بايدن قال بعد التصويت الأول "مع مواصلة البلدان الأخرى الاستثمار في أنشطة البحث والتطوير الخاصة بها، لا يمكننا أن نتخلف عن الركب"، مؤكدا ضرورة أن "تحافظ أمريكا على مكانتها بصفتها الدولة الأكثر إبداعا وإنتاجية في العالم". 

 

تذبذب في الإلتزامات

 

أكد عدد كبير من السياسيين الأمريكيين والغربيين مرارا وتكرارا بأن الولايات المتحدة هي أعظم وأقوى دولة في العالم اقتصاديا وعسكريا وتقنيا، لكن يبدو أن أطرافا أخرى أصبحت مترددة في الموافقة على هذا التصنيف مع بداية العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين. 

فوفقا لاستطلاع أجراه مركز "بيو" للأبحاث في سبتمبر 2020 في 13 دولة، فإن 41 بالمائة فقط من البريطانيين لديهم موقف إيجابي تجاه صورة الولايات المتحدة وهو أدنى مستوى سجلته المؤسسة في المملكة المتحدة. أما في فرنسا، فقد بلغت هذه النسبة 31 بالمائة وهي أدنى نسبة منذ عام 2003، بينما بلغت في ألمانيا 26 بالمائة فقط.

تذبذب التزامات واشنطن سواء تجاه حلفائها أو خصومها يعتبر عنصر ضعف ويهدر جزء كبيرا من فرص نجاح البيت الأبيض في كسب مساندين له في مواجهاته خاصة مع كل من بكين وموسكو. 

في مطلع العام 2020، وقعت الولايات المتحدة والصين اتفاقية تجارية جاءت لتخفف من النزاع التجاري بين أكبر اقتصادين في العالم.

وبموجب تلك الاتفاقية التي جاءت في عهد الرئيس السابق دونالد ترمب، تعهدت الصين شراء بضائع أمريكية إضافية بقيمة 200 مليار دولار خلال سنتين مقبلتين، فضلا عن تغيير في ممارسات بكين التجارية والالتزام بحماية الملكية الفكرية.

بعد ما يزيد عن عامين من توقيع الاتفاقين بين البلدين، شككت وزيرة الخزانة الأمريكية، جانيت يلين، بالاتفاقية بحجة أنها فشلت في معالجة الخلافات الأكثر إلحاحا بين البلدين، وحذرت من أن التعريفات الجمركية التي لا تزال سارية أضرت بالمستهلكين الأمريكيين.

وقد جاءت تعليقات الوزيرة يلين، في مقابلة مع صحيفة "نيويورك تايمز" خلال شهر يوليو 2021، في الوقت الذي لا تزال فيه إدارة الرئيس جو بايدن تراجع العلاقة الاقتصادية مع الصين. 

وقالت وزيرة الخزانة الأمريكية: "وجهة نظري الشخصية هي أن التعريفات لم تفرض على الصين بطريقة كانت مدروسة للغاية فيما يتعلق بأماكن وجود المشاكل وما هي مصلحة الولايات المتحدة".

والرسوم الجمركية التي لا تزال على 360 مليار دولار من الواردات الصينية معلقة، ولم تفصح إدارة بايدن سوى القليل عن مصير صفقة 2020. 

تشير "نيويورك تايمز" إلى أن الرئيس بايدن لم يتحرك للتراجع عن التعريفات الجمركية، لكن يلين أشارت إلى أنها لا تساعد الاقتصاد الأمريكي.

 

وجهة نظر واحدة

 

تحت قيادة بايدن، واصلت الولايات المتحدة الضغط على الصين وصعدته في بعض النواحي.

في مارس، فرضت واشنطن عقوبات على كبار المسؤولين الصينيين كجزء من جهد مع بريطانيا وكندا والاتحاد الأوروبي لمعاقبة بكين.

في يونيو، اتخذ البيت الأبيض خطوات للقضاء على ما وصفهبالعمل الجبري في الصين بعد أن فرض حظرا على واردات البولي سليكون المخصص لإنتاج الألواح الشمسية والقادمة من مقاطعة شينجيانغ.

كما أنهت الإدارة الأمريكية خلافا مع أوروبا بشأن دعم طائرات بوينغ وإيرباص في يونيو حتى تتمكن الولايات المتحدة من حشد الحلفاء بشكل أكثر فاعلية لمواجهة طموحات الصين في الهيمنة على الصناعات الرئيسية.

الباحث في معهد هدسون، مايكل بيلسبري، وهو الذي كان أحد كبار مستشاري ترمب بشأن الصين، صرح إن نهج إدارة بايدن تجاه الصين أكثر صرامة وفعالية من نهج ترمب، لأن مساعدي بايدن كانوا موحدين في وجهة نظرهم باعتبار أن واشنطن لا تستطيع أن تواجه بكين وحدها بنجاح.

في السنوات الأخيرة، أخذت سمعة الولايات المتحدة في التدهور، ولا يمكن فصل ذلك عن "عصا العقوبات" التي تلوح بها هنا وهناك بشكل عنيد لإعاقة التنمية الاقتصادية لدى القوى المنافسة. ووفقا لإحصاءات مكاتب المحاماة في جيبسون ودن وكروت، فرضت الحكومة الأمريكية أكثر من 3200 عقوبة على الكيانات والأفراد الأجانب خلال الفترة من 2017 إلى 2019 فقط. بغض النظر عن دول مثل إيران وكوبا وفنزويلا التي فرضت عليها عقوبات لفترة طويلة، وعانت شعوب هذه الدول كثيرا.

وبينما زادت العقوبات على الدول المعادية مثل سوريا وإيران وفنزويلا، فإن حلفاء الولايات المتحدة لم يسلموا أيضا من الحروب التجارية. في السنوات الأخيرة، واصلت الولايات المتحدة توسيع نطاق "الولاية القضائية طويلة المدى" لتشمل انتهاكاتها المدنية والاستثمارات المالية ومكافحة الاحتكار ومراقبة الصادرات وأمن الشبكة العنكبوتية، والعديد من المجالات الأخرى. وعلى صعيد الشؤون الدولية، طلبت في كثير من الأحيان من الكيانات أو الأفراد من البلدان الأخرى الامتثال لقوانينها المحلية وإلا يتم فرض عقوبات عليها في أي وقت. وبالتالي فهي تعمد لإساءة استخدام هذه الولاية القضائية طويلة المدى لتضع مصالحها الخاصة فوق مصالح البلدان الأخرى، مما يقوض بشدة المعايير الدولية للمساواة في السيادة بين الدول، وهذا ما يعرض استقرار وأمن سلسلة التوريد العالمي للخطر بشكل كبير. 

وتلوح واشنطن أيضا بعصا التعريفات الجمركية، حيث أبقت على رسوم جمركية بنسبة 15 بالمائة على الطائرات المدنية الكبيرة من المشابهة لإيرباص الأوروبية، وأعادت فرض رسوم جمركية بنسبة 10 بالمائة على بعض منتجات الألمنيوم المصدرة من كندا إلى الولايات المتحدة، وعاقبت شركتين إماراتيتين لدعمهما شركات الطيران الإيرانية وقامت بتجميد أصولهما في الولايات المتحدة. وهي كثيرا ما تفرض تعريفات جمركية للتدخل في تجارة الاستيراد والتصدير أو تستخدم الهيمنة المالية لابتزاز الدول الأخرى من خلال التحكم في تدفقات رأس المال، وتجميد الأصول بالدولار الأمريكي واحتياطيات النقد الأجنبي وإعاقة التنمية الاقتصادية والتجارية العالمية بشكل خطير.

ووفقا للتقرير الفصلي "جديد التجارة العالمية" الصادر عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، فقد انخفض حجم التجارة العالمية بنسبة 5 بالمائة على أساس سنوي في الربع الثالث من عام 2020. وفي حقبة ما بعد الوباء، فإن إجراءاتها لفرض تعريفات جمركية على سلع البلدان الأخرى ستعيق بلا شك انتعاش التجارة العالمية وتعافي اقتصادات البلدان الأخرى.

 

الغرق في الديون

 

يمثل الاقتصاد الأمريكي حوالي ربع الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وأي أزمة في الاقتصاد الأمريكي تثير اهتزازات ارتدادية على الاقتصاد العالمي. في الوقت الحاضر، تجاوز الدين الضخم للولايات المتحدة حجم اقتصادها، وهذا لا يلقي بظلاله على آفاق الاقتصاد الأمريكي فحسب، بل أصبح أيضا أحد العوامل التي تهدد استقرار الاقتصاد العالمي.

قبل بضع سنوات، توصل بعض الخبراء إلى نظرية غريبة عرفت بـ"النظرية النقدية الحديثة"، ومضمونها أنه طالما ظلت أسعار الفائدة منخفضة، يمكن للحكومة الأمريكية أن تنفق وتقترض تريليونات الدولارات دون أن تتكبد خسائر، بل يمكنها مراكمة الثروة.

في تقرير نشرته صحيفة "ذا هيل" الأمريكية خلال شهر يونيو 2021، يقول الكاتب ستيفن مور إنه بالرغم من سخافة هذه الفكرة التي تشبه نظرية أن الأرض مسطحة لا كروية، فإن الرئيس الحالي جو بايدن قرر الاعتماد عليها كسياسة مالية في فترة رئاسته، وهو ما سيجعل الولايات المتحدة تغرق في المزيد من الديون خلال السنوات القادمة ويضعف فرصها للتفوق.

رصدت الإدارة الأمريكية 6 تريليونات دولار كنفقات ضمن ميزانيتها، وقد ترتفع إلى 8 تريليونات دولار، ومن المنتظر إقرار زيادة ضريبية قدرها تريليونا دولار على الأثرياء، كما يتوقع أن يرتفع حجم الديون إلى 7.6 تريليونات دولار، وهو أكثر من الديون التي تراكمت على الرؤساء الأربعة السابقين.

وقد زاد العجز التجاري خلال الفترة الماضية بـ5 تريليونات دولار أنفقتها الحكومة لمكافحة أزمة كوفيد 19، والآن بعد أن تجاوزت الولايات المتحدة الفترة الأسوأ من الوباء -وفقا للكاتب- فإن من المفترض أن تبدأ الإدارة الأمريكية بالبحث عن أفضل السبل للتخلص من عبء الديون التي سترتفع إلى أكثر من 150 ألف دولار لكل مولود أمريكي جديد، لا انتهاج سياسة تزيد معدلات الاقتراض.

وبحسب بيان الميزانية، فإن جميع نفقات إدارة بايدن تندرج تحت بند "الاستثمارات"، ومنها نفقات وزارة التعليم ومنح رعاية الأطفال وإجازة الأبوين المدفوعة ومنح الرعاية المقدمة لشركات طاقة الرياح والطاقة الشمسية "العديد منها يعمل خارج الولايات المتحدة"، ومنح "العدالة البيئية" وأنظمة النقل الجماعي التي لا يركبها سوى القليل من الناس، والمساعدات الموجهة للولايات والمدن التي صوتت للديمقراطيين، ناهيك عن منح التأمين ضد البطالة، وحتى مبلغ الـ30 مليار دولار الذي يريد الرئيس بايدن إنفاقه لتوظيف 75 ألف وكيل في مصلحة الضرائب، يندرج بدوره ضمن الاستثمارات.

وبحسب الكاتب، فإن المثير للاستياء في ميزانية إدارة بايدن هو أن الوزارتين الأكثر أهمية في البلاد -أي وزارة الدفاع ووزارة الأمن الداخلي- لم تحصلا على أي زيادة في ميزانيتيهما، إذ ذهبت كل الزيادات التي تم إقرارها إلى البرامج الاجتماعية المحلية المصممة لإعادة توزيع الثروة، لا لتوسيعها.

على ضوء هذه الميزانية، يتوقع فريق بايدن وصول معدلات النمو على مدى العقد المقبل إلى 2 في المئة، في حين كان المعدل قريبا من 3 في المئة على مدى السنوات الأربعين الماضية. وبالنظر إلى أن جزءا كبيرا من النمو في الناتج المحلي الإجمالي سيأتي مباشرة من الإنفاق الحكومي، فإن من المتوقع أن يصل معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي في القطاع الخاص إلى 1 في المئة أو 1.5 في المئة سنويا، وتوصف هذه الحالة بـ"الركود العلماني"، وهو مصطلح يشير إلى حالة نمو اقتصادي ضئيل أو معدوم.

ويؤكد الكاتب أن إدارة بايدن لا تتظاهر أبدا بأنها قادرة على جعل الميزانية أكثر توازنا خلال السنوات القادمة، بل إن كل المؤشرات تدل على أنها تستعد للتعامل مع عشرات مليارات الدولارات من الديون إلى أجل غير مسمى.

 

حلقة مفرغة

 

لكن ما الآثار التي قد تترتب عن ميزانية ترفع فيها مستويات الإنفاق بشكل متهور كل عام، مع عدم وجود مصادر دخل معقولة؟.

يرى الكاتب أن من شبه المؤكد أن زيادة الديون التي تقدر بمليارات الدولارات ستؤدي إلى ارتفاع معدلات التضخم وأسعار الفائدة. وحتى لو أقر بايدن زيادة في الأجور، فإن من المتوقع أن يتجاوز معدل التضخم نسبة الزيادة، مما يعني انخفاض مستويات معيشة أصحاب الدخل المتوسط وكبار السن الذين يعيشون على دخل ثابت.

ومع ارتفاع التضخم وما قد يسببه من صدمات للمستهلكين، ينبغي على الكونغرس مكافحة ارتفاع الأسعار وخفض قيمة الدولار من خلال إلغاء بعض النفقات غير الضرورية من الميزانية، لا زيادتها.

ويشير الكاتب في هذا السياق إلى أن الديمقراطيين في الكونغرس يرفضون أي انتقادات من الجمهوريين لإستراتيجية الاقتراض الجامحة التي ينتهجها بايدن، مذكرين بالعجز الكبير للميزانية في عهد الرئيسين الجمهوريين دونالد ترمب وجورج بوش الابن، لكنهم يتجاهلون -وفقا للكاتب- أن مستويات الديون في الميزانية الحالية أعلى بمرتين إلى 3 مرات مما كانت عليه سابقا.

ويعتقد الكاتب أن الأمر المثير للسخرية أن الصين لن تحتاج إلى بذل أي جهود لمحاولة خفض قيمة الدولار الأمريكي حتى يصبح اليوان الصيني العملة العالمية المهيمنة، لأن الولايات المتحدة هي التي ستقوم بذلك مستقبلا لخفض قيمة ديونها.

وخلص الكاتب إلى أن النواب الديمقراطيين مطالبون بالتخلي عن ولاءاتهم الحزبية الضيقة ورفض التصويت على ميزانية إدارة بايدن التي تقوم على سياسة مالية متهورة، من أجل مساعدة بلادهم على الخروج من حلقة الاقتراض المفرغة.

 

منطق المنافسة

 

نشر مركز "بروجيكت سينديكيت" خلال شهر مايو 2021 مقالا للكاتب جوزيف ناى يرى فيه أن العلاقة بين الصين والولايات المتحدة هي علاقة منافسة تعاونية، تصبح فيها أمريكا بحاجة إلى الصين أو غيرها من الدول لمواجهة تهديدات عدة في العصر الحالي على الرغم من التقدم الذي تحرزه أمريكا على الدول الأخرى...:

فى خطابه الأخير أمام الكونغرس الأمريكي، حَذَرَ الرئيس الأمريكي جو بايدن من أن الصين جادة تماما فى محاولاتها الرامية إلى اكتساب مكانة القوة الأكثر أهمية فى العالم. لكن بايدن أعلن أيضا أن المستبدين لن يفوزوا بالمستقبل، بل ستفوز به أمريكا. الواقع أن منافسة القوى العظمى الدائرة بين الولايات المتحدة والصين قد تكون بالغة الخطورة إذا أسيء التعامل معها. لكن إذا أدارت الولايات المتحدة هذه المنافسة على النحو الصحيح، فقد يكون التنافس مع الصين صحيا.

يعتمد نجاح سياسة بايدن فى التعامل مع الصين جزئيا على الصين، لكنه يتوقف أيضا على الكيفية التي قد تتغير بها الولايات المتحدة. الواقع أن الحفاظ على ريادة أمريكا التكنولوجية أمر بالغ الأهمية، وهو يتطلب الاستثمار في رأس المال البشري فضلا عن البحث والتطوير. وقد اقترح بايدن كلا الأمرين. في ذات الوقت، يتعين على الولايات المتحدة أن تتعامل مع التهديدات الجديدة العابرة للحدود الوطنية مثل تغير المناخ والجائحة التي قتلت من الأمريكيين عددا أكبر من كل ضحايا الحروب التي خاضتها البلاد مجتمعة منذ عام 1945. ويتطلب التصدي لهذه التحديات التعاون مع الصين وغيرها. 

هذا يعنى أن بايدن يواجه أجندة شاقة، ويتعامل مع المنافسة مع الصين على أنها "لحظة سبوتنِك". ورغم أنه أشار في خطابه إلى الرئيس فرانكلين ديلانو روزفلت وأزمة الكساد العظيم، وتجنب خطاب الحرب الباردة المضلل، فإن المقارنة المناسبة يجب أن تكون مع خمسينيات القرن العشرين، عندما استخدم الرئيس دوايت أيزنهاور صدمة نجاح الاتحاد السوفييتي فى إطلاق القمر الصناعي لحفز الاستثمار الأمريكي فى التعليم، والبنية الأساسية، والتكنولوجيات الجديدة. ترى هل تستطيع أمريكا أن تفعل الشيء ذاته الآن؟.

 

نقاط ضعف

 

تكتسب الصين المزيد من القوة على نحو مطرد، لكنها تعانى أيضا من نقاط ضعف كبيرة، في حين تتمتع الولايات المتحدة بمواطن قوة مهمة في الأمد البعيد. لنبدأ هنا بالجغرافيا. فيحين تحاط الولايات المتحدة بالمحيطات والجيران الوديين، تخوض الصين فى نزاعات على الأرض مع الهند، واليابان، وفيتنام. وهذا يصب في مصلحة الولايات المتحدة. كما أصبحت أمريكا الآن دولة مصَدِرة صافية للطاقة، بينما تعتمد الصين على واردات النفط المنقولة عبر المحيط الهندي حيث تحتفظ الولايات المتحدة بوجود بحري عسكري كبير.

علاوة على ذلك، تمارس الولايات المتحدة قوة مالية كبيرة نتيجة لمؤسساتها العالمية وهيمنة الدولار الدولية. وبينما تطمح الصين إلى الاضطلاع بدور مالي عالمي أكبر، فإن العملة الاحتياطية الجديرة بالثقة تعتمد على قابليتها للتحويل، وأسواق رأس المال العميقة، والحكم النزيه، وسيادة القانون وكلها أمور تفتقر إليها الصين. كما تتمتع الولايات المتحدة بميزة ديموغرافية، فقوتها العاملة في ازدياد، بينما بدأت قوة العمل في الصين تتراجع.

كانت أمريكا أيضا في صدارة تكنولوجيات رئيسية، وتهيمن الجامعات البحثية الأمريكية على التصنيف العالمي للتعليم العالي. في الوقت ذاته، تستثمر الصين بكثافة في البحث والتطوير، وتتنافس بشكل جيد الآن في بعض المجالات، وتسعى إلى أن تكون الدولة الرائدة عالميا في مجال الذكاء الاصطناعيبحلول عام 2030. ونظرا لأهمية التعلم الآلي بوصفه تكنولوجيا للأغراض العامة، فإن التقدم الذي تحققه الصين في مجال الذكاء الاصطناعي مهم بشكل خاص.

علاوة على ذلك، لم يعد تقدم الصين تكنولوجيا يعتمد على التقليد فحسب. ورغم أن إدارة ترمب عاقبت بحق سرقة الصين للملكة الفكرية ونقلها قسرا، والممارسات التجارية غير العادلة، فإن الرد الأمريكي الناجح على التحدي التكنولوجي الصيني سيعتمد على التحسينات فى الداخل أكثر من اعتماده على العقوبات الخارجية.

مع استمرار نمو الصين، والهند، وغيرهما من الاقتصاديات الناشئة، ستظل حصة أمريكا في الاقتصاد العالمي أقل من مستواها الذي بلغ نحو 25 في المئة فى بداية هذا القرن. بالإضافة إلى هذا، ستزداد صعوبة تنظيم العمل الجماعي فيدعم المنافع العامة العالمية مع صعود قوى أخرى. مع ذلك، لن نجد أي دولة بما في ذلك الصين، توشك على الحلول محل الولايات المتحدة عندما يتعلق الأمر بموارد القوة الإجمالية في العقود القليلة المقبلة.

كان النمو الاقتصادي الآسيوي السريع سببا في تشجيع تحول أفقي للقوة فى المنطقة، لكن آسيا لديها ميزان قوة داخلي خاص بها. فقوة الصين توازنها اليابان، والهند، وأستراليا، بين دول أخرى، في حين تضطلع الولايات المتحدة بدور حاسم. وإذا حافظت أمريكا على تحالفاتها، فسوف تكون فرص الصين ضئيلة في دفعها إلى خارج منطقة غرب المحيط الهادئ، ناهيك عن فرض هيمنتها على العالَم.

 

نصف المشكلة

 

التنافس مع الصين ليس سوى نصف المشكلة التي تواجه بايدن. كما يزعم خبير التكنولوجيا الأمريكي ريتشارد دانزيغ، فإن "تكنولوجيات القرن الحادي والعشرين عالمية ليس فقط فيتوزيعها، بل وأيضا في العواقب المترتبة عليها. وقد تصبح أمور مثل مسببات الأمراض، وأنظمة الذكاء الاصطناعي، وفيروسات الكمبيوتر، والإشعاع الذي قد يطلقه آخرون عن طريق الخطأ، مشكلتنا بقدر ما هي مشكلتهم". لهذا السبب، كما يزعم دانزيغ، "من الأهمية بمكان أن نلاحق أنظمة الإبلاغ المتفق عليها، والضوابط المشتركة، وخطط الطوارئ المشتركة، والمعايير، والمعاهدات، كوسيلة للتخفيف من المخاطر المشتركة العديدة التيتواجهنا جميعا".

في بعض المناطق، من الممكن أن تقدم القيادة الأمريكية الأحادية الجانب جزءا كبيرا من الإجابة على مشكلة توفير المنافع العامة. على سبيل المثال، تشكل البحرية الأمريكية أهمية بالغة لمراقبة قانون البحار والدفاع عن حرية الملاحة في بحر الصين الجنوبي. ولكن عندما يتعلق الأمر بقضايا جديدة عابرة للحدود الوطنية مثل تغير المناخ والفاشيات المَرَضية، فإن النجاح يتطلب التعاون مع آخرين. ورغم أن القيادة الأمريكية ستكون مهمة، فإن الولايات المتحدة لا تستطيع حل هذه المشكلات بالعمل منفردة، لأن غازات الانحباس الحراري الكوكبي والفيروسات لا تحترم حدودا ولا تستجيب للقوة العسكرية.

في مجال الاتكالية البيئية المتبادلة، تصبح القوة لعبة ذات محصلة إيجابية. وعلى هذا فإن أمريكا لا يمكنها أن تفكر ببساطة من منظور فرض قوتها على الآخرين، بل يتعين عليها أن تضع فى الحسبان أيضا ممارسة قوتها بالتعاون مع آخرين. في العديد من القضايا العابرة للحدود، من الممكن أن يفيد تمكين الآخرين في تعزيز قدرة أمريكا على تحقيق أهدافها الخاصة، فسوف تستفيد الولايات المتحدة إذا نجحت الصين في تحسين كفاءة استخدام الطاقة وإطلاق مقادير أقل من ثاني أكسيد الكربون. وعلى هذا فإن أمريكا يجب أن تتعاون مع الصين بينما تتنافس معها أيضا.

يخشى بعض المراقبين أن تربط الصين التعاون فى التصديلتغير المناخ بتنازلات من جانب الولايات المتحدة في مجالات المنافسة التقليدية، لكن هذا يتجاهل إلى أي مدى قد تخسر الصين إذا ذابت الأنهار الجليدية في الهيمالايا أو إذا غمرت المياه شنغهاي. كان من اللافت للانتباه أن الرئيس الصيني شى جين بينغ شارك فى مؤتمر المناخ العالمي الذي عقده بايدن أخيرا على الرغم من التوترات الثنائية حول انتقادات الولايات المتحدة للصين في مجال حقوق الإنسان.

السؤال الرئيسي عند قياس نجاح سياسة بايدن في التعامل مع الصين هو ما إذا كان بإمكان القوتين التعاون في إنتاج المنافع العامة العالمية، في حين تتنافسان بقوة في مجالات أخرى. إن العلاقة بين الولايات المتحدة والصين علاقة "منافسة تعاونية"، حيث تتطلب شروط المنافسة إعطاء قدر متساو من الاهتمام لكل من طرفي النقيض. ولن يكون هذا سهلا.

 

عمر نجيب

[email protected]