عَمِلتُ مع الأمم المتحدة في السودان مرتين. من مايو ١٩٨٩ ولغاية ديسمبر ١٩٩١ والثانية من فبراير ٢٠١٢ ولنهاية يناير ٢٠١٥. في الفترة الأولى كنتُ موظفاً بالإدارة الوُسطى لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي مسؤولاً عن عدةِ قطاعاتٍ تنموية. وفي الفترة الثانية كنتُ أقودُ تنسيق العمل التنموي والإنساني للأمم المتحدة برمته، وأرأسُ فريق الأمم المتحدة التنموي والإنساني من الخرطوم.
شاءت الأقدار أن أصلَ للخرطوم قُبَيْلَ الانقلاب العسكري الذي أطاحَ بالحكم المدني المنتخب للراحل الصادق المهدي. يوم الجمعة عندما ظهرَ البشيرُ علي شاشة التلفاز ليعلن نهايةَ المهدي وبدايةَ “الإنقاذ” تكلم الشارع السوداني عن ثورةٍ إسلاميةٍ. كان طريفاً أنَّ ثورةً إسلاميةً تُطيحُ برئيسِ وزراءٍ هو نفسهُ إسلامي الروح والطلعة والمذهب. حفيد المهدي.
عندما عدتُ للسودان كان السودان قد اختلف بعض الشيء وكنتُ منغمساً تماماً في أزمته الإنسانية التي آذت ملايين السودانيين البسطاء. وكنتُ قريباً من الحكومة لضرورات العمل مع أجهزتها إلى أن رأت الحكومة لسببٍ لا أعلمه ولم يُعلنْ أنني لم أعد شخصاً مرغوباً به بمركزي الرسمي في السودان. لكن من عاش السودان فيه لا يمكن له أن يدير ظهرهُ لبعض روحه ولو آلمتهُ يوماً.
بين منتصف عام ١٩٨٩ والإطاحة بالبشير والإنقاذ عام ٢٠١٩ عَبَرَ السودانُ من سحيقٍ ووادٍ لمرتفعٍ وهضبة ثم لسحيقٍ و وادٍ، عسكرياً و اقتصادياً و اجتماعياً و عمرانياً و سياسياً بالطبع. عديدةٌ هي الأمثلة على الصعود والسقوط وما يهمني هنا هو المرتبطُ بالحلقات المحكمة التي قادت للتفكير الجدي لدى حكومة الإنقاذ للتصالح مع “إسرائيل”. حاكم السودان اليوم، البرهان، لم يفعل ما لم تفكر به العسكرية التي أتى منها.
من يقرأ التاريخ الحديث يعلم أن السودان اتجه لدعم حركة المقاومة الإسلامية “حماس” ونقل لها وربما صنَّعَ لها سلاحاً. وأنه استضاف أسامة بن لادن وفريقه. وكان نصيراً مخلصاً للحركة الإسلامية العالمية. بموازاة هذا كانت الحرب مع الجنوب مستعرة وثورات دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق تشتعل. قامت “إسرائيل” بضرب مصانع السلاح السودانية وقوافل السلاح المسافرة لحماس. وضغطت القوى المختلفة ليتخلى السودان البشير عن حلم قيادة الحركة الإسلامية. سُجِنَ حكيمها الترابي وطُرِدَ بن لادن وبينهما كارلوس المطلوب والذي اقتادهُ السودان للطائرة الفرنسية ليقضي باقي عمره مسجوناً بفرنسا. ثم انشغلت العواصم بعقاب السودان على أحداث دارفور ورويداً خسر البشير حربه مع الجنوب الذي استقل بدعمٍ غربي وبوعودٍ للخرطوم لم تُنفذ. كان للغرب وجهة نظرٍ حادة تجاه البشير المطلوب للجنائية الدولية كمتهمٍ بجرائم ضد البشرية، وتجاه السودان الذي لم يركع ويسجد كما ينبغي.
في تلك اللحظات راودت حكومة الإنقاذ فكرة طوق النجاة الصهيوني. كانت الحكومة قد لبت طلبات التعاون مع الدوليين ضد الإرهاب الذي استضافته أو تعلم عنه. وقبلت استقلال الجنوب. لكنها لم تكن لتصل لوفاقٍ راسخٍ مع المتمردين رغم جهود الدوحة. وعلمت أن المطلوب غربيا هو رأس البشير والإنقاذ. فكان التلويح بعلاقاتٍ مع “إسرائيل”. ولا أُخفي حديثاً خاصاً مع وزيرٍ فاعلٍ عن جدوى هذه العلاقة. لحظتها قلتُ إنها ستكون الخطيئة التي لن تُغفر. ومضت الأيام ليزول حكم البشير ويأتي عسكريٌ مثله ليقود السودان. وعنده نفس الهاجس. أن يطفو السودان فوق مشاكله وأن الترياق تصنعه “تل أبيب” ولا بد من تناوله.
لا يبدو البرهان مصيبا في استنتاجه هذا. المطلوب غربياً هو تفتيت السودان لولاءاتٍ مختلفة. ولن يطفو السودان حتى بالعلاقات مع الصهيونية. هذه العلاقات تستخدمها الصهيونية أهدافاً في معركةِ كسرها نطاق الممانعة العربية لها ولإضعاف روح وعضد المقاومة. ولن يهمها وحدة السودان طالما هي تستطيع اللعب مع دول وولاءاتٍ سودانية أكثر قِدَماً وولاءً من البرهان في التعامل معها، وأقدر على التنازل وكلها تريد ضعف الخرطوم وانفكاك أي نوعٍ لحكمٍ فيه مركزية.
لقد شارَ البشير رفاقهُ وتراجع عن التطبيع حتى أخرجهُ للسجن من هوَ صنعهم. وهم اليوم يتقدمون للتطبيع بشراسةٍ للبقاء حكاماً للسودان. ضابطٌ وراء ضابط.
هل نراهن على رفض السودانيين؟ لا أدري. أصدقاء سودانيين يحلفون أن التطبيع لن يمر. لكنه سيمر بواسطة العسكر والتجار والساسة الذين يرون مصالح ذاتية فاسدة في التطبيع. أما السوداني المواطن فسيبقى رافضاً لكن هامشياً في هذه اللعبة كما المواطن العربي بكل بلدٍ يطبع.
إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا وربما يمنحنا الله ببركةِ السوداني البسيط الذي بينه وبين الله حبلٌ من رجاء لا يخيب، ربما يخيب رهان البرهان وأعداء السودان.
علي الزعتري دبلوماسي أُممي سابق