لعل السؤال الذي يطرح نفسه موضوعيا عن علاقة الأحداث التاريخية بمقدمها للقراء، هو: هل مقال الدكتور إسلكو أحمد إزيد بيه خلال تقديمه للأحداث التاريخية، هي كما وقعت فعليا، أو كما يتذكرها، وتصور تأثيرها على العالم، كما اعتقد ذلك، وهو ما يجوز الاختلاف حوله، وليس عن الاحداث لذاتها، كما اشرنا الى ذلك في المقال السابق؟
وكيف يجوز وصف الايديولوجيا ب" العمياء" وهي الموجه "لتغيير وجه العالم " ـ على حد تعبيره ـ ؟
وهل تعامل الغرب الامبريالي ب"عقلانية مع واقع ما بعد الحرب الباردة"، أو فرض استراتيجيته العدوانية القائمة على الحروب، والنهب، و" تكييف"، و"تنميط" الانظمة السياسية وفق مصالحه، و الدليل على ذلك اسقاط الغرب الامبريالي للانظمة الوطنية، وابتزازه لاصحاب "الصناديق السيادية" المحشوة بالعملات الصعبة الودعة في مصارفه؟
وما وجه العقلانية في ذلك، أوالانسانية؟!
ولعل الاهم في الامر هو مناقشة الدكتور في رؤيته الاختزالية لما أسماه " التيار القومي العربي. فقد اختار الاصطفاف ‘ حلف وارسو‘ .. وإرهاصات التحرر والاستقلال لقد استطاع هذا التيار الوصول الى السلطة في عدة دول عربية، بطرق غير ديمقراطية".
والسؤال الذي يطرحه هذا الاقتباس من مقال الدكتور الذي كان وزيرا ، ثم سفيرا في الخارجية الموريتانية، هو: هل سمع عن كتلة عدم الانحياز التي لم تكن تابعة لحلف وارسو، ولا للاتحاد السوفييتي، وكان من قادتها المؤسسين عبد الناصر، وهو زعيم حركة القومية العربية للتحرر من الاستعمار، ومن أجل الاستقلال الوطني، وعلاقته بالاتحاد السوفييتي، كانت علاقة خارجة عن مفهوم التبعية لحلف وارسو..؟
ومن جهة اخرى، ربما يهم القراء ما غفل عن ذكره الدكتور، فيما يتعلق بالانظمة السابقة على الانظمة الثورية العربية، فهل الملكيات العربية قامت على أسس دستورية، أو جاءت بانظمة ديمقراطية في تسييرها،،؟ وتاريخها يؤكد أنها لم تصل الى الحكم بالطرق الديموقراطية حسب الأصول الليبرالية التي تشكل مرجعية للدكتور في تحديده..
ثم إن "التاريخ ابو المعرفة" على رأي " هيجل"، ولعل السر في ذلك، هو تنجب الاحكام على أحداثه من غير الاطلاع عليها، وكيف جرت؟ وما اسبابها؟ ونتائجها التي قد تكون كارثية على المجتمعات، كحكم الانظمة الملكية في الوطن العربي التي حكمت قبل ثورات التحرير العربية، ولا زالت قائمة مشكلة قواعد أمامية، كأنظمة" أمراء الطوائف" الاندلسية في تفريطها للاوطان، والحقوق العربية.
فهلا علم الدكتور بأن تلك الانظمة الملكية، هي التي شاركت في احتلال فلسطين، سواء منها النظام الملكي السعودي، أم الملكي المصري، أم الاردني؟
وهي التي انطلقت منها الحروب الامبريالية ضد الثورات العربية، كما حصل في اليمن أمس، واليوم بالنسبة للسعودية عند قيام الثورة اليمنية في العام 1962م. وكذلك مناهضة الملكيات للوحدة العربية بين مصر وسورية في العام 1958م.
وهي ذات الانظمة الملكية والاميرية في الخليج التابعة لأمريكا التي استدرجت القيادة العراقية للحرب طيلة ثمان سنوات على إيران، وذلك بقصد التخلص من كلا النظامين..واخيرا هوجم العراق من الكويت المتأمركة، والسعودية، وقطر، والبحرين، والامارات.
وهل يعتبر تنبيه الدكتور ذا قيمة على أن الفكر السياسي العربي، فكرا سياسيا تحرريا في مبادئه ( الحرية: حرية الوطن من الاستعمار، وحرية المواطن بتقسيم العمل ـ المخالف للطرح السابق في الفكر الغربي في شقيه الليبرالي والسياري ـ وذلك لتحقيق العدالة الاجتماعية وفق الاشتراكية العربية، والوحدة بين الاقطار العربية عبر التوافق بين الانظمة الوطنية)، وبالتالي لم يكن فكرا سياسيا وجوديا "عدميا"، كالتيارات في الفكر الغربي، كالوجودية بعد انفصالها عن الماركسية، رغم مناهضة جان بول سارتر للاستعمار، لذلك فوصف الأيديولوجيا ب"العمياء"، لم يتوقع من مثقف أكاديمي عربي، أو من العالم الثالث، لأن الفكر السياسي التحرري سواء العربي منه ـ أم في فكر مفكري امريكا اللاتينية، ك " فرانز فانون" في كتابه "معذبو الأرض" ـ ألهم ابناء الامة العربية منذ أواخر القرن التاسع عشر، وعيا تحرريا مناهضا للمستعمر، وبواعثه البحث الذات الوطنية في مقابل الاستلاب الثقافي،، وتحرير الاقطار العربية في مقابل الاحتلال والتجزئة،، وإقامة المشروع النهضوي العربي الذي شكل وعيا سياسيا لمعظم النخب المثقفة في مختلف أقطار الوطن العربي، وذلك في سبيل التخلص من مظاهر التخلف الاجتماعي، والثقافي، والاقتصادي، وتداعياتها، كالتدجين السياسي لأنظمة التبعية..
ولعلي أهيب بالدكتور، أن يتبني هذا التوصيف، لا المناهض لطموحات الشعوب في التحرر من الهيمنة الامبريالية الراهنة التي تحاول بدعايتها اخفاء نهبها لخيرات المجتمعات الفقيرة تحت ما سمي ب"العولمة المتوحشة"، وتصدير الديمقراطية في مؤسسات صورية، أدت الى تفريخ الاحزاب القبلية، والجهوية، لشرعنة الرؤساء " الوكلاء"في ظل التبعية للمستعمر،، وكل من خرج على الطاعة الاستعمارية، يعلن الغرب الحرب عليه تحت أي ذريعة، وذلك للتفرد بنهب ثروات الشعوب الفقيرة،، وكمثال على النهب خارج القانون، ما قامت، وتقوم فرنسا به من سرقة للذهب الافريقي، ومن نتائجه المدمرة، افقار شعوب قارتنا السمراء المتواصل منذ القرن التاسع عشر،، وهذا النهب للذهب الافريقي جعل فرنسا في مصاف الدول ذات الرصيد العالمي، وهي لا تملك أي منجم على اراضيها، ولا تستورد الذهب من أي دولة عدا تاجر الشنطة الذي كان يتنقل اسبوعيا من مدينة " أطار" الى "مرسيليا" لبيع الذهب الموريتاني على عهد معاوية ولد سيدي احمد الطايع.