إنهما سؤالان مفتوحان، وحبذا لو استدعيا من الباحثين مراجعة مقومات الإحياء الحضاري في بعديه الثقافي، والسياسي اللذين، يؤشران بطريقة ما، على تموقع مجتمعنا في تلك الطريق الطويل، والشاق ـ عبر المسافات المتباعدة بين المجتمعات في الثلث الأول من الألفية الثالثة ـ نحو "اليقظة" التي تستحث المجتمعات المتطلعة إلى النهوض،، فبعض مجتمعاتنا العربية، والافريقية، تستهدي بمنارات التحديث، وبعضها الآخر يمشي خلفها ببطء، كما لو أنه يتوكؤ على عكاز، بينما هناك من المجتمعات التي تمشي على بطنها ممددة، كما الذي على فراشه في غرفة الانعاش،، والله المنجي.
وأين مجتمعنا من هذه العينات العديدة التي يجترح كل منها استجابته لمطالب النظم في النمو، ويلبي حاجات الفرد في حياة كريمة: بضروراتها، وكمالياتها التي تهيئ الوعي العام للحداثة المعاصرة؟
ففي بداية حركة الاحياء الأوروبية على سبيل المثال، ظهرت النزعة الانسانية المعبرة عن الاهتمام بالعلوم النظرية في مجالاتها، وما يتعلق بالمجتمعات في تاريخها، وثقافتها، وتراثها، وقيمها الدينية، وغير ذلك من المباحث التي تحث الإنسان على تحديد هويته، إضافة الى تنمية مهاراته الذهنية، والعملية، بما فيها اكتساب الثقة بالنفس وتحمل المسئوليات الفردية، والأجتماعية،،،
وهذا الذي أشرنا إليه من الظواهر الاعلاه، وهو عن القواسم المشتركة في المجتمعات الحالية، ومنها مجتمعنا لله الحمد، غير أنها مؤشرات لم تؤسس معا على قواعد ركينة في كل المجتمعات، بل بعضها لا زال مركونا في أوساط المجتمعات ذات النظم التقليدية، ومن هنا، لم تحدث ـ الظواهر الحداثية ـ مفعولها في التغيير الأجتماعي للتخلص من النظم المتخلفة، ولا زال الحراك الوطني، يراهن عليه في تفعيل الوعي السياسي لدى فئات المجتمع، الأكثر استجابة للمطالب العامة، حتى توظف المفاعيل المعنوية والاجتماعية في تحريك عجلة التاريخ الى الأمام بدلا من هذا التباطؤ المعبر عن عدم الوعي بالمقومات الدافعة للحركة الاحيائية التي تستجيب لمطالب المجتمع، والأمة..
لذلك نسأل ما الذي تحقق في مجتمعنا خلال ستين سنة الماضية ، وهذه الحقبة، هي تاريخ نظام الحكم السياسي منذ نشأته التي يرى الكثير من الباحثين، أن المجتمع لا زال متوقفا على عتبة ذلك "الأساس" المتهدم، وغير القابل للبناء عليه، أي نظام مركب من التراث، و معطيات الحداثة، وتفعيل الأخيرة لمسارات التقدم لأنظمة المجتمع عموما، الأمر الذي يبرر الدعوة الملحة لإعادة تأسيس نظام الحكم السياسي على أسس نقيضة، لما هو قائم عليها، كاستئناسه بنظم المجتمع التقليدية، وتبني الأخيرة له، فافتقد بذلك دوره في التحديث على مستوى بنيته، وأدائه، كما على مستوى تحديث نظم المجتمع، بل العكس من ذلك من جهة استغراقه في " التكيف" مع التخلف المستدام، فصارت كل الظواهر من منتوجات عصور الانحطاط السابقة،، وبالنتيجة، كان التحرك الى الخلف، وليس إلى الأمام..تماما مثلما، كانت عليه المجتمعات الأوروبية في عصر حركة الإحياء التي عانت من العراقيل، والمطبات التي اعترضت التحديث الجارف رغم ذلك، وإن كان تحرك عجلة الاحياء بطيء للغاية، ولم تتسع مجالات" اليقظة" الأوروبية في كل مناحي الحياة الاجتماعية، والعلمية إلا بعد ثلاثة قرون من 1492 الى منتصف القرن السابع عشر،،
وكان التفاوت هائلا في حينها، بين فئات المجتمعات الغربية، نظرا للتخلف الاجتماعي، والتعصب الديني الذي لا يقارن بما في مبادئ ديننا الاسلامي من الاحكام المشرعنة للاجتهاد، وهو الاجتهاد المعبرعن الرؤية الوسطية، و تجاوبها مع مطالب المجتمع في دنياه، وأخراه،، ورغم ذلك يلاحظ التساوق في نسبة التخلف العقلي الذي ليس له علاقة بالشرع، بل بالعقل المتحجر، وافتقاده للرؤية التحديثية في الاصلاحين الديني، والتربوي معا، والعجز المتماثل في اتخاذ المواقف التي لم تقنع الرأي العام في الداخل، والخارج، لتهميش العنصر النسائي، كما في مجتمعنا، و المجتمعات التي همشت دور المرأة خلال النهضة الاوروبية، وهي من المواقف الشائهة التي تحتل الدرجة الثانية بعد تجارة الرقيق العابرة للقارات حينها، ومحاولة التكفير عن ذلك باسقاط أوجه الشبه على الوضع الاجتماعي للشرائح الاجتماعية في مجتمعنا،، ولعل من سقوط الوعي السياسي عندنا، ذلك التسويق الأناني، والاستثمار المتخلف عقليا، وأخلاقيا لمخلفات" الإرث الإنساني" ،،!
ولعل من أهم مطالب النهضة المرغوبة في حركة الإحياء التنويري عندنا، هوالتسريع بالتطورات الثقافية، والاجتماعية التي، ستأتي رغما عن الجميع، ولكنها تحتاج الى توجيهها، والتكيف معها، الأمر الذي يحتاج منا الى الوعي بضرورة تبني تلك الاتجهات، وتهيئة الظروف ثقافيا، واجتماعيا، وذلك في سبيل الوعي بالدور الذي ينتظر كل مواطن، كما كل أنظمة مجتمعنا، وهذا يلقي أولا بالمسؤولية على الاحزاب السياسية التي عليها أن تتحول الى "نوادي" سياسية، كالتي تمكنت من بلورة، اتجاهات المجتمع الفرنسي في السنوات الأولى للثورة 1791م، إذ كانت السند للجمعية الوطنية " البرلمان" في تمرير المشروع السياسي التحديثي، لا أن تبقى احزابا قبلية، وجهوية، وتستثمر فيها الشخصيات، والرموز التقليدية،،
ولعل السؤال العام الذي نختم به هذا المقال، هو: إلى ماذا يهدف الحوار السياسي الذي يدعو اليه النظام؟، وهل هو من أجل حل الأزمة السياسية في التسيير الاداري، والاصلاح المالي، والاقتصادي، والتربوي،، أو لحل أزمة نظام الحكم في بنيته، كأن يتجاوز نظرية الحكم بالتقعيد الفرنسي منذ قيادة فرنسا للانقلاب الذي جاء بمعاوية للحكم العسكري ـ السياسي، وهو لايختلف عما شرعنته فرنسا الأمبريالية للحكم الطائفي في لبنان؟
وهذا الاشكال، وابعاده النظرية لم تكن واضحة في مقال "صالح ولد حنن "، ويؤسفني عدم استفادته مما كتبه ـ ويكتبه ـ الباحثون في المواقع الافتراضية، وغيرها حول الحوار السياسي منذ أن أعلن رئيس الحزب الحاكم عنه،، فقد كتبت ثلاثة مقالات منذ فترة، تطرقت فيها للأسس، والأهداف التي يمكن أن تكون إطارا نظريا، وذلك من أجل استفادة جميع القوى السياسية منها، كما أشرت الى نظرية تؤطر للحوار في سبيل انجاحه،،
ولكن ألا يؤشر هذا النموذج على غياب الوعي السياسي العام لدى قادة الأحزاب القبلية، والجهوية، والشرائحية، والإثنية، ويفضح أكثر من اللازم تلك القيادات من جهة اهتمامها بمصالحها الفردية، والتقرب من نظام الحكم، والانتفاع منه بدلا من توجيه قادته للصالح العام للمجتمع،، وهذا إن دل على شيء، فإنه يدل على تشيؤ الوعي المصاحب لمظاهر التخلف السياسي، ولن يكون ـ بأي حال من الاحوال ـ أداة للتغيير، والنهوض الحضاري ـ والله المستعان ـ ؟!
د/ إشيب ولد أباتي