كيف سمعت عن  اسم عبد الناصر،، أثناء النحيب عليه يوم وفاته.! د.إشيب ولد أباتي

خميس, 2021-09-30 14:25

لم استطع أن  اكتب عن عبد الناصر في الذكرى الواحدة والخمسين لوفاته، تحليلا أعمق لفكره، ولا مراجعة  اشمل لمراحل التجربة الناصرية، أحسن مما كتبه كل من الدكتور صبحي غندور، والكاتب رشاد أبو شاور في موقع " " رأي اليوم"،،

لذلك سأذكر شيئا آخر جدير بالوقوف عنده، يتعلق بي، وعن الحزن على وفاة عبد الناصر، والتأثر الذي شاهدته، إذ أنها المرة الأولى التي أرى فيها والدي رحمه الله تعالى متأثرا لدرجة البكاء، وهو التأثر الذي يمكن أن يعمم على أبناء الوطن العربي يومئذ من المحيط الى الخليج، و باعتباري واحدا من  ولاية " لعصابة"، حيث كان معظم الساكنة  يتنقلون في البادية من موقع لآخر، حسب فصول السنة، ولعل وسائل الإعلام في السبعينات  محدودة، ومقصورة على الاذاعة الوطنية، و القسم العربي لإذاعة لندن، ومع ذلك، كان الشارع العربي، يتفاعل مع  الثورة في مصر، ويحدد مواقفه بقدر ما يسمع من الاعلام عن مواقف عبد الناصر، كما عرفت ذلك فيما بعد في دراستي للفكر القومي العربي،،

 وإن من المفارقات أن يكون القسم العربي في إذاعة لندن الذي كان مجندا لتغيير اتجاهات العرب من الاحداث التي تجري في المنطقة، هو ذاته الوسيلة الإعلامية الأكثر انتشارا، وأكثر المتابعين للاحداث العربية والدولية  بواسطته، ومع ذلك، فإن التفاعل مع خطب عبد الناصر، كان يعطي نتيجة عكسية، لما كان متوقعا حسب خبراء الاعلام  الغربي حينئذ،، وهذا الذي توصلت إليه الدراسات التي اطلعنا عليها في تسعينيات القرن الماضي في مجال الاعلام، ونتائج البحوث في علم النفس الاجتماعي التي اجمعت على أن صوت العرب من القاهرة، كان يحدث صدمة للقادة العسكريين الفرنسيين في أقطار المغرب العربي، المدعو " المكلاوي" باشا مراكش، قد حرم من النوم عندما سمع التعريض به  من إذاعة  صوت العرب من القاهرة ،،

والسؤال الذي اطرحه على نفسي، هل للحادثة التالية دور في توجيه وعيي السياسي، بعد أكثر من عقد من الزمن من سماعي لاسم "جمال عبد الناصر" رحمه الله يوم وفاته،؟

لقد سافرت مع والدي رحمه الله تعالى  من " انواملين" وهو وادي نخيل، الى مدينة " كيفة"، وكنا نتنقل على " جمل"، وعليه " راحلة"، وخلفها كنت راكبا خلف والدي على" كفل" الجمل ، وأثناء سفرتنا استظهرت احزابا من القرآن الكريم، ولما وصلنا اطراف مدينة " كيفه"، قبل المساء، أخذني العياء، فقال الوالد رحمه الله تعالى، ارتح من القراءة، وبعد وقت قصير، كان الجمل اوصلنا الى  منزل " الصح، ولد سيدي جعفر"، الواقع في  حي " كوميز" ـ كما سأعرف ذلك بعد سنوات، حين استقر اهلي في مدينة كرو ـ  ولما حط الجمل ركبتيه الأماميتين الى الأرض، بادرت " بنت الشرفة"  رحمها الله تعالى، قائلة للوالد، وهي تبكي: "يا ساليم، ما { هل } سمعت بوفاة عبد الناصر؟"، فبدأ يترحم عليه، وجلسنا معا، وكانا يبكيان بكاء صامتا، وبعد قليل، لحق بهم  " الصح" رحمه الله تعالى، وكان قادما من السوق، كما ظهر من كلامه، وبعد السلام على الوالد، قال موجها حديثه لزوجته، " كل محلات السوق مغلقة، إنها كارثة، لكن نحن مسلمون، وعلينا أن نقبل بقضاء الله وقدره".

وهنا نتوقف عند شلل حركة الاسواق، والتداعيات النفسية لدى هؤلاء، ك" عينة" لتسجيل هذا التأثر بوفاة عبد الناصر، ألا  يعطي حقيقة واضحة، ولعلها لا تقبل التشكيك فيها، وهي أن عبد الناصر كان قائد أمة بغض النظر عن الاختلافات السياسية التالية  التي تعاظمت في الحقبتين: الساداتية، والبترولية، ونظرا لهذه الاستجابة  الصادقة التي لا ترجع للتأثير الاعلامي،  ودعايته، ولا الى الوعي بالمصالح الضيقة للأفراد، لمن يبكي صادقا؟ ومن يغلق محله التجاري في جنوب موريتانيا، وليس هناك سلطة امنية، تحمله على قطع رزقه، وانما  قام بذلك، ليعبر عن حزنه على القيادة السياسية في مصر التي جسدت آمال أمة العرب لحظتئذ،،؟

 كان البعض في بلادنا يردد على مسامعنا،  الكثير من المرويات التي نقلها الحجاج سابقا عن مصر، وعن تباين السلوك بين الافراد فيها، وهي حكايات لا تستدعي التعلق بمصر، واهلها، لكن أن يتحول الوعي الثقافي العام في لحظة الى تلك " الصدمة" في الوعي بقضية الأمة، مجسدة في قيادة غيبها الموت، فهذه حكاية تحتاج الى حديث أطول، وتحليل لدور الوحدة الثقافة في تشكيل الوعي لدى الافراد، والجماعات  في الأمة العربية،، !

أما أن يتحول الوعي الوجداني الى اتجاه سياسي موحد لمشاعر الامة، ويوحدها في انتصاراتها، وفي هزائمها، وفي نعيها لقائدها من المحيط الى الخليج،، فهذا هو المميز الذي يتفرد به الوعي القومي الذي يستحق أن يدعم به العمل السياسي لخلق حراك سياسي في اقطار الوطن العربي، ليلتقطه القوميون بمفاعيل هذا التأثير، مدخلا  ـ ربما ـ للبحث عن المشروع التحرري لأمتنا التي عرفت نكبات عديدة منذ خمسة قرون على الأقل، لكن دون ان تنسيها،  شخصيتها الغائبة التي تبحث عنها  عبر الحقب، وخلال تناسل الاجيال لبعضها البعض، وكل ما ظهر قائد عربي، فيواجه اعداء الامة، الا وتستشرف به المستقبل  في صدقه، وإخلاصه لقضاياها الكبرى، سواء أكان في مصر، أم في العراق، أم في اليمن، أم  في لبنان..