لامست عجلات الطائرة أرضيةَ كابل. كانت الفكرة التي راودتني هي أن الناس يهربون ونحن ندخل
مطار كابل وقد اكتظ بالأفغان الذين ينشدون مغادرة البلاد بعيد سيطرة حركة طالبان على العاصمة كابل (DPA)
اقتضت الاحتياطات الأمنية أن لا نخرج خروجاً طبيعياً من المطار، فقد كان منطقة عسكرية تخضع لأقصى درجات الحيطة والحذر العسكرييْن. نظرتُ من الطائرة فلاحت أنوار كابل تتلألأ على الجبال المحيطة بالمدينة فقال أحد زملائي: الكهرباءُ تعمل هنا رغم الحروب.. وفي بلدي لا نراها إلا نادراً رغم السلم.
خطونا الخطوات الأولى على أديم كابل. ترجلنا على الأرضية فداعبتْنا أنسام جو جميل لا يشبه لفح الدوحة التي خلفنا وراءنا. كان الجو رغم المناخ الجميل يرتجف توتراً. آلاف الجنود الأمريكيين، وغيرهم، يشهرون أسلحتهم، وآلاف الأفغان يزحفون في طوابير طويلة، رجالاً ونساء وأطفالاً يتشبث بعضهم ببعض في طوابير حلزونية حيرى.
أول ملاحظة صدمتني هي أن كابل لا تعرف ترَفَ الكمامات، كأن الكمامة ترفٌ مدخرٌ لطيّب البال خليّ القلب، أما من يعيش تحت أزيز الطائرات وهدير البارود فمستثنىً من ترف الاحتياطات الكوفيدية.
كان الجو رمادياً عسكرياً. تلتفت فيه فلا ترى إلا جندياً لا يكاد يبدو أي شيء من جسده. بزة عسكرية خشنة، وأسلحةٌ كثيرة متعلقة بأطراف جسمه لا تشكل البندقية إلا واحدة منها. سرنا تحت عيونهم بترقب. كأن كل خطوة نخطوها تشكل خطراً على شخص ما لشدة الاحتياطات الأمنية. كأن كل قدم تقع على الأرض حدث يستفز شخصاً ما. عادت بي الذاكرة أربع سنوات إلى الوراء يوم نزلتُ هنا وتقدمت مع مئات الركاب العاديين جهة موظف الجوازات. لا شيء من كل ذلك الآن. كان مطار كابل يرتعد أمناً هذه المرة.
تقدمنا بين جدران المطار السميكة متجهين إلى بوابة الخروج. ما إن اقتربنا منها حتى نهرنا جندي أمريكي: إلى أين؟ مستغرباً كيف يكون آلاف الناس متكدسين أمام البوابات حالمين بالدخول ونحن نخرج طائعين. أجبناه: نريد أن نخرج.. نحن صحفيون.
قال أحد الجنود لأحد الزملاء: كنت أظن الجنون مقتصراً على العسكريين، أما الآن فأعترف أن الصحفيين أكثر جنوناً.
شعرت بالضيق لكلام الجندي لأنه أيقظ أبياتَ العباس بن الأحنف (ت 198 هـ) من تلافيف ذاكرتي عن زيارة خراسان (أفغانستان جزء منها). كأن الجندي يرى أن عينَ الزمان، كذلك، قد أصابتْ من ينزل في مطار كابل والناس عنه راحلون.
قالوا خراسانُ أدنى ما يراد بكمْ ... ثم القفول، فها جئنا خراسانا
ما أقدر الله أن يدني على شحط ... سكانَ دجلةَ من سكان سيحانا
عينُ الزمان أصابتنا، فلا نظرتْ، ... وعذبتْ بفنون الهجر ألوانا
وصلنا البوابة الخارجية. رأيت جندياً أمريكياً مكتنزَ الجسم قصيراً ينوء كاهله بأسلحته يقف ممسكاً دفتراً رمادياً متوسطاً. كان ينظر إلى الدفتر ويحرك شفتيه. فكرت ما الذي يفعل. هل يقرأ نصوصاً في هذه الظروف يتسلى بها؟ وبعد دقائق دخل فوج من المدنيين فرأيته يمد يده ليحصيهم ويخط في الدفتر. كان يكتب أعداد الداخلين فحسب. يتأكد من أعداد الداخلين إلى المطار، يحصيهم واحداً واحداً. كان كل إنسان يتجاوز هذا الجندي داخلاً للمطار يشعر بالولادة من جديد.. بالنجاة من مدينة تعيش يومها الثالث دون حكومة، وتدخل عقدها الخامس تحت الرصاص. يشعر العابر بنشوة الهارب من طابور قد يكون أخذ من عمره أياماً وسط أكوام البشر. لكن هذا العابر كان عند ذلك الجندي رقماً ينضاف لأرقام يرقمها في دفتره الرمادي.
تجاوزنا الجندي فقال: احذروا... فالوضع في الخارج مرعب!
خطونا خطواتٍ فلاحتْ الصورة الكاملة. آلاف الناس يتدافعون جهة البوابة التي نريد الخروج منها. آلاف الأرواح المرهقة والعيون المتوسلة والأيدي الممتدة بحثاً عن طوق نجاة. شباب عاطلون فتحت لهم فرصة لا تتكرر للهروب، ومتعاونون مع القوات الغربية غادر أسيادهم فجاءة وتركوهم أيتاماً. شبراً.. شبراً خرجنا. دفعاً بين الأكوام البشرية المتعبة، وروائح مكانٍ تكدس فيه الآلاف أياماً دون تنظيف. التفت أحد الزملاء وقال: هذا يذكرني بمزدلفة!
بدت الصورة الأخرى معبرة عن طالبان الجديدة. مسلحون من حركة طالبان واقفون أمام البوابة يساعدون في دخول وضبط الناس وتنظيم دخولهم للمطار مع الجنود الأمريكيين. من كان يتخيل الصورة؟! جندي طالباني واضعاً يده على الزناد، وجندي أمريكي بقربه لا يطلق النار عليه، كانا يتحدثان وينسقان.هل هذه هي أفغانستان الجديدة؟ خطر لي أن الأمر ليس مستحيلاً، فكل حركات التحرر من الجزائر إلى زمبابوي تصافح فيها الغازي والمغزو طويلاً بعد رحيل المستعمر، فالحرب بين الاثنين إنما قامت لإخراج الغازي فحسب.
كان الطالبانيون شباباً من الناس، أفغاناً عاديون يلبسون كما يلبس الأفغان، لا تميزهم إلا بالرشاش. أما الملابس واللحية فمنظر أفغاني أصيل. وكان يمكن تمييز سلوكهم عن سلوك الجنود الأمريكيين في طريقة السيطرة على الجموع. فالجندي الأمريكي يصرخ ويحذر ويدفع بيديه. أما الطالباني فيدفع بأعقاب البندقية ويرفعها مهدداً كأنها عصا. لكنه أيضاً يضحك ويمزح ويتحدث لغة الناس، أما الأمريكي فمكفهر متترّسٌ خلف بندقيته وخوفه وجهله بطبيعة من أمامه.
سبحنا سباحةً وسط الجموع حتى خرجنا بصعوبة لم نصدقها. وما كدنا نسلّ أجسادنا من الجموع حتى بزغ الفجر مع أنّا وصلنا إلى المطار نحو الثامنة مساء بتوقيت كابل. دخلنا كابل وعباءةُ الليل تنحسر عنها انحساراً... كانحسار النظام المدعوم أمريكياً عشرين عاماً. التفتُ يمنة ويسرة فرأيت شبان طالبان عند نقاط التفتيش. هذه كابل غير التي كنت فيها قبل أربع سنوات. توغلت السيارة في الشوارع وأنا أفكر في نهايات هذه المرحلة الجديدة من تاريخ أفغانستان المعاصر.. وهي مرحلة ستكون، بلا ريب، حبلى بمفاجآت الأيام.
أحمد فال الدين - إعلامي وكاتب وروائي موريتاني