الوعي السياسي في المواقع الافتراضية الموريتانية /  إشيب ولد أباتي

ثلاثاء, 2021-08-24 11:26

يكاد معظم الباحثين العرب في مجال علم الاجتماع السياسي، أن يصلوا الى صياغة فرضيات، تتعلق بالتباين في المنطلقات الفكرية، والاساليب المنهجية،  بين النظم السياسية الحالية في بلادنا، وغيرها في الاقطار العربية التي تواضعت، تعودت، تمالأت  إلى حد " التكيف" مع الأنظمة الاجتماعية بتخلفها، وتركيبتها القبلية، والاثنية، وانضاف إليها صراع النخب السياسية من اجل مصالحها على حساب الانظمة السياسية، كما على حساب  وحدة المجتمعات من جهة اخرى،،

 وبين النظم السياسية التي أسست مشاريع للنهضة العربية الأولى منذ قيام الدولة الأموية (662 م)، حتى سقوط غرناطة في العام 1458م

ولو أخذنا مثالا للمقارنة بين قيام حكم المرابطين في أربعينيات القرن الخامس الهجري من حيث سرعة التجاوب مع حركة الاصلاح و التغيير، وقد وحدت مجتمعا متعدد الاعراق، فكان فيه العرب، ومنهم القادمون من القيروان، والبربر، والافارقة ـ حسب الوثائق التاريخية التي تحدثت عن مجتمع  مدينة " أودغست" على ما أورده أبو عبيد البكري في" المغرب في ذكر بلاد افريقية والمغرب من كتابه: المسالك والممالك، ص 68" ـ  وخلال اثنتي عشرة سنة، انتظم ذلك المجتمع  الواقع ضمن  مساحة من وادي " تاجير" كمدخل للصحراء شمالا الى نهر صنهاجة في جنوب البلاد، وبعد تبنى حكم المرابطين الذي انشأ  قادته عاصمة لحكمهم  اسموها " ارتنيني"، ومن ثم اتجهوا  نحو المغرب، لإسقاط الأنظمة الفاسدة، وذلك استجابة لدعوة الحركة العلمية من فقهاء مدينة درعة.

 واثناء تلك المعارك في" درعة"، فقامت قبيلة " جدالة " ـ وهي من الساكنة المحاذية لشواطئ الأطلس من بلاد صحراء الملثمين ـ بالعدوان على مراكز حكم  المرابطين في " جبل لمتونة" ، وكان هذا الاخير، يمثل الحاضنة الاجتماعية التي استقبلت  دعوة المرابطين، وما كان من  قادة " تكرور" الا أن هبوا لنجدة  المرابطين، وهزمت " جدالة " من طرف ذلك التحالف الناشئ، ومن حينها خضع كل سكان المنطقة لحكم المرابطين.

وهذه السردية التاريخية، إنما تقدم معلومات في غاية الاهمية، وأهمها  اظهارمنهج المرابطين في الدعوة السلمية  لحكمهم، الأمر الذي دفع فئات المجتمع الى الاقتناع بقيمة ذلك الحكم السياسي الجديد، وكان عدم اخضاع قبيلة "جدالة"، يمكن اعتباره مثالا على ذلك، ولو افترضنا وجود معارض لهذه المعلومة التاريخية عن منهج المرابطين، لكان الأولى بصاحب الاعتراض، أن يجيب على السؤال من تلقاء نفسه عن مبررات عدم اخضاع المرابطين، ل"جدالة" بالقوة ما داموا من وحدات  المجتمع العام،  قبل أن  يتوجهوا الى  مدينة درعة للمساعدة  في اسقاط نظامها السياسي، كما يستفاد من السردية، كذلك تأثير التحالفات التي كانت قائمة بين امراء لمتونة  قبل حكم المرابطين، وذلك فيما ذكره "ابن حوقل" في كتابه " صورة الأرض" الذي سجل فيه رحلته لمدائن المغرب العربي في القرن الرابع الهجري،  حيث  أشاد بملك لمتونة  " تين يروتان  ابن ويسنو  ابن نزار"، وكان يجبي الجزية من أكثر من عشرين ملكا، وقد ارسل  مرة جنوده، لأحد حلفائه في حرب مع خصم له، ليغلبوا عليه "البكري، المسالك، ص 161".

 ولعل تلك العلاقات السابقة التي كانت قائمة خلال القرن الرابع الهجري، أسست لحكم مركزي راعى موازين القوة، وتوجيه الصراع في المنطقة، كما يستفاد من السردية السابقة، أن حكم المرابطين، استقطب  بعض الاثنيات  في المنطقة، إلا من كان منها، قد أعلن الحرب ضد حكم المرابطين، مثل ملك "غانة" في مرحلة لاحقة في بداية سبعينيات القرن الخامس، أي بعد  دحر اعتداء قبيلة " جدالة" التي تحالف ضدها، من كان في تحالف مع  المجتمعات المستقبلة لدعوة المرابطين في جبل لمتونة.

 والخلاصة التي يمكن فيها تقييم الوقائع التاريخية، والحالة الراهنة معا، وهي أن التغيير الاجتماعي على عهد حكم المرابطين، كان سريعا من جهة الاقتناع بالدعوة، وإقامة الحكم السياسي، وتعزيز وحدة المجتمع، وكسب الحلفاء، ومن ثم تصدير المشروع السياسي الاصلاحي، وهل يمكن ـ انصافا ـ أن يقاس بتلك النتائج  الموجودة في الوثائق التاريخية، وعلى عكسها يلاحظ هذا التباطؤ، إن لم اقصد التلكؤ ـ الحاصل في التوافق على آلية  مشتركة للحكم من اجل الحفاظ على وحدة المجتمع الموريتاني،  والعجز الحاصل عن ايجاد مشروع للدولة الحديثة، كنظام حكم في القرن الواحد والعشرين على الرغم من قيامه في بلادنا منذ واحد، وستين سنة، ولكن لا زالت الصراعات الإثنية، والتفكك القبلي، وتطاول الاعناق الزرافية للرؤوس الحامية من الشرائح، والفئات الاجتماعية، ورؤساء القبائل واحزابها، ووكلاء الاجنبي في رموز الدولة العميقة، وهذه "الجوارح" المهددة للوجود الاجتماعي بوعها الزائف، تتناسل بمعدلات موسمية تباعا، إذ كانت من قبل، تناوشا عرقيا، ولما لم يوجد له حل، أخذ اشكالا اخرى كا نقلابات، ومماحكة الصراعات البينية بين موريتانيا والسينغال،  ثم تلا التناوش السابق، البحث عن الذات، وذلك تعبيرا عن الاحساس بالخوف من عوامل التحدي، فظهرت الدعوة القبلية من اجل المحفاظة على المكتسبات للرؤوس المنتفعة من النظام السياسي منذ قيامه، وكان رمزها في الحكم المقبول، هو قيادة النظام التي خصهم بالمودة، والقربى في الستينات، والسبعينات  من القرن الماضي، وأخيرا ظهرت الشرائحية الملونة، والفئوية، ودعاة "الفدرة"، والحكم الذاتي للشمال، وهذه المتغيرات لايمكن النظر اليها، الا ، كمؤشرات مزعزعة للأستقرار للأسف، وإن دلت على شيىء، فإنما يدل على البون الشاسع بين القبول العام للنظام السياسي على عهد المرابطين الذي أسس لمشروع النهضة العربية الاولى، حيث كانت  المؤشرات تدعو الى الاطمئنان من جهة  مستوى المعيشة لدى الفرد، والاسرة، والمجتمع، واجتراح أنظمة  أخرى شكلت ضمانة لوحدة المجتمع، وهو ما سنعرض له لاحقا في كتابة تالية.

 وحتى ولو كان للفارق الزمني ابعاده في التمييز بين وعي الفرد، والوعي العام للمجتمعات العربية حاليا، وبين الوعي السياسي لدى مجتمعات الامس،  قبل أزيد من خمسمائة سنة، وهو تاريخ سقوط غرناطة المشار اليه سابقا، فإنه ينبغي أن يكون هذا الفارق في صالح النظم السياسية الحالية للتمكين، ولكن العكس، هو الظاهرة التي لم تجد سندا لها في مجتمعاتنا الحالية، سواء أكان ذلك على مستوى وعي الفرد، أم وعي المجتمع  العام!

وهناك وثائق تاريخية  عديدة، توضح الى أي حد، كان قادة الحكم في بلاد العرب متساهلين، فقبلوا بالاعتراض على احكامهم، خلافا لبعض حكامنا الذين يشرعون لمحاسبة معارضيهم ، ويسمونهم  بالصفات الاقصائية، وما هو اقسى، الإرهاب الدولي، بينما كان عبد الله بن ياسين ـ رحمه الله ـ  الذي استند في احكامه الى استنطاق النصوص الشرعية، ومع ذلك فلم ير حرجا في العدول عنها، والمثال التالي، يشير الى تراجعه عن احكامه،  حين وجد معترضا عليه من أهل العلم، وذلك " إن رجلا اختصم اليه مع تاجر غريب عندهم، فقال التاجر في بعض مراجعته  لخصمه حاش لله أن يكون ذلك، فأمر عبد الله بضربه، وقال، لقد قال كلاما فظيعا، وقولا شنيعا، يوجب عليه أشد الأدب، وكان بالحضرة رجل قرواني، فقال لعبد الله، وما تنكر من مقالته، والله عز وجل قد ذكر ذلك في كتابه، فقال حكاية عن النسوة اللاتي قطعن أيديهن في قصة يوسف " قلن حاش لله"، فرفع الضرب عن ذلك الرجل" (البكري، المسالك، ص 170)

(يتبع)