لأنّ التواجد العسكري الأميركي لم يكن وحده كافياً من أجل تحقيق الأهداف الأميركية في "الشرق الأوسط"، فإنّ عناصر سياسية ثلاثة عملت الإدارات الأميركية في هذا القرن الجديد على توفّرها بشكلٍ متلازم مع الوجودين العسكري والأمني:
1- تغيير التركيبة السياسية القائمة في بعض دول المنطقة لتصبح مبنيّةً على مزيج من آليات ديمقراطية وفيدراليات إثنية أو طائفية. فالديمقراطية لو تحقّقت، دون التركيبة الفيدرالية (التي تكون حصيلة تعزيز المشاعر الانقسامية في المجتمع الواحد)، يمكن أن توجِد أنظمة وحكومات تختلف مع الإرادة أو الرؤية الأميركية، كما جرى بين واشنطن ودول حليفة لها في أوروبا.
أيضاً، فإنّ إثارة الانقسامات الإثنية أو الطائفية، دون توافر سياق ديمقراطي ضابط لها في إطار من الصيغة الدستورية الفيدرالية، يمكن أن يجعلها سبب صراعٍ مستمرّ يمنع الاستقرار السياسي والاقتصادي المطلوب لتحقيق المصالح الأميركية، ويجعل القوات الأميركية المتواجدة بالمنطقة عرضةً للخطر الأمني المستمر في ظلّ حروبٍ أهلية، مفتوحة هي أيضاً لتدخّل وتأثير من قوًى دولية وإقليمية تناهض السياسة الأميركية، كما حدث ويحدث في سوريا والعراق.
إضافةً إلى أنّ التركيبة الفيدرالية القائمة على آلياتٍ ديمقراطية ستسمح للولايات المتحدة بعلاقات خاصة مع المتناقضات المحلية، وبالتدخّل الدائم لضبط الاختلافات بينها في داخل كلّ جزءٍ من ناحية، وبين الأجزاء المتّحدة فيدرالياً من ناحية أخرى.
2- التركيز على هويّة "شرق أوسطية" كإطار جامع لبلدان المنطقة كبديل لهُويّتها العربية، إذ أنّ العمل تحت مظلّة "الجامعة العربية" يمكن أن يؤدّي مستقبلاً إلى ما ليس مرغوباً به أميركياً من نشوء تكتّل كبير متجانس ثقافياً ومتكامل اقتصادياً، كما في تجربة الاتحاد الأوروبي، رغم وجود القواعد العسكرية الأميركية في أوروبا، ورغم وجود حلف الأطلسي والانتماء المشترك لحضارة غربية واحدة. لهذا يدخل العامل الإسرائيلي كعنصر مهم في "الشرق الأوسط الجديد أو الكبير" الذي دعت له واشنطن منذ فترة الرئيس جوروج بوش الأب في مطلع عقد التسعينات، ثمّ عملت لتحقيقه إدارة بوش الابن، ثمّ إدارة ترامب، على أسسٍ من المفاهيم "الفيدرالية" الطائفية والإثنية، إذ بحضور هذه المفاهيم، تغيب الهويّتان العربية والإسلامية عن أيِّ تكتّل إقليمي محدود أو شامل، ويكون لإسرائيل دورٌ فاعل بعموم المنطقة.
3- العنصر الثالث المهمّ، في هذه الرؤية الأميركية المستقبلية للشرق الأوسط، يقوم على ضرورة إنهاء الصراع العربي/الإسرائيلي من خلال إعطاء الأولوية لتطبيع العلاقات العربية مع إسرائيل وعلى وقف حالة العداء بين العرب وإسرائيل. ووجدت الولايات المتحدة الأميركية، منذ توقيع المعاهدات مع مصر والأردن و"منظمّة التحرير الفلسطينية"، أنّ تطبيع العلاقات العربية الإسرائيلية سيدفع الأطراف كلّها إلى القبول بحدودٍ دنيا من المطالب والشروط، كما أنّه سيسهّل إنهاء الصراعات حتّى من غير قيام دولة فلسطينية مستقلّة أو تسوياتٍ سياسية شاملة لكلّ الجبهات، وسيساعد على وقف أيّ أعمال مقاومة مسلّحة في المنطقة.
إذن، كخلاصة، فإنّ حروب واشنطن العسكرية في الشرق الأوسط، والتي بدأت في مطلع التسعينات بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، أرادت:
"ديمقراطيات سياسية" في المنطقة، لكن ليس على أساس أوطان موحّدة أو إلى حدّ الاستقلال عن القرار الأميركي.
حروباً أهلية وصراعاتٍ عسكرية محلّية قائمة على انقسامات إثنية أو طائفية، ولكن ليس إلى حدٍّ لا يمكن معه ضبط الصراعات. حروب تستهدف الوصول لصيغٍ دستورية فيدرالية جامعة لما جرى تفكيكه خلال الصراعات في كلّ وطن.
إنهاء الصراع العربي/الإسرائيلي بفرض التطبيع بين إسرائيل وكل العرب، وليس بالاعتماد على معيار الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني، أو الانسحاب الكامل من الأراضي المحتلّة منذ العام 1967.
ترسيخ التواجد العسكري والأمني الأميركي في بلدان المنطقة، ولكن ليس إلى حدّ التورّط بصراعات داخلية استنزافية أو الاضطرار لإبقاء قواتٍ كبيرة العدد إلى أمدٍ مفتوح.
***
ولعلَّ ما حدث في العراق عام 2003، ثمّ في لبنان وفلسطين عام 2006 وما بعد ذلك، ثمّ في السودان وتقسيمه بمطلع العام 2011، ثمّ بالتداعيات الحاصلة الآن في سوريا وليبيا واليمن، ما يكفي من أمثلة عن خلاصات تفسّر الرؤية الأميركية للشرق الأوسط والمواقف الأميركية حالياً من عدّة حكوماتٍ وقضايا عربية.
إضافةً لذلك كلّه، فإنّ الولايات المتحدة كانت مسؤولةً بشكلٍ كبير عن توظيف "حركات دينية" خلال حقبة "الحرب الباردة" مع المعسكر الشيوعي وضدّ تيّار القومية العربية، هذه الحركات التي تحوّلت إلى جماعات عنفٍ وإرهاب، كما حدث مع "المجاهدين الأفغان" الذين كانوا نواة تنظيم "القاعدة"، وهو الذي أفرز لاحقاً تنظيم "داعش". والولايات المتّحدة مسؤولةٌ أيضاً عمّا حدث ويحدث في العراق وفي وسوريا وفي بلدان أخرى بالمنطقة، نتيجة السياسات الأميركية التي اتّبِعت منذ مطلع القرن الحالي، والتي استفادت منها إسرائيل فقط، وهي السياسات التي خطّطت لها جماعات أميركية/صهيونية منذ منتصف تسعينات القرن الماضي بالتنسيق مع قيادات إسرائيلية (راجع:Clean Break)، والتي جرى البدء بتنفيذها عقب أحداث 11 سبتمبر 2001، ثمّ من خلال غزو العراق، ثمّ بدعم الحروب الإسرائيلية على لبنان وفلسطين، ثمّ بالمراهنة على إسقاط أنظمة عن طريق العنف المسلّح وبدعمٍ لجماعات دينية سياسية، وبالمساعدة على إشعال أزمات داخلية، وبتوظيف المشاعر الطائفية والمذهبية في الصراعات مع الخصوم.
***
الوقائع والتجارب كلّها تؤكّد وجود أهداف ومصالح ومؤسّسات أميركية، محصّنة ضدّ تأثيرات ما يحدث في الحياة السياسية الأميركية من تحوّلات وصراعات انتخابية محلّية.
ولم يكن ممكناً طبعاً فصل ملف تاريخ الأزمة الأميركية مع إيران عن ملفّات "الأزمات الأخرى" في المنطقة العربية، وعن حلفاء طهران في سوريا والعراق ولبنان واليمن وفلسطين. فإيران معنيّة بشكلٍ مباشر أو غير مباشر في تداعيات أيّ صراع، حدث أو قد يحدث، فيما هو قائمٌ الآن من أزماتٍ عربية. ومن رحم هذه الأزمات على الأراضي العربية توالدت مخاوف سياسية وأمنية عديدة، أبرزها كان وما يزال من مخاطر الصراعات الطائفية والمذهبية والإثنية، خاصّةً في ظلّ امتداد دور ووجود الجماعات الإرهابية، وما رافق ذلك الصراع مع الإرهاب من عنفٍ مسلّح وصراعات وتنافس على الحكم وعلى المعارضة.
والمحصّلة من ذلك كلّه، فإنّ صُنّاع القرار الأميركي يأملون في تحقيق أهداف السياسة الأميركية في "الشرق الأوسط"، من خلال تفاعلات الصراعات المحلّية والإقليمية الدائرة بالمنطقة، ودون حاجةٍ لتورّطٍ عسكريٍّ أميركي كبير في أيٍّ من بلدانها!.
فالانهيار كان يحدث عربياً (خطوة خطوة) حول أكثر من قضية وفي أكثر من مكان وزمان، ونجحت واشنطن وإسرائيل إلى حدٍ كبير في خطوات "عرْبَنة الصراعات" إضافةً إلى تقييد مصر عن ممارسة دورها العربي الريادي منذ توقيع اتّفاقيات "كمب ديفيد" والتي كان فاتحة عصر المعاهدات والتطبيع مع إسرائيل.
فمع توقيع المعاهدة المصرية/الإسرائيلية في حقبة السبعينات من القرن الماضي، انتقلت العلاقات العربية/الأميركية من دور الخصومة الى دور "الشراكة"، وكانت أبرز الآمال الأميركية من هذا الدور الجديد تشجيع الأطراف العربية على استكمال "الخطوات" التي بدأت بين مصر وإسرائيل، وذلك عبر صيغة مؤتمر مدريد أولًا ثمّ من خلال الاتفاقيات المنفردة كما جرى في أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية وما تلا ذلك من اتّفاق وادي عربة بين الأردن وإسرائيل.
ورغم ما يظهر على السطح أحيانًا من تباين بين إسرائيل وأميركا، فهناك في تقديري غايات كثيرة مشتركة بين الطرفين، وبغضّ النظر عمّن هو الحاكم في إسرائيل أو في أميركا. وهذه المصالح والأهداف المشتركة هي:
1- إبقاء التفوّق العسكري الإسرائيلي على الدول العربية مجتمعة، والضغط على الدول الكبرى لمنع تسليح بعض الدول العربية.
2- فرض العلاقة والتطبيع بين العرب وإسرائيل بغضّ النظر عن مصير قضايا الملف الفلسطيني.
3- السعي لمنع ومحاصرة أي مقاومة مسلّحة للاحتلال الإسرائيلي في فلسطين كما في لبنان أيضاً.
4– التحفّظ على أي تضامن عربي شامل حتّى في حدّه الأدنى، وتشجيع الخلافات الحكومية العربية/العربية التي هي لإسرائيل مصدر قوّة، ولأميركا مبرّرٌ لطلب المساندة منها!.
5- تعطيل التقارب والتفاعل بين العالمين العربي والإسلامي، خاصّةً مع الجوار الإيراني والتركي، وبالمقابل تعزيز الدور الإسرائيلي في دول العالم الإسلامي، وطبعاً بدعمٍ أميركي.
***
وفي ظلّ هذا الواقع للسياسة الأميركية بالمنطقة، هناك مصالح أميركية مستمرّة فيها (الأمن، النفط، التجارة، تصدير السلاح) ممّا يؤكّد بالنسبة لأميركا أهمّية المنطقة استراتيجياً واقتصادياً وأمنياً لسنواتٍ طويلة.
كذلك تدرك واشنطن أنّ سيطرتها الكاملة على المنطقة العربية هو أمرٌ يتنافس مع مصالح دول كبرى أخرى كأوروبا وروسيا والصين، وهذا ما يجعل المنطقة ساحة تنافس دولي، وهو ما يحصل الآن وسيزداد تصاعدًا في المستقبل القريب، إضافةً إلى التنافس مع مصالح قوى إقليمية كبرى كإيران وتركيا.
ولقد سقطت في حقبة التسعينات من القرن الماضي، جملة مفاهيم أو أعذار كانت سبباً أحياناً في سوء العلاقات العربية-الأميركية. ومن هذه المفاهيم - أو الأعذار- الأميركية التي سقطت:
"أنّ أميركا غير عادلة في سياستها بالمنطقة العربية، لأنّ بعض دول المنطقة ترتبط بعلاقات خاصة مع أعداء أميركا الدوليين" (كما كان يقال في حقبة الحرب الباردة مع السوفييت).. وقد سقط هذا المفهوم، ولم تعدّل أميركا من مواقفها تجاه العرب.
"أنّ سياسة أميركا غير عادلة بسبب وجود طروحات اشتراكية وثورية".. إلخ (كما كان في الستّينات من القرن الماضي). وقد انتهت هذه الطروحات، وأصبحت الحكومات العربية منسجمة جداً مع المعايير الاقتصادية الأميركية.. ولم تعدّل أمريكا!!
"أنّ أميركا لا تستطيع العمل الجاد لحلّ الصراع العربي/الإسرائيلي ما لم يتفاوض العرب مع إسرائيل ويعلنوا عن استعدادهم للاعتراف بوجودها من خلال اتّفاقيات صلح وسلام".. وقد حصل ذلك ولم يتغيّر عملياً الموقف الأميركي!.
"أنّ أميركا تريد الاطمئنان أكثر في المجال الأمني بالمنطقة، وتريد معاهدات ثنائية معها".. وحصلت هذه المعاهدات، وأصبح الوجود العسكري الأميركي أمراً واقعاً ومقبولاً من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي مروراً بمصر والأردن وفلسطين.. وما زالت أميركا رغم ذلك "غير مطمئنّة"!؟.
وحينما تولّت الولايات المتحدة قيادة الغرب أولًا بعد الحرب العالمية الثانية ثمّ قيادة العالم كلّه بعد انهيار الاتّحاد السوفييتي، كرّرت خطايا المستعمر الأوروبي في أكثر من مكانٍ وزمان، وهي الآن تدفع الثمن غالياً لهذه الخطايا مما يُهدّد دورها الريادي العالمي، تمامًا كما حصل مع بريطانيا وفرنسا في آخر حروبهما بالمنطقة، خلال حقبتيْ الخمسينات والستّينات من القرن الماضي، والتي كانت فيها مصر- عبد الناصر تقود معارك التحرّر الوطني من المستعمر الأجنبي.
فالقوى الكبرى لم تدرك بعد أنّها رغم تجزئة المنطقة العربية والهيمنة عليها لقرنٍ من الزمن، ورغم وجود دولة إسرائيل الحاجز بين مشرق العرب ومغربهم، ورغم "العلاقات الخاصة" مع بعض الحكومات، حصلت في المنطقة معارك التحرّر الوطني وثورات الاستقلال وحركات المقاومة ومحاولات التوحّد بين بعض الأوطان.
لكن للأسف، فكما أنّ الغرب لم يتعلّم من تجارب (قابلية الاستعمار للانكسار)، فإنّ العرب، في المقابل، لم يتعلّموا أيضاً من (قابلية ظروفهم للاستعمار). فالمنطقة العربية (وأنظمتها تحديداً) لم تستفد من دروس مخاطر فصل حرّية الوطن عن حرّية المواطن. لم تستفد المنطقة أيضاً من دروس التجارب المرّة في المراهنة على الخارج لحلِّ مشاكل عربية داخلية. والأهمُّ في كلّ دروس تجارب العرب الماضية، والتي يتمّ الآن تجاهلها أيضاً، هو درس مخاطر الحروب الأهلية والانقسامات الشعبية على أسسٍ دينية أو إثنية، حيث تكون هذه الانقسامات دعوةً مفتوحة للتدخّل الأجنبي ولعودة الهيمنة الخارجية من جديد.
*مدير "مركز الحوار العربي" في واشنطن
Twitter: @AlhewarCenter
Email: [email protected]
لقراءة مقالات صبحي غندور عن مواضيع مختلفة، الرجاء الدخول الى هذا الموقع:
http://www.alhewar.net/Sobhi%20Ghandour/OtherArabicArticles.htm