في المواقع الاخبارية يلاحظ أن بعض كتابنا ، ومثقفينا
تدفعه رغبة جامحة لإقتناص المفاهيم غير المألوفة ،بل قل المهجورة، وذلك لأكثر من سبب، ولعل منها الاحساس المخادع للنفس ، حيث لازال البعض ـ بعد ستين سنة من التعليم النظامي ـ ، يعتقد أنه في مجتمع، ترتفع نسبة الأمية فيه بطريقة مضطردة، وهذا مخالف لواقع الحال، فقد كثر الكتاب، والمؤخون، والعلماء في مختلف المجالات حتى ضاق بهم الوطن بما رحب، وبالتالي فلا مجال للحديث مع النفس، وأن لاغضاضة في إذاعته على الناس في اطار الدعاية، لعل القوم يتذكرونه بشطحاته الفكرية،، فيحلب ناقة نرجسيته على أساس أنه ليس من ضمن العارفين، فحسب، بل هو الوحيد الفيلسوف الاجتماعي المدرك لتعلات هذا الواقع الاجتماعي بتركيبته الهرمية، وتشكيلاته المتناسقة التي أبدعتها يد خفية ـ على رأي الفلاسفة الملحدين ـ ، واستودعتها في الوحدة الاجتماعية، والا ما كان لهما معا أن تبقيا متماسكتين في وجه، كل ما تلقتاه خلال عصور من الضعف والهوان جراء تراكمات، فرضت قسرا عناصر الاضمحلال، والتلاشي، غير أن الذي حدث، هو عكس ذلك تماما، فتلك التحديات الخارجية، والداخل منها، وقع على معظمها الاضمحلال، والانقراض بعد ليل طويل قضاه المحتلون من الإغريق، والرومان، والبرتغال، والهولنديين، والإسبان، والفرنسيين، وان كان الفرنسيون في بلادنا لازالوا يسبحون ضد التيارات الوطنية، وهم كالغارق المتشبث بالغريق للنجاة أملا في أن يسحبهما من القاع تيارهما الثقافي المشترك، وأن يستطيع جرهما بالكاد الى مظلة "الاستعمار الجديد" المشمسة جراء التآكل ، والصراع الامبريالي المحموم في قارتنا الافريقية، لكن السؤال الذي عليهما أن يفكرا فيه بعد الثورة الرقمية، وتنامي الوعي الوطني والقومي، والخروج المتزايد في المظاهرات المطالبة بالعدالة الاجتماعية في أفق الاستقلال الوطني بمضامينه الفعالة، ومظاهره البراقة، وسياسته العملية، ولهذا سيبقى واقعنا الموريتاني مجرورا في مداره الاستثنائي الخاص برسم السؤال التالي: وهو متى سيبقى هذا الثنائي يصارع عواصف التيارات الوطنية، وهو خارج زمانه، ومكانه ، ومع ذلك يحتال على المطالب الملحة، وهي أعصف من تيارات البيئة المحلية خلال فصول السنة من السنوات العجاف التي تزيد الموريتاني بالوعي الشقي، والعلم التنويري، والخبرة في طلب الحقوق المدنية، والقدرة على التخلص من" زوائد" الوحدة الوطنية قبل ان تؤثر في وعينا السياسي، والثقافي باعتبارها من معيقات التقدم، كالتخلف الاجتماعي، والثقافي، والوعي الاستلابي، وعناصر التبعية للآخر؟
ولعل القلق العام، والشك، والارتياب طال الكثير من "الثوابت" في الوعي والثقافة، لهذا كان من الطبيعي أن تقرأ في وجوه افراد المجتمع، قبل سلوكهم، أن لا مكان لها اليوم الا ضمن "المتغيرات" وفي الدرجة الثانية من الجدوائية..
لذلك ما قيل من شوارد القول، كافتراضات، لاتصل الى مستوى الوصف، بل حدها الأعلى في مجال التفكير الواعي، هو الظن الآثم في اغلب الاحيان، وإن كان للمؤرخين مآرب أخرى، تختلف عن مآرب أصحابنا في المواقع من الكتاب الوطنيين، لكن مجال الاتباعية بقي" قيمة " ثقافية جعلت من الآخر مرشدا فكريا، واكثر من ذلك " متفردا" بالمعرفة لمجتمعنا في ماضيه القريب، و حاضره الذي" يتزأبق" لهؤلاء الكتاب، إلا أنه يتقزح أمامنا بأطيافه المختلفة، وتشكيلاته المتناسقة في التركيبة العامة المستدامة اجتماعيا، وتاريخيا، وهذا في الحد الوصفي للواقع، قبل البحث عن " النماذذج" الذهنية التي ينزع اليها خبراء الثقافة الذين يرون مجتمعنا واقعا افتراضيا، يتخفى عن الناظرين ما لم يعبر عنه بمفاهيم أثرية بالكاد، كتعريف بلادنا ب" المنكب القصي " على أساس أن مؤرخا واحدا من مؤرخينا في فترة سابقة اطلق هذا المفهوم للدلالة على حيوية الموقع الاستراتيجي لبلادنا بين المناطق الحضارية من حولها جنوبا، وشمالا، وشرقا، وإن دل التوصيف على ظاهرة حضارية، وواقع اجتماعي بابعاده التاريخية في التفاعل مع الكيانات من حوله، فإنه يدل على مركزية الموقع لبلادنا بالنظر الى هامشية المناطق المجاورة، وليس العكس، كما أول ذلك المتأولة من كتابنا الذين، رأوا في غيرنا مركزا ، وفي بلادنا طرفا تابعا دون أن يكلفوا انفسهم الاستناد الى مرجعية تاريخية غير الحالات الاستثناية، كالاحتلالين: الاغريقي، والفرنسي في جعله من " سينلوي" عاصمة لغرب افريقيا،، فمتى يصحح بعض الكتاب معلوماتهم عن تاريخ مجتمعنا، او أن الحامل على التمسك بالتوصيف، هو الوعي بالمصالح الفردية؟
كما تداول بعض كتابنا مفهوم " مجتمع البيظان" الذي اطلقه احد الفرنسيين لطمس الهوية القومية،مقابل تضخيم "الأنا" الوطنية، غيرأن الفرنسيين أمعنوا النظر في البحث عن مفهوم اكثر دلالة للتعبير عن هوية مفارقة لظواهر المجتمع في تاريخه، وجغرافيته، وثقافته، لذلك الصقوا على هوية نظامنا السياسي صفة ليتشبث بها الموصوف، وذلك احياء للتاريخ الاستعماري الاغريقي، وما قام به من تقسيم للوحدة الاجتماعية المغاربية، ودعواه في ذلك التقسيم الاداري، وأن بلادنا كانت تابعة ل "موريتانيا القيصرية" التي كانت عاصمتها " قسنطينة" في الشرق الجزائري ، وهذه " الهوية" ستبقى حاملة لثأر استعماري للإغريق، لأن اجدادنا، كانوا أول من شق عصا الطاعة على الاحتلال الاغريقي، نظرا لامتلاك اجدادنا "إرادة "التغيير، ورفض الخضوع للاجنبي على الرغم من الهمجية الاستعمارية، وقد ساعد مجتمعنا على الخروج على المستعمر، هو مبدأ" القوة" في امتلاكه ل"قنبلة" ذلك العصر، وهي" الجمل" على حد تعبير" عبد الله العروي"، المؤرخ المغربي، والمفكر العربي الكبير، وذلك في كتابه "تاريخ المغرب الوسيط" ، وقد كان الجمل أداة لتنقل الثائرين اثناء القيام بعمليات اقتحامية ضد المحتل، ومن ثم التمكن من مواصلة السير في الرمال بسرعة تفوق سرعة " الفيلة" التي كان الغزاة الاغريق، يتنقلون عليها، ولعل هذا كان من الامثلة على الحضور في التاريخ ، وهو دافع موضوعي على التوجد الحضاري في مختلف التطورات الحضارية التي سجل خلالها المواقع الجغرافية، ك"النهر" على الضفة الجنوبية لبلادنا الذي عرفه المؤرخون باسماء عديدة منها " نهر فرس البحر"، و" نهر صنهاجة" قبل أن يحضر الفرنسيون بمشرطهم التقسيمي، ويطلقون عليه " نهر سينغال"، ولو أن التعريف الأخير من الهويات الموزعة على موصوف لاتحمل خصائصه أي دالالة في الوصف، فلعل الغزاة الفرنسيين اكثرمن عليهم من جهة الوجوب ان يعرفوا بضرورة علاقة الوصف بالموصوف ،،(يتبع)
د/ إشيب ولد أباتي