يجب أن لا ننسي أننا علي غرار الدول الافريقية الأخرى، تسلمنا هياكل ديمقراطيتنا جاهزة من قبل ميتران أثناء الاجتماع العائلي بمدينة لابول في يونيه 1990. وأذكر بكلمات الرئيس الفرنسي: "عندما أذكر الديمقراطية أرسم طريقا وعندما أقول إن تلك هي الطريقة الوحيدة لبلوغ توازن في الوقت الذي تظهر فيه ضرورة مزيد من الحرية، فإن لدي بالطبع مخططا جاهزا يتمثل في نظام تمثيلي وانتخابات حرة وتعددية حزبية وصحافة حرة وقضاء مستقل ورفض للرقابة إلخ."
إن المعاينة تقتضي بالتأكيد الحكم. فبعد عدة سنوات من حدوث الوثبة الديمقراطية، ما زالت النتائج بعيدة من آمال الأفارقة.
فخيبة الأمل منذ البدء جعلت السكان يفهمون الدمقراطية فهما خاطئا وكأنها تغير خارق قادر على نقلهم فورا إلى الحداثة كما تسوقها وسائل الإعلام الغربية في أبعادها المادية.
لقد تصور هؤلاء السكان أن الدمقراطية هي العلاج الأمثل لسوء الحال وأن ساعة تحررهم المدني ستكون ساعة خلاص من حالة البؤس.
ومن خلال سلوك المسؤولين السياسيين، بدت الديمقراطية وكأنها أفضل قناع تختبئ فيه أبشع أشكال الاستبداد دون مساءلة.
وبالنسبة للفقراء لم يعد للدمقراطية أي رونق لأنها ليست سوى خدعة تسمح بإخفاء الفوارق الاجتماعية تحت غطاء مساواة مزعومة في الحقوق المدنية، وأنها من حيث مبادئها وآلياتها ليست في حقيقة الأمر إلا مسرحية أو كوميديا انتخابية بلا نهاية، القصد منها إشباع الميل إلى التنافر لدى الساسة الفاقدين في الغالب لأدنى قدر من الورع.
والحقيقة أن الديمقراطية لم تكن أبدا ضمن أولويات السكان عندنا، والحقيقة أيضا أن البلدان الإفريقية ليست سوى مقبرة للأفكار الغربية كما أشار إلى ذلك المثقف الفرنسي غي سيرمان في كتابه "الثروة الجديدة للأمم" إذ يقول: "ما من شك في أن إفريقيا أصبحت خاضعة لقيمنا وقوانيننا وأفكارنا السائدة وكل ما هو عندنا. ونحن مسؤولون لا لأننا صدرنا أفكارا إلى إفريقيا بل لأننا أثقلناها بأفكار خاطئة".
وعلى ضوء هذا التشخيص ينبغي التذكير بأن شركائنا الخارجيين، العاجزين حتى الآن عن قراءة واقعنا والعالقين أصلا في مرجعيا تهم الثقافية، يعتقدون ان الديمقراطية عمل تبشيري يدعو إلى اعتناق وثنيين للدين الجديد، دين الفضيلة المدنية الكاملة. فلا نقاش في حتمية الديمقراطية.
أما مقاولونا السياسيون، فمن الأسهل عليهم إفادتنا حول مضمون الدكتاتورية لأن كل واحد منهم يحمل منها عوالق لا تمحي، بدل الحديث عن طبيعة الديمقراطية.
ولكن ما هي الديمقراطية في جوهرها؟ هل هي نظام للحرية؟ بدون شك، ولكن ما هي الحرية؟ هل هي نظام للمساواة؟ هل هي حكم الأغلبية؟ وما العمل إذا اتجهت الأغلبية نحو الفظاعة و الجريمة؟
ومن جهة أخري، هل الدمقراطية نظام سياسي أم شكل من أشكال التنظيم الاجتماعي، أم هي حالة ذهنية، أم ثقافة، أم هي الجواب على جميع هذه التساؤلات وزيادة؟
إن الردود على هذه الأسئلة لا تنقص ولكنها حتما قد تكون متباينة ومتناقضة تبعا لعواطفنا ومصا لحنا وأحيانا لميولنا الديني والأيديولوجي.
ولنفترض أننا اتفقنا بعد الخلاف على ضرورة وجود أرضية للتفاهم، لأن كل سؤال مطروح يمثل جزءا من بناء الديمقراطية المنشودة.
إذن، من أين نبدأ؟ من الإنسان طبعا لأنه هو أساس ديمقراطيتنا وغايتها.
كيف يصبح المواطن الموريتاني حرا؟
إن الحرية في السياسة تتمثل في القدرة على اختيار حل من بين حلول كثيرة، وعلى الاختيار عن وعي، وفي القدرة على صياغة مشاريع وتعبئة وسائل ذاتية ليست بالضرورة في يد الغير، وعليه فالحرية سيادة.
لكن السيادة في جوهرها تثير إشكاليات. والاختيارات المستقلة قد تتم بناء على طرح خاطئ.
فهل تعني السيادة قدرة المرء على فعل كل ما يحلو له؟ وهل هو حر في فعل الشر أو الخير على حد سواء وأن يدعي مثلا حسب هواه أن 1+1=3؟
فالحرية أخيرا تعني القدرة على مواصلة نشاطات طبق المنطق العقلاني، فالحرية إذن استقامة.
وفي النهاية تكون الديمقراطية ذات أبعاد ثلاثة هي الاختيار والسيادة والاستقامة.
إن السعي لبلوغ الحرية عمل طويل النفس ويفترض أعمالا متداخلة تمتزج فيها جميع مناحي الحياة لأن الأمر يتعلق بتحرير المواطن من وطأة الجوع والجهل وضغط المجموعات وعبث المتاجرين بالأوهام وحتى من ضغط المجتمع.
ويمكن الانطلاق من التعريفات الواردة في إعلان 1789 للحقوق الذي ينص على ما يلي:
"المادة 4: تتمثل الحرية في جواز فعل كل ما لا يضر بالغير وعليه فإن التمتع بالحقوق الطبيعية لكل امرئ ليس له من حد غير ما يضمن لباقي أفراد المجتمع التمتع بنفس الحقوق؛ وهذه لا يمكن وضعها إلا بالقانون.
المادة 5: لا يجوز للقانون إلا حظر الأفعال الضارة بالمجتمع وما ليس محظورا بالقانون لا يمكن منعه ولا يمكن إجبار أحد على فعل ما لا يأمر به القانون."
ومن هذه التعريفات يمكن استخلاص فكرة مؤسسة هي أن الحرية التزام طوعي بالنظام العام والامتثال الطوعي بالنظام العام هو الذي يميز الحرية عن الإباحية.
من الواضح أن الحرية ليست هي الفوضى والانفلات في القول والفعل. والحرية تحتاج للقوانين ولنوع من التهذيب لتنمو وتستديم بحيوية وإنصاف. كما أن الحرية بحاجة إلى الدولة. فلا معنى للحرية خارج الدولة، فما الحاجة من الحرية في دولة تضمحل؟
إن الوظيفة الأولى للديمفراطية هي السهر على بعث احترام الدولة ومؤسساتها ورجالها والقيم المشتركة للمجتمع.
وأي نظام جمهوري وديمقراطي ناجع عليه أن يفرض التوازن بين الحقوق والواجبات. وهنا لا بد من الإشارة إلى عدول المعارضة الديمقراطية التي اختارت المجابهة منذ البداية للعمل على عداء يتجاوز إطار العمل السياسي ويشجع تصرفات على النقيض من القيم الديمقراطية النبيلة.
وظلت القيمة التربوية لخطاب هذه المعارضة تنحصر حتى الآن في أشكال من الثأر الشخصي؛ ومن أجل تصحيح مسار الديمقراطية المنحرف لا بد من اتخاذ إجراءات ملحوظة؛ ومن هذه الإجراءات مشروع القانون المتعلق بحماية الرموز الجمهورية.
إن الجهل بدور الآليات القانونية عموما وآليات القانون الجنائي بوجه خاص في الاستقرار جعل البعض يصف هذا المشروع بانتكاسة للدمقراطية وحرية التعبير. وهناك دعاة لترك الحبل على الغارب يجعلون من العصيان المدني عقيدة سياسية ويشككون في الطابع المؤسسي لوظيفة رئيس الجمهورية ويبالغون في التساهل لإذكاء الضغائن.
لا بد من تذكير الجميع بأن القانون الجنائي، منذ ظهوره، عمل بوجه خاص على حماية وكلاء السلطة والمواطنين المكلفين بخدمة عمومية؛ فطبيعة عمل هؤلاء الموظفين والتدخلات التي قد يقومون بها غالبا ما تنجر عنها ردود فعل انتقامية وإساءات وأعمال عنف؛ وعليه لا بد من جعلهم في مأمن من أي مساس بشرفهم أو بشخصهم وفرض احترام وظائفهم والسلطة التي يعملون لصالحها.
ولهذا فإن المادة 204 من القانون الجنائي تنص على أنه "عند ما يتعرض قاض أو قضاة من السلك الإداري أو القضائي وعند ما يتعرض محلف او محلفون، خلال أداء مهامهم أو بمناسبة أداء هذه المهام، لأي إساءة لفظية أو كتابية أو برسم، بشكل علني أو غير علني، تنحو في كل هذه الحالات الى النيل من شرفهم أو لياقتهم فإن من صدرت منه هذه الإساءة يعاقب بالحبس لمدة من خمسة عشر يوما إلى عامين".
والطابع العام للترتيبات الواردة في هذه الفقرة يجعلها تحتاج شرحا ليفهمها غير أهل الاختصاص؛ فالفقه والسوابق القضائية دأبا على إطلاق صفة القاضي من السلك الإداري على الشخصيات التالية: رئيس الجمهورية والوزراء وكتاب الدولة ومستشاري الدولة والمستشارين لدى محكمة الحسابات والولاة والحكام ومساعديهم إلخ.
أما مفهوم القاضي من السلك القضائي فيخص قضاة الحكم وقضاة النيابة العامة وأعضاء محكمة العدل السامية.
فالذين يعتقدون أن حماية هذه الوظائف ليست منصوصة في القانون الجنائي أو أن مشروع القانون الجديد اختراع ليسوا على صواب.
ومشروع القانون الجديد يتميز بأنه يوضح ضمن المنظومة القانونية ما يتعلق برموز الدولة مما يضفي عليه صفة القانون الخاص بالنظر إلى المادة 204 من القانون الجنائي التي تظل إذن ترتيبا عاما.
والنتيجة الأولى لمثل هذه الوضعية هي أولوية تطبيق القانون بعد اعتماده من طرف الجمعية الوطنية على ترتيبات المادة 204 من القانون الجنائي. فلا تناقض إذن بين النصين ولا تكرار ولا حشو، خلافا لما يدعيه بعض القانونيين الذين ما زالوا يقفون عند فهم النصوص ولم يبلغوا درجة التأويل. إن وجه التجديد في مشروع هذا القانون يكمن في الاهتمام بمواكبة التقدم الحاصل في وسائل التواصل، بينما يعود مضمون القانون الجنائي في أغلبه إلى ستينيات القرن الماضي.
ثم إنه لا حاجة في تذكير من ينكرون الطابع المؤسسي لوظيفة رئيس الجمهورية بصلاحياته الدستورية. فمن الأفضل كتمان جهلهم لمحتوى دستورنا وروحه.