“الغول والعنقاء والخل الوفي” مَثَلٌ أستخدمه للكناية عن عالمنا العربي الواقع بين الأثافي الثلاث: من يتغوَّلُ علينا بالاعتداء و بالاحتلال؛ ومن نظن أنه خِلٍّ وَفِّيٍ فنكتشف أن صداقتهُ تقف عند حدود المصلحة؛ و حلمُ نهضةِ العرب كما العنقاء تعود للحياة من لهيب النيران لنصحو منه على أسطورةٍ لا أمل منها.
بلادنا تطلُ على المحيط الأطلنطي غرباً والبحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر والمحيط الهندي وبحر العرب والخليج العربي. ونشرف على مضائق هرمز وباب المندب وجبل طارق وقناة السويس وعبرها تمر تجارة العالم وأساطيل الحرب. في عام 2019 بلغ عددنا 427 مليون نسمة ويزداد العدد بمعدل 9 مليون نسمة سنويا. أكثر البلاد سكانا هي مصر التي وصلت ل 102 مليون وأقلها هي قطر وجيبوتي. 60 بالمائة من العرب في فئة الأقل من 30 عام من العمر أي أننا مجتمع شباب. أراضينا تأتي بمساحة 13 مليون كيلومتر مربع وبها كل التضاريس والأجواء من الصحاري و الجبال و الهضاب والسواحل الطويلة. والثروات والموارد الطبيعية فوق و تحت الأرض و في البحار كثيرة ووفيرة. معظمنا يعُّدُ اللغة العربية لغتهُ وكذلك الدين الإسلامي مع تعايش أصيلٍ لعديد القوميات غير العربية و الأديان السماوية و اللغات و اللهجات.
لكن الفروقات بين الدول العربية كثيرة هي الأخرى. هناك الغني جدا من الدول على المستوى العام مثل السعودية التي يصل ناتجها الإجمالي الداخلي ل 700 بليون دولار سنويا والفقير مثل جزر القمر بناتجٍ إجماليٍ سنويٍ لا يصل ل 1.3 بليون دولار والصومال حيث يكاد يصل ل 5 بليون دولار. وسأقحم الكيان العنصري الصهيوني في المقاربة حيث الناتج المحلي السنوي يصل لأكثر من 400 بليون دولار بقليل ويفوق الناتج المحلي في الأردن بتسعة أضعاف تقريبا. وعلى ذات المستوى العام قدرت الأمم المتحدة نسبة الفقر في الدول العربية ب 41 بالمائة من العرب و أن 26 بالمائة منا مهيؤون للعازة وأن نسبة الشباب العاطل عن العمل تصل في المعدل ل 26 بالمائة.
كما أن حصة الفرد من الناتج الإجمالي القومي في قطر على سبيل المثال تصل ل 66 إلى 69 ألف دولار سنويا وفي مصر والجزائر لأقل من 4000 دولار و في السودان ل 700 دولار و في سوريا ل 800 دولار. أما المعدل في الكيان الصهيوني فهو 43 ألف دولار ويتقارب في ذلك مع اليابان وفرنسا. وإذا حسبنا الناتج المحلي القومي الكلي لكل الدول العربية مقسوما على عدد السكان فحصة الفرد تقريبا 6350 دولار سنوياً وهي أعلى من الهند بثلاث مرات وأقل من الصين والبرازيل بحوالي الثلث.
ولننظر ل لحظة في مقارنة بين الأردن وجيبوتي وسنغافورة وهي دول صغيرة نسبياً لكن سنغافورة تتجاوز الأردن وجيبوتي بمراحل مع العلم أن تاريخها لا يعود كثيرا في الماضي عنهما فهي استقلت عام 1965. حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في سنغافورة والأردن وجيبوتي هي على التوالي و بالتقريب للأرقام الكاملة 59 و3 و 4 ألف دولار. والبطالة هي على التوالي 3.1 و11.6 و22.7 بالمائة و يبلغ عدد الباحثين في سنغافورة 6802 باحثا ينشرون سنويا 11459 بحثا محكما بينما العدد في الأردن هو 596 باحثا ينشرون 2627 بحثا محكما في السنة و في جيبوتي ينشر 6 بحوث و لا تسجل الإحصائيات عدد باحثين. ويتقدم السنغافوريين سنويا ب 1727 طلب ملكية فكرية لمنتجات واختراعات و في الأردن يتضاءل الرقم ل 21. ما الذي يجعل سنغافورة بلغاتها الأربع الرسمية و الست المتكلمة ودياناتها المتعددة في مساحةٍ تقل عن 800 كم مربع تتفوق على الأردن وجيبوتي؟ هل هي الديكتاتورية الصارمة و المستنيرة بنفس الوقت و سهولة تخليق شعبٍ واعٍ من نقطة الصفر؟ سؤالٌ ينبغي تداوله لعلنا نجد الحل.
وها هي الأمم المتحدة تعود لتؤكد لنا و للعالم تقهقر الدول العربية وتضيف للتقارير العديدة التي كُتِبَتْ في موضوع معوقات نماء المنطقة وقدمت مئات المقترحات على مدى عقود. فإن تقرير عام 2020 الصادر عن اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا، و هي تضم كل الدول العربية بآسيا وأفريقيا، يشرح مجددا فشلنا لتنفيذ ما اتفق العالم عليه من المضي بثبات لتنفيذ 17 هدفا تنموياً مستداماً بحلول عام 2030. في تقديمها للتقرير تقول أمينة اللجنة التنفيذية، السيدة رولا دشتي، أن في التقرير طموحٌ وتواضعٌ، فالمنطقة قادرة بالسياسات المتكاملة (إن توفرت) على تنفيذ خطة عام 2030 لكن التقرير بحسبها لا يقدم حلولا سحرية لأن المنطقة ليست على مسار تحقيق هذه الخطة و أن سياسات التنمية مجزأة و أن الفقر وعدم المساواة في تزايد و أن جهود المجتمع لا ترقى بعد للتنفيذ و أن اقتصاداتنا بعيدة عن الاستدامة و الإنتاجية. كلمات واقعية وموجعة لمن له ضمير يخاف على مستقبلنا.
يعطي التقرير أسانيد كثيرة لتعزيز استنتاجه و هي أرقام و نسب بنيت على استقصاءات و إسقاطات علمية حيث استطاع الباحثون أن يجدوا المعلومات و باختصار و باستثناءات بسيطة لبعض الأهداف يقر التقرير بفشل الدول العربية اللحاق بمصاف دول العالم في سباقها لتنفيذ هذه الأهداف التي تبدأ بالقضاء على الفقر و الجوع و تمر بتجويد التعليم و البيئة و تربطها بالعدالة و المساواة و الرقي في تناول متطلبات البقاء بأنماط استهلاك واعية و فرص عمل مواكبة و في خفض التفاوت بين الدول و الحث على بناء شراكات مفيدة.
فمثلا 27 بالمائة من اللبنانيين هم تحت خط الفقر الوطني لكن هذا الرقم كان قبل دخول لبنان أزمته الخانقة بتدهور أسعار الصرف وشح المواد و انخفاض القدرة الشرائية و لنا التصور اليوم كيف هي النسبة. واليمن يأتي ب 48.6 بالمائة من الشعب تحت خط الفقر ولكن الرقم يعود لما قبل الحرب المبيدة للقدرات البائسة أصلا للشعب المكلوم بظلم ذوي القربى و قلة حيلة الأمم المتحدة وأعضائها من وقف الحرب. كما يقول التقرير أن أغنى 42 مواطن عربي يملكون 123 مليار دولار وهو مجموع الناتج الكلي المحلي لجزر القمر والسودان واليمن وموريتانيا. وتضم منطقتنا 7 أزمات إنسانية منها اليمن وسوريا المصنفتان من أعتى ما مَرَّ من أزمات عالمية و بكلف عالية باهظة الخسارة في البشر و الحجر. ومنطقتنا مسكنٌ لحوالي 9 مليون لاجئ و15 مليون نازح داخلي. وبمواجهة العوز الواضح في الشأن الاجتماعي المدني يقول التقرير أن المنطقة تلقت بين 2014 و2018 ما يوازي 36 بالمائة من الواردات العالمية للسلاح الثقيل و هي النسبة الأعلى بعد آسيا و أوقيانوسيا و كان أكبر المستوردين الإمارات العربية و الجزائر و مصر و العراق و السعودية. يسهب التقرير بشرح كل هدف و يصفه و يحلل كبواتنا لتحقيقه و يقترح مخارج مناسبة و أنصح بقراءته على موقع الإسكوا بل و تدريسه أيضاً.
مصادر أخرى منشورة للملأ تعطي نسبة الإنفاق العسكري من مجمل الإنفاق الحكومي للدول العربية وأسوق مثالا السودان بنسبة 9.2 بالمائة والأردن بنسبة 15.2 بالمائة و تونس 7.9 بالمائة. ولا تكاد تخلو أي دولة عربية من القواعد العسكرية الأجنبية ول 14 دولة أجنبية قواعد عسكرية بكل البلدان العربية تحتفظ فيها و تستعمل كل صنوف السلاح.
إن الأرقام والنسب ونبض الشارع كلهم يقولون إننا لسنا بصدد مشروع استدامة على المستوى العام و إن كانت هناك طفرات مثل التطوير الحثيث بمصر في البنى التحتية و تعميم أنماط حياة متقدمة للشعب وهي سياسة لا شك تحتاج الكثير من الموارد والصبر و من الحنكة في ظل تحديات الداخل بالزيادة السكانية و بانكماش الحريات كما يشاع و تحديات الخارج و أهمها سد النهضة الحبشي. لكننا عموما وعلى المدى المنظور، و بحساب جيل أو جيلين قادمين، قد نرى تفكك الدول العربية و البنى المجتمعية ما لم نتغير للأحسن. فما هو المصير؟
هناك دول تاريخية مثل الهند والصين واليابان وفرنسا تحتفظ بكينونتها الوطنية و الجغرافية على الرغم من تعدد القوميات و الأديان و اللغات و دخولها عبر التاريخ ملاحم غير مسبوقة. وهناك دول صاغت وحدتها من فرقتها و بعد حرب أهلية مثل الولايات المتحدة الأمريكية التي تحكمها حكومة مركزية وحكومات ولايات. ونحن دول بكينونة وطنية تربط أواصرها الأصول و الأعراق و الدين و اللغة والعادات والتقاليد لكننا نأتي على نسق 22 علماً و مؤهلون حقيقةً لمزيد من سارياتِ أعلامٍ جديدة تساهم بتمزيق الباقي من الكيان العربي. لا نحن بحجم الهند أو الصين أو اليابان و بعزم هذه الحضارات للبقاء موحدةً ولا نحن قادرون أن نتوحد مثل أمريكا أو حتى الإتحاد الأوروبي. و ليس في الأفق من فكرٍ يجمع العرب على قواسم مشتركة تخدم المصلحة العامة العربية بل مزيداً من الفردية و الأنانية و الاحتماء بالأجنبي. حينما تغيبُ العقولُ عن التفكير بوضوحٍ بمستقبلٍ عربيٍ و تأْرِزُ للتفكيرِ فقط بالمستقبل المحلي دون اعتبار لمبدأ تعظيم الفائدة عبر الجمع بين الدول فإننا نسعى لمزيدٍ مما نحن به هذا إن كنا محظوظين، و الأغلب هو الأسوأ.
الواقعُ يقول أننا كنا و نبقى بلا حلول لأمة العرب من النوع الذي يسعدنا و أن المستقبل قياساً على تجارب الماضي مليء بخيبات الأمل. كل الجمهوريات التي اتحدت منذ الستينات انفسخت و حتى مجلس التعاون الخليجي الذي حافظ على وحدة الشكل و حرية السفر يترنح تحت وطأة الخلافات بين دوله. و بقدر ما يرسل التعاون المصري الأردني العراقي من إشارات أمل بقدر ما يحتاج لتوضيح فهل هو “شامٌ جديدٌ” بلا بلاد الشام الأخرى و كيف يكون ذلك وهل أنه مدفوعٌ لمناهضة إيران كما ذكرت تقارير صحفية؟ إن كانَ فأيدينا على قلوبنا و لكل عربيٍّ أن يقول عندها: هذا ما جنيتُ على نفسي و لا ألوم غيري. ثم أن العالم العربي يرزحُ فعلياً تحت إحتلالٍ واضحٍ صهيونياً و أمريكياً و أوروبياً و تركياً و إيرانياً و يتم التعامل معه عربياً بموجب أنماط التحالف السائدة بشكلها الفردي بين الدول العربية و هذه الدول و الكيان الصهيوني. لقد سطت إيران على جزر الإمارات الثلاث، أبو موسى وطنب الصغرى و الكبرى، و اليوم حتى الإمارات لا تذكر جزرها و لا تجد ضيراً من احتلال جزر يمنية! و تصرح تركيا أنها موجودة في سوريا و ليبيا و من يعارضها من العرب فليخرجها إن استطاع أو أراد. و كذلك الحال مع الولايات المتحدة و حلفاءها الأوروبيين في وجودهم العسكري المحتل بسوريا. الأمثلة كثيرةٌ و ممتدةٌ و كاشفةٌ لعوراتنا و ليس قبول بل دعوة الاحتلال أسطعها بل هناك مكانٌ وفيرٌ في يومنا للفساد و البذخ السافر بجانب الفقر المدقع و العنصرية البغيضة والاستهانة بحقوق البشر والتفرقة الآثمة بين الناس و مهازل تدوير أحكام الدين و ليِّها حسبما يريد الحاكم.
أنا لا أدري فعلاً كيف نواجه أنفسنا كل صباح و بلادنا تنزلق نحو الهاوية. و لا أدري عن وَعْيٍّ يبزغُ من المحيط للخليج يُبَشِّرُ بخلاصنا. كل ما أراه و أقرأه هو في غير صالحنا. و استنتاجي أننا بانتظارٍ طويلٍ و صعبٍ للعنقاء التي لا تأتي بينما يأكلنا الغول و يهزأُ منا الخِّلُ الوفي. اللهم فاشهد.
كاتب اردني