جاءت قرارات الاجتِماع الوزاري العربي “الطّارئ” لبحث أزمة سدّ النهضة الإثيوبي الذي انعقد في الدّوحة اليوم بحُضور السيّد سامح شكري وزير الخارجيّة المِصري مُخيّبةً للآمال، ولا تتناسب مع حجم التّهديدات التي تُواجهها دولتا الممر والمصب، أيّ السودان ومِصر، بعد فشل عشر سنوات من المُفاوضات العبثيّة المُخادعة بسبب التعنّت الإثيوبي.
فكُلّ ما تمخّض عنه هذا الاجتِماع “الطّارئ” و”الاستِثنائي” توجيه دعوة إلى مجلس الأمن الدولي للانعِقاد لبحث أزمة السّد، وكأنّ هذا السّد لا يُشَكِّل تهديدًا بتعطيش وتجويع أكثر من 40 مِليون من الأشقّاء العرب، ماذا سيفعل مجلس الأمن لوقف هذا التّعنّت الإثيوبي، وماذا ستستفيد مِصر والسودان من أيّ بيان إنشائي بالإدانة، وهذا ما نَشُك حتّى في احتماليّة صُدوره؟
فإذا كانت أمريكا مدعومةً بصندوق النقد الدّولي فشلت في فرض نتائج وساطة توصّلت إليها إدارة ترامب السّابقة بعد مُفاوضات مُكثَّفة بحُضور أطراف الأزمة الثّلاثة في واشنطن، فهل سينجح مجلس الأمن فيما فشلت فيه الدّولة الأعظم في العالم صديق إثيوبيا؟ وما هو مصير أكثر من 60 قرارًا صدرت عن مجلس الأمن والجمعيّة العامّة للأمم المتحدة فيما يتَعلَّق بالحُقوق العربيّة الفِلسطينيّة المُغتَصبة؟
***
الحُكومة المِصريّة ذهبت إلى مجلس الأمن الدولي شاكيةً، وعزّزت شكواها بالوثائق الدّامغة، ولم تَجِد أيّ اهتِمام، رُغم أنّ انهِيار الحُلول السياسيّة قد تدفع باتّجاه الخِيار العسكري وإشعال فتيل حرب مُدَمِّرة قد تُؤثِّر نتائجها ليس على البِلاد الثّلاث، وإنّما على القارّة الإفريقيّة برمّتها؟
وزراء الخارجيّة العرب الذين شاركوا في هذا الاجتماع الطّارئ هُم أنفسهم الذين أشعلوا فتيل الحرب في سورية ورصدوا أكثر من مِئتيّ مِليار دولار لتدميرها، واتّخذوا قرارًا بإبعادها من جامعتهم العربيّة، وهم نفسهم الذين شرّعوا تدخّل حلف النّاتو في ليبيا وتحويلها إلى دولة فاشلة، وفعلوا الشّيء نفسه في العِراق قبلها، وعندما يتعلّق بدولةٍ غير عربيّة مِثل إثيوبيا، لا تَجِد حُكومةً عربيّةً واحدة تسحب سفيرها من أديس أبابا احتِجاجًا، ناهِيك عن وضع كُلّ إمكانيّاتها العسكريّة والماليّة تحت تصرّف الحُكومة المِصريّة في مُواجهة هذا الخطر الإثيوبي الوجودي، خاصّةً أنّ المرحلة الثّانية والأخطر لمَلء خزّانات السّد ستبدأ بعد عِشرين يومًا فقط.
نحن لا نلوم هذه الحُكومات العربيّة المُتخاذلة فقط، وإنّما نلوم الحُكومة المِصريّة نفسها التي تعاملت بلُيونةٍ معها، وسكتت على تواطؤ بعضها مع إثيوبيا، بل وضخّ مِليارات الدّولارات من الاستِثمارات في مشاريع بناء السّد، وأُخرى لدعم الاقتِصاد الإثيوبي.
لن يردع إثيوبيا، ويُوقِفها عن حدّها، إلا موقفٌ عربيٌّ قويٌّ في جميع الميادين دعمًا لمِصر والسودان، أمّا هذه المواقف المائعة، فسَتُعطِي نتائج عكسيّة تَصُب في مصلحة التّعنّت الإثيوبي، وتجويع عشَرات الملايين من مُواطني البلدين العربيّين المُتَضَرِّرَين.
أصبحنا كعرب “حيطة واطية” الجميع يَستأسِد علينا، ويتفنّن في إذلالنا، فها هي وزارة الرّي الإثيوبيّة تُعلِن اليوم، البدء عن بناءِ سدٍّ جديد على نهر ديسدها الذي يُغَذِّي النّيل الازرق بالماء، ليُضاف إلى 11 سدًّا قائمة حاليًّا وكمُقَدِّمة لإنشاء مئة سد أُخرى في المُستقبل المنظور في إطار “خطط للتّنمية”، ممّا يُؤكِّد بأنّ آبي أحمد رئيس الوزراء الإثيوبي لا يُقيم وَزنًا، أو احترامًا، أو تَفهُّمًا لكُلِّ الأمة العربيّة.
رئيس الوزراء الإثيوبي وصل فيما يبدو إلى قناعةٍ راسخة بأنّ مِصر والسودان، ومعهما الحُكومات العربيّة يخشون الحرب ويرهبونها، ويُراهِنون على الوِساطات والحُلول السلميّة، ولهذا تمادى في غيّه وعِناده وتعنّته، ولم يَعُد يُواصِل تحدّياته في استِكمال بناء سدّ النهضة، ومَلء خزّاناته فقط، وإنّما يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، بالتّهديد ببيع مِياه النّيل للبلدين الشّقيقين، أيّ السودان ومِصر، ألَمْ يَقُل المُتحدّث باسم خارجيّته بأنّ العرب يبيعوننا البترول فلماذا لا نبيعهم الماء؟
***
لا نعتقد أنّ الدّولة المِصريّة التي خاضت أربع حُروب حِمايةً لأمنها القومي ضدّ العدوّ الإسرائيلي، ستتردّد لحظةً في خوض الحرب إذا اضْطُرَّت إليها، حِمايةً لأمنها القومي المائي، فمَن استطاع تدمير أُسطورة خطّ بارليف وهزم الجيش الإسرائيلي عام 1973 ودفع غولدا مائير إلى الاستِنجاد بأمريكا، يستطيع أن يُدَمِّر سدّ النهضة مهما كانت التّبعات المُتَرتِّبة على هذه الخطوة، وسيَجِد الجيش مِئة مِليون مِصري و300 مِليون عربي يَقِفُون خلفه، ونحن نتحدّث هُنا عن الشّعوب وليس الحُكومات.
اتّقوا غضب الحليم، ومِصر قويّة وكبيرة، فإذا كان قِطاع غزّة الصّغير الذي لا تزيد مِساحته عن 150 مِيلًا مُربَّعًا، أعلن الحرب على دولة الاحتِلال الإسرائيلي، وعزَلتها صواريخه المُباركة عن العالم أجمع لعدّة أيّام وأرسلت ستّة ملايين من مُستوطنيه إلى الملاجئ، ودفع رئيس وزراءها للهرولة إلى واشنطن لوقف الحرب، فكيف سيكون الحال لو تَحرَّك هذا الفيل المِصري العِملاق، وسيتحرّك قطعًا، وفي الوَقتِ المُناسب، عندما يطفح الكيل، ويبدو أنّه أوشَك على ذلك.. والأيّام بيننا.
عبد الباري عطوان