يقدر البعض سواء داخل الولايات المتحدة أو خارجها أن الرئيس الجديد للبيت الأبيض في العاصمة واشنطن جو بايدن سيدخل تعديلات أساسية وجوهرية على سياسة بلاده خاصة على الصعيد الدولي، ولكن هناك من يرى أن هذا التحول غير ممكن من طرف الرئيس الأمريكي السادس والأربعين.
المصالح هي التي تحدد سياسة الولايات المتحدة الأمريكية وسيظل الأمر كذلك خصوصا ما دامت واشنطن تتمسك بلعب دور القوة الرئيسية سياسيا وعسكريا واقتصاديا في العالم، وأي تعديل حقيقي في سياستها وكما أثبتت التجارب بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى سنة 1914 لا يتم إلا بعد أن تقر بأنها مارست خيارات فاشلة وتكبدت خسائر أو هزائم واضحة المعالم، وحتى مع هذه الوضعية تصر على وضع أسس لاستعادة ما فقدته بطرق مختلفة. في الولايات المتحدة تتجسد ما يسمى بالدولة العميقة أكثر من أي بلد آخر.
الدولة العميقة في الولايات المتحدة، تبنى على نظرية المؤامرة التي تشير إلى أن التواطؤ، والمحسوبية، الموجودة داخل النظام السياسي الأمريكي، "فالدولة العميقة الأمريكية"، تشكل حكومة خفية، داخل حكومة منتخبة شرعا.
يعتقد الباحث مايك لوفكرين" أن هناك رابطة هجينة قادرة على حكم الولايات المتحدة على نحو فعال دون الرجوع إلى موافقة المحكوم، وتتألف من عناصر الحكومة، وعناصر من أعلى مستويات التمويل، والصناعة.
وقد صيغ المصطلح للإشارة إلى جهاز دولة غير مرئي، "متكون من عناصر رفيعة المستوى داخل أجهزة المركب الاقتصادي الصناعي العسكري وأجهزة الاستخبارات، والأمنية، والقضائية وغيرها".
في كتاب "إخفاء الدولة" يقول البروفيسور جيسون رويس ليندسي: إنه حتى بدون وجود جدول أعمال تآمري، فإن مصطلح الدولة العميقة، مفيد لفهم جوانب مؤسسة الأمن القومي في البلدان المتقدمة، مع التركيز على الولايات المتحدة.
وكتب ليندسي، أن الدولة العميقة تستمد القوة من مجتمع الأمن القومي، والمخابرات، وهو عالم يعتبر أن السرية، هي مصدر القوة.
يذكر ألفريد دبليو مكوي أن الزيادة في قوة مجتمع الاستخبارات الأمريكي، منذ هجمات 11 سبتمبر "شيدت فرعا رابعا من الحكومة الأمريكية"، وهو "مستقل من نواح كثيرة عن السلطة التنفيذية، وبشكل متزايد".
استخدم إدوارد سنودن الذي كان موظفا سابقا في وكالة الأمن القومي، المصطلح عموما للإشارة إلى تأثير الموظفين المدنيين على المسؤولين المنتخبين: "الدولة العميقة ليست فقط وكالات الاستخبارات، إنها حقا وسيلة للإشارة إلى بيروقراطية الحكومة المهنية، هؤلاء المسؤولين الذين يجلسون في مناصب قوية، ولا يغادرون عندما يغادر الرؤساء، والذين يشاهدون الرؤساء يأتون ويذهبون، وهم يؤثرون في السياسة ويؤثرون على الرؤساء".
ووفقا للعالم السياسي جورج فريدمان فإن "الدولة العميقة" موجودة منذ العام 1871 وتستمر تحت الحكومة الفيدرالية، وتسيطر على السياسات وتعيد تشكيلها باستمرار.
كتب مايكل كراولي، كبير مراسلي الشؤون الخارجية في بوليتيكو: "تكمن سياسة الملاءمة في حقيقة أن شريحة كبيرة من حكومة الولايات المتحدة تعمل حقا دون قدر كبير من الشفافية أو التدقيق العام، وقد أساءت استخدام سلطاتها الهائلة بطرق لا تعد ولا تحصى.
التكتيك والاستراتيجية
ماذا سيحدث من تغييرات في سياسة واشنطن بعد تولي جو بايدن قيادة أجهزة البيت الأبيض ؟.
هناك حقائق تفرض نفسها وهي أن الرئيس الأمريكي الجديد سيكون مجبرا على تركيز أغلب اهتماماته داخليا فهو يواجه وضعا داخليا متأزما، فالاقتصاد يترنح تحت وطأة كوفيد 19 وزيادة على الكثير من الشركات الكبرى هناك مئات آلاف الشركات الصغيرة والمتوسطة افلست وأخرى تسير نحو الهاوية وهناك 21 مليون فرد انضموا إلى طوابير البطالة والحكومة الفدرالية غارقة في الديون وتطبع الدولارات بدون قيود في محاولة لتخفيف وقع الأزمة وستواصل ممارسة نفس الأسلوب تحت قيادة بادن.
الوعود التي قدمها بايدن خلال الحملة الانتخابية تكشف أنها باستثناءات قليلة لا تتعلق سوى بتعديلات على الأساليب
نشرت صحيفة التايمز البريطانية مقالا لبن هويل ذكر فيه:
الإحصاءات تشير إلى أن الرئيس بايدن، لن يحكم دولة واحدة، بل دولتين أمريكيتين وواقعين أمريكيين، وسيرث أسوأ حالة طوارئ صحية عامة في تاريخ البلاد، وأعمق أزمة اقتصادية منذ الكساد الكبير قبل نحو تسعين عاما علاوة على المهمة الهائلة المتمثلة في استعادة سمعة الأمة في الخارج.
ونقل الكاتب عن آزا راسكين، المؤسس المشارك لمركز التكنولوجيا الإنسانية قوله إن “وسائل التواصل الاجتماعي ومنصاتنا الإعلامية تدمر القدرة على تبادل الحقيقة. تظهر التكنولوجيا لليسار أسوأ الأشياء التي يفعلها اليمين، وتظهر لليمين أسوأ الأشياء التي يفعلها اليسار”.
يرى البروفيسور توني أريند في جامعة جورج تاون، الانتخابات الأمريكية بمثابة مواجهة حاسمة للسياسة الخارجية، "لأننا بصدد رؤيتين مختلفتين كلياً بشأن ما يجب أن يكون عليه العالم، وما ينبغي أن تكون عليه القيادة الأمريكية. ويضيف "لا أريد المبالغة، لكن مستقبل النظام العالمي في خطر".
فالعالم وفقا لدونالد ترمب هو وطنية "أمريكا أولا"، والتخلي عن الاتفاقات الدولية التي يعتقد أنها تمنح أمريكا صفقة غير عادلة. هو عالم أحادي، مربك، قائم على المعاملات التجارية. هو أيضاعالم شخصي، غير منتظم، تحدده مشاعره الغريزية وعلاقاته بالقادة، ويحركه ما يراه على موقع تويتر.
والعالم وفقا لجو بايدن يبدو في صورة أكثر تقليدية لدور أمريكا ومصالحها، وهو ما تأصل في المؤسسات الدولية التي قامت بعد الحرب العالمية الثانية، ويقوم على أساس القيم الغربية المشتركة. هو عالم التحالفات العالمية الذي تتزعم فيه أمريكا البلدان الحرة في مواجهة التهديدات العابرة للدول.
أشاد ترمب بالحكام المستبدين وأهان الحلفاء. بينما يتصدر جدول أعمال جو بايدن الضغط باتجاه إصلاح العلاقات المتوترة، لاسيما مع الناتو، والانضمام للتحالفات الدولية من جديد.
غير أن دانييل بليتكا من معهد أمريكان إنتربرايز المحافظ ترى أن الأمر يتعلق بالشكل فقط لا بالمضمون. وتعتبر أن إدارة ترمب حققت الكثير على الساحة الدولية، وتتساءل "هل فقدنا أصدقاء نذهب معهم إلى الحفلات؟ نعم، لا أحد يريد أن يذهب إلى الحفلات مع دونالد ترمب. لكن هل فقدنا القوة والنفوذ بالمقاييس المهمة على مدى السبعين عاما الماضية؟ لا".
يوم السبت 16 يناير 2021 وحسب مذكرة لكبير موظفي البيت الأبيض الجديد رون كلين، حصلت عليها وسائل إعلام أمريكية سيوقع جو بايدن، على عدد من القرارات التنفيذية فور تسلمه منصبه، يوم الأربعاء 20 يناير، ومن ضمنها ستكون إلغاء حظر السفر على دول ذات غالبية مسلمة، وعودة الولايات المتحدة إلى اتفاقية باريس للمناخ ومنظمة الصحة العالمية وقرار تنفيذي بإلزام ارتداء الكمامات في المؤسسات الفدرالية وعلى متن وسائل النقل بين الولايات.
وسيصدر بايدن تعليماته بلم شمل الأطفال الذين فصلوا عن أسرهم على الحدود مع المكسيك في نطاق إجراءات الرئيس السابق ترمب حول الهجرة.
مساومات غير مجدية
وكالة "بلومبيرغ" للأنباء ذكرت في تحليل لها، يمكن لفريق الأمن القومي التابع لبايدن أن يبدأ، بعدم القيام بأشياء غبية. فالتعريفات الجمركية، التي فرضتها إدارة ترمب على منتجات عديد من الدول الحليفة كانت هزيمة ذاتية لأمريكا، وبالتالي يجب على بايدن إلغاؤها، والتوقف عن استهداف أصدقاء محتملين لأمريكا مثل فيتنام باتهامات تجارية مشكوك فيها.
كما يجب عليه إنهاء المساومة غير المجدية حول تكاليف نشر القوات الأمريكية في اليابان وكوريا الجنوبية. وعليه أن يستمع إلى الحلفاء ويتشاور معهم ويشارك في قممهم حول مختلف القضايا مثل الحد من انتشار التكنولوجيا الصينية.
وبحسب "الألمانية"، سيرحب أصدقاء أمريكا بالعودة إلى الحنكة السياسية الأمريكية الرصينة والمبدئية، لكن قلة منهم ستتبنى ببساطة أجندة بايدن. فبعضهم سيسعد برؤية الولايات المتحدة تتحمل عبء مواجهة خصوم مثل روسيا والصين. وبعضهم الآخر سيميل إلى التركيز على حماية مصالحه الخاصة مدفوعا بحالة الخوف، التي أوجدتها أعوام حكم ترمب الأربعة، كما فعل الاتحاد الأوروبي أخيرا في توقيع اتفاقية استثمار مع الصين. وسيسعى منافسو الولايات المتحدة إلى توسيع كل شرخ بين واشنطن والعواصم الصديقة لها.
ويتعين على بايدن إظهار التزام جديد بالأطر متعددة الأطراف حتى يمكنه حشد الدعم للمواقف الأمريكية في القضايا الأشد صعوبة. من المرجح أن تساعد الدول الآسيوية في التصدي للممارسات التجارية الصينية إذا فتحت الولايات المتحدة أسواقها الخاصة أمام هذه الدول كجزء من شراكة جديدة عبر المحيط الهادئ. قد يكتسب ضغط واشنطن لإعادة كتابة قواعد منظمة التجارة العالمية مزيدا من الزخم إذا لم تمنع الولايات المتحدة تعيين مدير عام جديد وقضاة استئناف جدد فيها، حيث يمنع الفيتو الأمريكي الحالي على هذه التعيينات، المنظمة من القيام بدوره بشكل فعال.
وعلى الإدارة الأمريكية الجديدة السعي لتحقيق بعض المكاسب السريعة، وعلى بايدن أن يتحرك للاستفادة من أي فرص أخرى فيساهم في تمويل التحالف العالمي لتوفير لقاحات فيروس كورونا المستجد "كوفاكس"، وينسق مع الاتحاد الأوروبي من أجل الوصول إلى منهج مشترك لفرض ضرائب الكربون.
وستكون هناك حاجة إلى صياغة تحالفات جديدة لمواجهة تحديات معينة، فمن غير المحتمل نجاح أي ضغط أمريكي على الحلفاء لعزل الصين على سبيل المثال.
فالدول التي تخشى طموحات الصين العسكرية تحتاج إلى الوصول لأسواقها، والدول التي تستنكر انتهاكات الصين لحقوق الإنسان تحتاج إلى المساعدة الصينية في مكافحة تغير المناخ.
ويجب على بايدن أن يكون منتهزا للفرص، وأن يوجه المجموعات ذات التفكير المماثل للتعاون في قضايا معينة، فإحدى هذه المجموعات مثلا تركز على التكنولوجيا، وأخرى تركز على تعزيز المعايير الديمقراطية، وثالثة مخصصة لإصلاح نظام التجارةالعالمية، وهكذا.
كما يتعين على بايدن فتح خطوط اتصال مع المنافسين كما يفعل مع الأصدقاء.
أخيرا، فإن المناطق، التي على الولايات المتحدة الانسحاب منها وكيفية حدوث ذلك لا تقل أهمية عن الكيفية والمناطق، التي عليها التدخل فيها.
ولكي تنجح الولايات المتحدة في كل هذا، يتعين عليها الاستثمار في الأدوات الصحيحة، ويجب إحياء دور وزارة الخارجية وتمكينها، وتعيين دبلوماسيين أكفاء ومنحهم الموارد، التي يحتاجون إليها. وعليها زيادة التمويل لوكالات مثل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية ومؤسسة تمويل التنمية الدولية الأمريكية، ما يوفر للدول النامية طريقا إلى الازدهار لا يعتمد على الديون الصينية.
ذكر جو بايدن إنه مستعد لإعادة الانضمام لاتفاقية دولية أخرى تخلى عنها الرئيس ترمب، وهي الاتفاقية التي قضت بتخفيف العقوبات المفروضة على إيران مقابل تقليص برنامجها النووي.
وكانت إدارة ترمب قد انسحبت منها عام 2018، قائلة إن الاتفاق أضيق من أن يتعامل مع التهديدات التي تمثلها إيران، وأضعف من أن يحد من النشاط النووي الذي ينتهي مفعوله مع الوقت.
وأعاد ترمب فرض العقوبات وواصل ممارسة الضغوط الاقتصادية، وردا على ذلك رفعت إيران بعض القيود على نشاطها النووي.
يقر بايدن إن سياسة "أقصى ضغط" قد فشلت، ويؤكد أنها أدت إلى تصعيد كبير في التوتر، وأن الحلفاء يرفضونها، وأن إيران صارت الآن أقرب إلى امتلاك سلاح نووي، مقارنة بوقت وصول ترمب إلى البيت الأبيض.
ويقول إنه سيعاود الانضمام إلى الاتفاق النووي في حال عادت إيران إلى الالتزام الصارم به، لكنه لن يرفع العقوبات لحين حدوث ذلك. وسيسعى بايدن إلى التفاوض لمعالجة المخاوف التي يشترك فيها مع الرئيس ترمب وحلفاء أمريكا الآخرين.
أوهام معالجة الأزمة الاقتصادية
كتب جوزيف إي ستيجليتز في بروجيكت سنديكيت:
لا ينبغي أن تكون لدينا أوهام بشأن ما سيواجهه الرئيس بايدن. وآثار جائحة لم تفعل الإدارة المنتهية ولايتها كثيرا لمكافحتها. لن تلتئم الصدمة الاقتصادية بين عشية وضحاها، ودون مساعدة شاملة في وقت الحاجة الحرج هذا بما في ذلك دعم حكومات الولايات والحكومات المحلية التي تعاني ضائقة مالية، فإن الألم سيستمر.
سيرحب حلفاء أمريكا على المدى الطويل، بالطبع، بعودة عالم تدافع فيه الولايات المتحدة عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتتعاون دوليا لمعالجة المشكلات العالمية مثل الأوبئة وتغير المناخ. لكن، مرة أخرى، سيكون من الحماقة التظاهر بأن العالم لم يتغير بشكل أساسي. بعد كل شيء، أظهرت الولايات المتحدة نفسها على أنها حليف غير جدير بالثقة. صحيح أن دستور الولايات المتحدة ودستور الولايات الـ 50 نجا وحمى الديمقراطية الأمريكية من أسوأ دوافع سياسية. لكن كون 74 مليون أمريكي صوتوا لأربعة أعوام أخرى لترمب. ماذا قد تجلب الانتخابات المقبلة؟ لماذا يجب أن يثق الآخرون ببلد قد يتنكر لكل ما يمثله لمدة أربعة أعوام فقط من الآن؟
يحتاج العالم إلى أكثر من نهج المعاملات الضيق، وكذلك تفعل الولايات المتحدة. السبيل الوحيد للمضي قدما هو من خلال التعددية الحقيقية، حيث تخضع الاستثنائية الأمريكية حقا للمصالح والقيم المشتركة، والمؤسسات الدولية، وشكل من أشكال سيادة القانون لا تستثنى منه الولايات المتحدة. سيمثل هذا تحولا كبيرا للولايات المتحدة، من موقع هيمنة طويل الأمد إلى موقع مبني على الشراكات.
مثل هذا النهج لن يكون غير مسبوق. بعد الحرب العالمية الثانية، وجدت الولايات المتحدة أن التنازل عن بعض النفوذ لمنظمات دولية مثل البنك وصندوق النقد الدوليين كان في الواقع في مصلحتها الخاصة. المشكلة هي أن أمريكا لم تذهب بعيدا بما فيه الكفاية. بينما دعا جون ماينارد كينز بحكمة إلى إنشاء عملة عالمية وهي فكرة تجلت لاحقا في حقوق السحب الخاصة بصندوق النقد الدولي، طالبت الولايات المتحدة بحق النقض في صندوق النقد الدولي، ولم تمنح الصندوق القوة نفسها التي يتمتع بها. لكن حتى دون وجود شريك راغب في مجلس الشيوخ، فإن الرئيس يتمتع بنفوذ هائل في الشؤون الدولية. هناك كثير سيتمكن بايدن من القيام به بمفرده، بدءا على الفور.
ستكون إحدى الأولويات الواضحة هي التعافي بعد الجائحة، ولن يكون قويا في أي مكان حتى يصبح قويا في كل مكان. لا يمكننا الاعتماد على الصين للعب دور واضح في دفع الطلب العالمي هذه المرة، كما فعلت في أعقاب الأزمة المالية لعام 2008. علاوة على ذلك، تفتقر الاقتصادات النامية والناشئة إلى الموارد اللازمة لبرامج التحفيز الضخمة التي قدمتها الولايات المتحدة وأوروبا لاقتصاداتها. المطلوب، كما أشارت كريستالينا جورجييفا، المديرة العامة لصندوق النقد الدولي، هو إصدار ضخم لحقوق السحب الخاصة. يمكن إصدار نحو 500 مليار دولار من هذه الأموال العالمية بين عشية وضحاها فقط إذا وافق وزير الخزانة الأمريكي.
في حين أن الإدارة السابقة كانت تمنع إصدار حقوق السحب الخاصة، يمكن أن يمنحها بايدن الضوء الأخضر، بينما يؤيد أيضا مقترحات الكونغرس الحالية لتوسيع حجم الإصدار بشكل كبير. يمكن للولايات المتحدة بعد ذلك الانضمام إلى الدول الغنية الأخرى التي وافقت بالفعل على التبرع أو إقراض مخصصاتها للدول المحتاجة.
يمكن أن تساعد إدارة بايدن أيضا على قيادة الدفع لإعادة هيكلة الديون السيادية. يواجه عديد من الدول النامية والأسواق الناشئة بالفعل أزمات ديون، وقد يتبعها عديد من الأزمات قريبا. إذا كان هناك وقت كانت فيه الولايات المتحدة مهتمة بإعادة هيكلة الديون العالمية، فهي الآن كذلك.
في مجال التجارة، توفر منظمة التجارة العالمية الأساس الذي يمكن إعادة البناء عليه. اعتبارا من الآن، يتشكل نظام منظمة التجارة العالمية بشكل كبير من خلال سياسات القوة والأيديولوجية النيوليبرالية، لكن هذا يمكن أن يتغير.
لا يمكن لأي نظام تجاري أن يعمل دون وسيلة للفصل في النزاعات. من خلال رفض الموافقة على أي قضاة جدد في آلية تسوية المنازعات التابعة لمنظمة التجارة العالمية لخلافة أولئك الذين تقاعدوا.
على سبيل المثال، أدت إعادة التفاوض بين الإدارة الأمريكية بشأن اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية مع المكسيك وكندا، إلى إلغاء أحكام الاستثمار التي أصبحت من بين أكثر الجوانب الضارة للعلاقات الاقتصادية الدولية.
لن تكون هناك تداعيات
جاء في تحليل نشرته قناة الحرة الأمريكية خلال شهر نوفمبر 2020: لن يربح جو بايدن حتى لو سكن البيت الأبيض، ولن يخسر دونالد ترمب حتى لو خرج من رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية.
هذه النظرية التي تتحول، شيئا فشيئا، إلى قناعة لدى كثير من المراقبين السياسيين، لن تكون لها تداعيات على الداخل الأمريكي فحسب بل هي ستمتد إلى خارجها، أيضا.
إن "الترامبية" لم تكن، منذ بدايتها، ولن تكون، حتى يومها الأخير في البيت الأبيض، سوى تكاملية على هذا المستوى، انطلاقا من أن الرؤية للداخل الأمريكي مرتبطة ارتباطا وثيقا بالرؤية الخارجية.
وهذا يشير إلى أن انتقال البيت الأبيض من عهدة ترمب الى عهدة بايدن لن يكون له تأثيرات "جوهرية" على السياسة الخارجية الأمريكية.
وإذا كانت "النقاط الحارة" في الشرق الأوسط، اعتادت الرهانات الخاسرة على التغييرات في البيت الأبيض، فإنها، في أماكن أخرى في العالم، بدأت تتعاطى، بشيء من "الخشية" مع هذه التغييرات.
إن دولا أوروبية، مثل فرنسا مثلا، على الرغم من "استيائها" من سياسات ترمب وتوتر العلاقات معه، باتت تعتبر أن بايدن سيعيد واشنطن لاعبا مؤثرا في "الاتحاد الأوروبي"، بالاعتماد على أسلوبه، من دون أن يغير، بالمحصلة، في النظرة الأمريكية إلى موقع أوروبا على الخارطتين الإقليمية والدولية.
وكانت فرنسا، على سبيل المثال لا الحصر، قد استفادت من "أسلوب" ترمب، من أجل أن تلعب دورا قياديا في "الاتحاد الأوروبي"، تحت عنوان توفير أكبر قدر من الاستقلالية عن الولايات المتحدة الأمريكية.
وتسعى فرنسا وألمانيا، حتى قبل حسم نتائج الانتخابات الأمريكية، إلى إقناع شركائهما الأوروبيين، بوجوب عدم الرهان على "أسلوب" جو بايدن "الهادئ"، لتغيير السياسة التي اتفقوا سابقا على إتباعها حيال واشنطن، على اعتبار أن "الترامبية" راسخة في الولايات المتحدة الأمريكية، وليست مجرد "صدفة عابرة".
ترك ترمب البيت الأبيض، ليس حدثا مفرحا لا للصين ولا لروسيا، إذ إن هاتين الدولتين تعرفان أن التحديات الحقيقية التي تواجههما في علاقتهما مع الولايات المتحدة الأمريكية ليست "مسألة ظرفية" بل حقيقة جوهرية. الأمر نفسه يسحب نفسه على الشرق الأوسط.
ثمة من نسي، مثلا، أنّه حين وصل ترامب إلى البيت الأبيض، هللت دمشق لذلك، على اعتبار أن المواقف التي كانت تتخذها منافسته في الانتخابات الرئاسية هيلاري كلينتون، بالمقارنة مع المواقف الانتخابية لترمب، كانت قاسية جدا وخطرة للغاية.
إعادة عقارب الساعة إلى الوراء
بالنسبة لإيران، ولو كان صحيحا أن بايدن، يعارض الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي، إلّا أن الصحيح أيضا أنه، ولأسباب كثيرة، لا يستطيع أن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء.
وسوف تستفيد إدارة بايدن مما تسببت به "عقوبات ترمب" لتفرض اتفاقا جديدا على إيران "المرهقة"، بما يراعي شروط الاستقرار الإقليمي كما تريده واشنطن.
وبهذا المعنى، فإن بايدن سوف يذهب، بأسلوبه، إلى حيث كان يخطط ترمب، بأسلوبه، أن يصل إليه.
ومهما كانت نظرة بايدن إلى الدول الخليجية، إلّا أن العلاقات التي أقامها ترمب مع هذه الدول، بنت نفسها على "المصالح المشتركة"، وتاليا فهو سوف يجد نفسه، كالغالبية القصوى من الرؤساء الأمريكيين، أمام مصالح ضخمة لن يستطيع أن يقفز فوقها.
وثمة تطور كبير لا بد من أن يفرض نفسه على الإدارة الأمريكية الجديدة، وهو "اتفاق إبراهيم" الذي أعاد خلط الخارطة الإستراتيجية في المنطقة، وذلك على قاعدة تفاهم إسرائيلي خليجي يأخذ عاملين في الاعتبار: إيران وتهديداتها، وتركيا وخططها.
وبغض النظر عن أن جو بايدن ليس باراك أوباما، فإن عهد ترمب شهد تغييرات أساسية في الشرق الأوسط.
ذلك ان قيادة رجب طيب أردوغان انتقلت من مرحلة "صفر مشاكل" إلى مرحلة "كل المشاكل"، تماما كما انتقلت من مرحلة "التسامح الداخلي" إلى مرحلة "التشدد القمعي".
وهذا يعني أن النظرة الأمريكية إلى تنظيم الإخوان المسلمين في العالم العربي، التي بنت نفسها على "التجربة الأردوغانية"، قد تلاشت، حاليا، الأمر الذي سوف يسمح، ولو تغير الأسلوب، لواشنطن إن حكمها بايدن، أن تبقي على ثوابت العلاقات التي أرساها ترمب مع الدول العربية عموما ومع دول الخليج خصوصا.
وإذا كان "الاستقرار الإقليمي" سيفرض نفسه على أجندة بايدن في التعاطي مع إيران، فهذا يعني أن النظرة الأمريكية إلى "حزب الله" في لبنان، لن تشهد أي تغييرات.
وفي موضوع "حزب الله" لا توجد فوارق كبيرة بين الجمهوريين والديموقراطيين، أو بين دونالد ترمب وجو بايدن.
ونظرة بايدن إلى لبنان، يعرفها رئيس الجمهورية السابق ميشال سليمان الذي اجتمع، خلال ولايته الرئاسية، ثلاث مرات، بمن كان، في حينها، نائب الرئيس الأمريكي.
ويكشف سليمان أن بايدن، كما هو مدون في محاضرات هذه اللقاءات، ضد سلاح "حزب الله" وأدواره،" جازما له أنه" لن تكون هناك أي تسوية مع أي دولة في الشرق الأوسط على حساب لبنان، بل من أجل لبنان المستقر والآمن والقوي بجيشه ومؤسساته".
لم تعد قائدة للعالم
على الصعيد الخارجي يسجل أن التواقين لاستعادة واشنطن للنفوذ الذي كان لها قبل تولي ترمب الحكم سنة 2017 يروجون لنفس المواقف الشرق أوسطية التي اتخذها سادة البيت الأبيض خلال فترة حكم أوباما وقبله أو ما يوصف بسياسة القوة الناعمة والتي قادت إلى الفوضى.
نشرت مجلة "ذي نيشن" الأمريكية مقالاً للأكاديمي الأمريكي جيمس زغبي، يتحدث فيه عن الحاجة الماسة إلى تصحيح مسار تعامل واشنطن مع قضايا الشرق الأوسط، تزامنا مع رحيل إدارة ترمب.
وقال زغبي إنه في وقت تشرع خلاله إدارة بادين المنتظرة في صياغة نهجها المتبع في تعاملها مع منطقة الشرق الأوسط يجب توضيح عديد من الأشياء، أولها أنه لا يمكن ببساطة العودة إلى الوضع السابق، "بإعادة إحياء الاتفاق النووي أو استئناف محادثات السلام الفلسطينية الإسرائيلية". وأوضح أنه يجب إيلاء الاعتبارات إلى الحقائق الجديدة حول المنطقة، ويجب تعلم الدروس من إخفاقات الماضي، حسب تعبيره.
يرى زغبي أنه من المهم الاعتراف بعدم امتلاك الولايات المتحدة الدور القيادي المهيمن الذي كان لديها قبل عقدين من الزمان، وإن كانت لا تزال تبقي على مواطن القوة والموارد الهائلة، فثمة أطراف فاعلة إقليميا وعالميا ومن بينها روسيا والصين وإيران وتركيا وإسرائيل والسعودية والإمارات ومصر، تنخرط في المناطق الساخنة حول الشرق الأوسط، انخراطا يتسم بتنوع تركيباته في ليبيا وسوريا والعراق ولبنان واليمن والصومال، وسباق الموارد في شرق المتوسط، وتدفق السلع عبر الخليج والبحر الأحمر.
ولعل ما يحدث الآن حول المنطقة لم يصل بعد إلى حجم الحربين اللتين دمرتا أوروبا، ولكنه الوقت الملائم للتعامل مع هذه الصراعات المتصلة حول الشرق الأوسط، كما لو أنها تساوي حربا إقليمية أو عالمية. وأضاف زغبي: "من الأهمية بمكان الاعتراف باستحالة انتقاء سفاسف الأمور والتعامل مع القضايا مجزأة". فبدلا من محاولة التعامل مع كل صراع إقليمي على حدة، سيكون الأكثر حصافة للولايات المتحدة أن تتعامل مع أطراف مجموعة 5+1، المكونة من الأعضاء الخمسة الدائمين بالأمم المتحدة، إضافة إلى ألمانيا، لبناء دعم دولي من أجل نظرة شاملة لحل الأزمات المتصلة التي تمزق الشرق الأوسط في الوقت الحالي.
ينبغي أن يكون الهدف وراء هذا هو عقد مؤتمر دولي يضم كل الأطراف تحت رعاية الأمم المتحدة. ويمكن أن يكون الموضوع الرئيسي على رأس جدول الأعمال، تأسيس إطار أمني إقليمي أي شيء مماثل لنسخة الشرق الأوسط من منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، يقدم لجميع الدول ضمانات أمنية مقترنة بالتزامات بعدم التدخل وعدم الاعتداء. ويمكن كذلك أن يعمل على تأسيس هيكل إقليمي يعزز التجارة والاستثمار ومزيداً من التكامل الاقتصادي.
فضلاً عن أنه سيشكل منصة دائمة للحوار وحل الصراعات، يمكن لمثل هذا المؤتمر الدولي أن يقدم مظلة لفرق العمل المختصة بالمتابعة، حيث يمكن لجميع المشاركين ذوي الصلة أن ينخرطوا في جهود معالجة كل القضايا المثيرة للقلق في المنطقة. على سبيل المثال ستكون هناك حاجة لوجود نقاشات مركزة حول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والحروب المستعِرة في سوريا واليمن وليبيا، والتخلص من أسلحة الدمار الشامل، والدور الذي يضطلع به التطرف الطائفي، وضمانات التدفق المجاني للبضائع والموارد عبر الطرق المائية في المنطقة.
تبني نهج إقليمي
يقول زغبي، قد تحجم أطراف عن الجلوس مع أطراف أخرى، ولكن مع اعتزام الولايات المتحدة والمجتمع الدولي تبنِي هذه الجهود، ومع استخدام الضغط والحوافز يمكن إحضار هذه الأطراف إلى طاولة المفاوضات.
إذ إن العمل الذي نفذ خلال إدارة جورج بوش لحشد دعم دولي موسع عام 1990، ثم مع نهاية الحرب عقد مؤتمر مدريد للسلام رغم رفض إسرائيل والعرب في البداية، ومحاولات إدارة أوباما لحشد مجموعة 5+1 للتعامل مع البرنامج النووي الإيراني، تقدم جميعها دروسا واضحة يمكن أن تنطبق هنا.
على سبيل المثال، تطلب دفع الإسرائيليين للموافقة على المشاركة في مؤتمر مدريد استخداما عبقريا لسياسة العصا والجزرة، كانت المشكلة أن واشنطن بدت كما لو أنها استنفدت ترسانتها من سياسة العصا والجزرة من أجل إحضار العرب والإسرائيليين إلى مدريد وحسب. ومع نفاد الأسهم من جعبة الرامي الأمريكي الساعي لإقناع كافة الأطراف خلال المفاوضات اللاحقة تعثرت هذه الجهود.
وقال زغبي إن التركيز على موضوع البرنامج النووي الإيراني وحده وتجاهل تدخل إيران في الشؤون الإقليمية للبلاد الأخرى، أدى إلى تفاقم انعدام الأمان بين دول الخليج العربي، التي ينتابها القلق من دور إيران في العراق وسوريا ولبنان، وفي اليمن على وجه الخصوص.
وفي ظل تطور الأوضاع خلال السنوات الخمس الماضية، التي شهدت عدم تقلص التورط الإيراني في الصراعات الإقليمية، وكذلك تكثيف القصف السعودي لليمن بمساعدة الولايات المتحدة، يتضح حسب الرؤية التي عرضها زغبي، أن أفضل استخدام لقدرات ونفوذ مجموعة 5+1 ومجلس الأمن ربما يكون تبني نهج إقليمي أوسع.
سيكون المضي قدماً في مثل هذه الجهود صعبا بلا أدنى شك، بل وقد يقابَل بالرفض في البداية من جانب "المتشددين" في بعض البلاد والحكومات، لكن هذه الجهود تحمل ميزات تفوق البدائل الأخرى. نظرا إلى أن جميع هذه الصراعات ينخرط فيها البعض، من نفس الأطراف الإقليمية المتناحرة، فإن العمل الجزئي عن طريق معالجة كل صراع على حدة، كما لو أنها ليست إلا نتيجة اضطرابات داخلية سوف يسفر عن سلسلة من الطرق المغلقة على نحو محبط. بعبارة أخرى، يقدم التفكير العميق الموسع تحديات عسيرة، لكن الاعتراف بترابط صراعات المنطقة يحمل في جعبته إطلاق العنان لبذل الطاقات الدبلوماسية بدلا من الاستمرار في هذه الصورة العقيمة من التعامل مع صراعات المنطقة، كل على حدة، ربما لعشر سنوات أخرى.
ويرى زغبي أن ثمة ميزة أخرى يحملها التفكير العميق الموسع، وهي أنه قادر على المساعدة في الدفع برؤية واعدة أكثر إشراقاً لمستقبل المنطقة. وأوضح أن استطلاعات الرأي في مؤسسة زغبي لخدمات البحوث تشير إلى أن الشعوب في الشرق الأوسط تريد وحدة إقليمية واستثمارا في المستقبل، ما يجلب السلام والرخاء.
لقد عاصرت الشعوب حروبا كافية، وتريد فرص عمل، وتعليمامتطورا، ورعاية صحية، ومستقبلا أفضل من أجل أطفالهم. واستنتج أنه إذا استطاعت إدارة بايدن، من خلال العمل في إطار العمل الخاص بمجموعة 5+1، أن تخطط لرؤية مقنعة من أجل مستقبل أكثر إشراقا، ثم تضع ثقلها الدبلوماسي وراء حشد الأطراف الرئيسية عالميا وإقليميا، ولو حتى لبذل المحاولات، فقد تشكل مصدر إلهام جيدا لائتلاف فعال من قادة المنطقة ومشكلي الرأي العام، للمطالبة بتغيير مسار الدوامة الحالية التي تؤدي إلى التدهور والانحدار.
عمر نجيب