نفث الرئيس الفرنسي أحقاده ضد الإسلام والمسلمين، وصرح عن وعي أو عن جهل أن الإسلام دين مأزوم. والمفروض في الرئيس الفرنساوي أنه علماني وغير مختص بالشؤون الدينية ولا يدخل في مزاودات دينية أو ترجيح دين على آخر. وواضح من التصريح أن الرئيس الفرنسي ليس عالما بالأديان، ولم يكلف نفسه في التمحيص والتدقيق قبل إثارة رأي عام إسلامي ضده. ومن الواضح أيضا أن العقلية الاستعمارية ما زالت تعشش في رأس الامبراطور الفرنسي، ولا يرغب في إزاحة كراهية تقليدية من أدائه السياسي والثقافي.
ليس من السهل وصف دين بالمأزوم، فالأديان ذوات أعمار طويلة، وساهمت مساهمة كبيرة في تنظيم المجتمعات بإقامة علاقات رتيبة ومتشابكة إلى حد كبير. أما من الممكن أن يكون أتباع الدين مأزومين. قد لا يتمكن أتباع الدين من تجديد أفكارهم وتقاليدهم الدينية، وقد ينفصلون عن الواقع بسبب تخلف رؤاهم الدينية عن التطورات الحضارية والمتطلبات الإنسانية المعقدة والمتصاعدة باستمرار. رجال الدين في الغالب وهم الذين يشرحون للناس تعاليم ديانتهم لا يؤمنون بالتجديد ولا مراجعة ما هم عليه من فقه ديني وفتاوى، وهم عادة يرون القدسية في الماضي، وفي المستقبل شر يجب عدم التعامل معه. العالم يسير إلى الأمام، والأوضاع الثقافية والفكرية في حالة تغير مستمر، والتاريخ لا يثبت عند نقطة معينة، وهم يحاولون في الغالب الهروب من الحاضر ومعاداة المستقبل، فيصنعون بذلك أزمات لأنفسهم ولغيرهم، ويسيئون للديانة التي يدعون إلى التمسك بها.
لا تختلف الساحة الإسلامية عن الساحات الدينية الأخرى في مختلف أنحاء العالم. تمسك المسلمون بمقولات فقهية كانت نتاج البيئة والحدود المعرفية التي صدرت فيها الفتوى، ولم يعترفوا إلى حد كبير أن الفتاوى تتطور وتتغير تبعا لتطورات البيئة الثقافية والفكرية والحدود المعرفية لٌلإسان، وبقوا يرددون ما قدمه فقهاء مشكورين من اجتهادات. عدد لا بأس به من الفتاوى كانت مجرد اجتهادات وهي أحكام فقهية وليست بالضرورة أحكام شرعية تستند إلى نصوص قاطعة مانعة. الاجتهادات في الغالب أحكام فقهية تستند في أكثر الأحيان إلى الحدود المعرفية للفقيه ضمن البيئة التي يترعرع فيها ويتعامل معها. وبسبب عدم التجديد وضعف الرؤى المستقبلية، ركز أغلب فقهاء المسلمين على الاجتهادات في مختلف تفاصيل الحياة بحيث حولوا الدين الإسلامي إلى كم فقهي هائل على حساب البعد الفكري. غابت الأبعاد الفكرية وغاب المفكرون المسلمون إلى حد بعيد بسبب مقاومة الفقهاء للقضايا الفكرية، وتبعهم أغلب الناس بسبب سطوة الفقه الإسلامي على الفكر الإسلامي الذي لم يتبلور بعد. ولهذا انفصلت أعداد غفيرة من المسلمين عن الواقع العالمي وسادت مشاعر الغضب والكراهية لهذا الواقع دون أن يطوروا بديلا علميا متطورا مقنعا يشكل تحديا لواقع رأوا فيه الضلال والهدم للأبعاد الإنسانية.
فضلا عن أن المسلمين تعرضوا لقهر وظلم عظيمين من قبل الاستعمار الغربي والأنظمة العربية والإسلامية الاستبدادية القهرية. تآمر أهل الغرب على المسلمين والعرب وعملوا على تمزيقهم وتدمير عراهم، وصناعة الحروب فيما بينهم. مزقوا الوطن العربي، وحرضوا الموتورين على وضع نظريات وأفكار إسلامية إجرامية، ونهبوا الثروات، وسلطوا الصهاينة على الأمتين العربية والإسلامية، ومنعوا عنهم التطوير العلمي والتقني وأصروا على إقامة أنظمة عربية وإسلامية تابعة لهم على حساب مصالح أهل المنطقة العربية الإسلامية. وشجعوا أنظمة الدول، بل أجبروهم، على تبني مناهج تدريسية وإعلامية وتثقيفية تتسم بالتعصب والكراهية وكراهية الآخرين وإقصائهم وذلك لزيادة حدة التباعد والافتراق الاجتماعيين وتسهيل عمليات الاقتتال الداخلي. لقد تبدلت الثقافة العربية الإسلامية بصورة خطيرة منذ العام 1945 وفقا للرغبات الاستعمارية ورضوخ الأنظمة التي لولا الاستعمار لما كانت، والدليل الأكبر على ما أقول هو إنشاء الغرب بخاصة الأمريكيين بالتعاون مع أنظمة عربية تنظيمات إرهابية تعمل باسم الإسلام.
من المنطقي ومن التفكير العلمي السليم أن ينظر المرء إلى واقعه ويفكر في أساليب ووسائل التغيير لكي يحافظ على نفسه وعلى مسيرته نحو الأمام. لكن يبدو أن الواقع المرير الذي تبلور عبر عشرات السنين دفع بعض المسلمين نحو الظلامية بدل أن يدفعهم نحو النور، فعملوا على مواجهة الظالمين من استعمار وأنظمة عربية بذات الطريقة التي خبروها عبر الزمن، وذلك بالسوداوية والتوحش والهمجية إلى أن أعطوا صورة قاتمة عن الإسلام والمسلمين. الأعمال الإجرامية والوحشية ليست من التعاليم الإسلامية، ولا يقرها الإسلام، لكن الإسلام يدعو إلى الدفاع عن الذات وعدم الاستكانة للظالمين والاستبداديين الذين يقهرون شعوبهم. لقد فاض كيل الظلم والقهر لدى العديد من المسلمين فطفقوا يقتلون ويشردون ويحرقون ويبعدون أنفسهم عن تحقيق إنجازات يرغبون برؤيتها. لقد كان حراك بعض الفئات الإسلامية وبالا عليها وعلى غيرها من الناس. لم تكن لدى هؤلاء فطنة أو ذكاء بالقدر الكافي الذي يواجه الظالمين بدون المساس بصورة الإسلام.
وأشخاص مثلي يهتمون بقضايا الفكر الإسلامي والتجديد الإسلامي وجدوا أنفسهم عراة من الناحية الفكرية بعد أن أساءت تنظيما إسلامية للإسلام والمسلمين. جربنا طرح رؤية فكرية تجديدية لبعض الممارسات الإسلامية التي هي غير إسلامية، لكن كل ما طرحناه من أفكار تبخر أمام مسلم يذبح شخصا أمام عدسات التصوير التلفزيوني.
حالنا بائس ويحتاج إلى جهود عظيمة حتى تتغير صورتنا أمام أنفسنا وأمام العالم. وعلى الرئيس الفرنسي ألا يتجاهل مشاركة فرنسا في إلحاق الظلم والقهر بالعرب والمسلمين على مدى عشرات السنين. فأهل الفرنجة ليسوا اقل تأزما من المسلمين. وحضارة أهل الغرب، على الرغم مما قدمته من مخترعات سهلت معيشة الإنسان، أغرقت العالم كله في تبعات ومسؤوليات وأزمات ثقيلة عقدت الأوضاع النفسية للأفراد والأمم.
د. عبد الستار قاسم ،كاتب واكاديمي فلسطيني