كانت الرسالة التي صاحبت مقالي عن ( من نحن ) لرأي اليوم بتاريخ 6/9/2020 بأن هذا هو اخر مقال لي في رأي اليوم مع أني اعتبرها جزءا من تاريخي، وذلك لأني أعاني من الكتابة حيث ان قوة نظري قد وصلت الى 5% فقط . وبعد مداولة لم تدم طويلاً مع رأي اليوم وعزيزنا الاخ عبد الباري عطوان ظننت اني سأكتفي بالكتابة المتباعدة ما بين الواحدة والاخرى الى ان يقضي الله أمراً كان مفعولا . الا اني أجد أن الاحداث المتدافعة والمواضيع الهامة كتعريف هويتنا تجرّني جراً الى الكتابة في عصف فكري يتم عبر رأي اليوم مع نخبة من الاخوة الكتّاب والمعلقين المشهود لهم بالوطنية والاخلاص لقضايا الامة ، علماً بأن مثل هذا العصف الفكري يثري الموضوع حيث لا يفسد اختلاف الرأي للود قضية ما دام الجميع يهدفون للمساعدة في الخروج من وضعنا المخزي الذي نعيشه هذه الايام .
**
تم تقزيم هويتنا من اسلامية الى (أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة) ولم يتم تحديد ما هي هذه الرسالة بالرغم من السؤال المتكرر ولربما ( استحى ) منظروا هذا الفكر من القول انه الاسلام ، او لعل هناك امر اخر في نفس يعقوب ! ثم زاد التقزيم لتصبح هويتنا قومية سورية للهلال الخصيب فقط ولا شأن لنا بفراعنة مصر وبربر شمال افريقيا . ثم زاد تقزيمنا لتصبح مصر اولاً والاردن اولاً والعراق اولاً ثم قبيلتنا اولاً وعائلتنا اولاً ومشيختنا اولاً وحارتنا اولاً و ( فلسطين ليست قضيتي !) اولاً وثانياً وثالثاً .
اتفق المؤرخون الموضوعيون أن العرب قبل الاسلام كانوا أعراباً تقاتل القبيلة القبيلة الاخرى 40 سنة من أجل ناقة ، ووجد المستشرقون الباحثون ان الاعراب بعد الاسلام أصبحوا عرباً مسلمين أصحاب رسالة عالمية خالدة ، وقرروا ان العرب المسلمين بدون اسلام سيرجعون أعرابا الى جاهليتهم الاولى كما هو حالنا اليوم . واتفق اكثر المؤرخين الموضوعيين ان الاسلام هو دين عبادة وفلسفة حياة قوامها العدل والوسطية سمحت بالملكية والابداع الفكري الشخصي وحددت قواعد اقتصاد قوامه العدل الاجتماعي والملكية العامة للمرافق العامة فأصبح للاسلام ايديولوجيته وفلسفته الخاصة .
في العصف الفكري الذي دار في رأي اليوم اتفق جميع المحاورين في هذا الموضوع ان حزب الله قد وجد وحدد هويته ، وان تحديد الهوية قد جعل منه قوة اقليمية بعد ان كان منتسبوه من الشيعة اقلية مهمشة مظلومة . ولربما تم الاختلاف على تقدير الاولويات التي حددها حزب الله لنفسه . اذا كان حزب الله قد حدد هويته على طريقة ايران فقد قال دستور ايران ان سبب نجاح ثورتها بينما لم تنجح حركات التحرر السابقة كان نتيجة عقائديتها الاسلامية . وحددت هويتها بتغيير اسم الدولة الى الجمهورية الاسلامية الايرانية مما يعني انها وضعت الاسلامية قبل الايرانية اي ان اولا الاسلامية وثانيا القومية . وهكذا فأولويات حزب الله كانت اسلامية اولا وعربية ثانياً .
لو رأينا هويات حركات المقاومة ضد الاستعمار كحركة المهدي في السودان ، والمختار في شمال افريقيا ، وعز الدين القسام في فلسطين ثم قارنا حركات المقاومة اليوم في ايران وفي لبنان وفي فلسطين وفي اليمن لوجدنا القاسم المشترك بينها جميعا هو انها عقائدية اسلامية . وكمثال اخر اصبح في فلسطين تياران احدهما عقائدي اشعل اعظم واقوى ثورة تم تسميتها بالانتفاضة الاولى وقام فصيل (علماني ! ) اخر باخماد تلك الثورة، بل والاعتراف ب 78% من فلسطين بانها ملك لدولة اسمها اسرائيل مقابل ورقة تعترف لذلك الفصيل انه ممثل للشعب الفلسطيني ليقدم مثل تلك التنازلات ، ولم يتورع هؤلاء من ان يحولوا المقاومة الى مقاولة لخدمة وحماية الاستيطان والاحتلال .
ضمن العصف الفكري بموضوع (من نحن) جاء في احد المقالات :” ونحن اكثر حاجة لتعريف انفسنا على غرار الطريقة التي عرفت بها الدول الاوروبية نفسها ونجحت من خلال نصوص ومضامين دساتيرها الديمقراطية بعيدا عن السلطوية والعصبوية . فالتعريف الصالح والناجز لنا كعرب هو في الصيغة الدستورية التي تجعل شعب الدولة القطرية او الجمية بكامل تعدديتها واشكالها امة واحدة لا اقلية فيها ولا اكثرية ، وعلى نحو ما يلي في السياق ، فنحن اكثر تأهيلا لذلك بحكم تعاليم عقيدتنا…” أول ما يتبادر الى الذهن عند قراءة هذه الفقرة اذا كانت عقيدتنا هي التي تساعد على توحيد الهويات فلماذا لا تكون هي الهوية الجامعة علماً بأن الدولة القطرية ودساتيرها هي ادوات ادارية لتحقيق الايديولوجية التي تُركّب داخل تلك الدساتير فهي بدون ايديولوجية تبقى ادوات فقط لا تسمن و لا تغني من جوع .
كذلك فمفهوم الدولة القومية نشأ بعد اتفاقية peace of Westphalia التي انهت حرب الثلاثين سنة والتي تم التوقيع عليها سنة 1648. لكن هدف الاتفاقية بتحديد حدود دولة قومية لوقف الحروب لم ينجح فتبدلت وتغيرت الحدود بين الدول القومية الاوروبية نتيجة لحروب اقليمية ودولية كالحربين العالميتين الاولى والثانية . كما ان دساتير تلك الدول وحتى يومنا هذا لم تحقق العدالة الاجتماعية المطلوبة سواء بالدول الاوروبية او الولايات المتحدة ، حيث ان المهم هو عقيدة الدولة والتي كانت في حالات الدول الغربية هي العقيدة الرأسمالية والتي جعلت من 1-2% من شعوبها يمتلكون حوالي نصف ثروة كل بلد وأصبح المال هو صاحب القرار بمن يحكم ومن لا يحكم واصبحت الديمقراطية عبارة عن عملية ميكانيكية واصبح اصحاب المال هم اصحاب القرار وهم الدولة العميقة التي تأتي بالحكومات وبرامجها وتذهب بها . اذن فالدولة القومية في اوروبا او الولايات المتحدة ودساتيرها هي عبارة عن وسائل لتحقيق عقيدة هي في حالة الغرب الاوروبي الامريكي العقيدة الراسمالية والتي يتم تعريفها بانها يهودية مسيحية (Judeo-Christian ) فما هي العقيدة والايديولوجية التي سنُركّبها على الادوات المقترحة من دول قومية ودساتير ؟ هل هي الرأسمالية اليهومسيحية ام الاشتراكية ؟ ولم لا تكون فلسفة الحياة الاسلامية وحضارتها والتي عمادها كتاب سماوي يعترف بالاخر حتى لو لم يعترف الاخر به ويقول لهم دينهم ولنا ديننا فنحن نتكلم عن قوانين لتكفل العدالة الاجتماعية التي جاءت في مبادئ ديننا الذي كان ثورة سياسية اجتماعية عمادها العدالة .فمع ان دستور الولايات المتحدة ودساتير الدول القومية الاوروبية تتغنى بالديمقراطية وحقوق الانسان لم يصل للرئاسة الامريكية سوى البروتستانت بدءاً من جورج واشنطن حتى دونالد ترامب عدا جون كندي الذي تم اغتياله في منتصف ولايته ، علماً بان الكاثوليك مثلاً يمثلون حوالي ربع سكان الولايات المتحدة . كما ان دساتير الدول القومية الاوروبية والولايات المتحدة لم تأتِ بالمساواة ، فالعنصرية في الولايات المتحدة جعلت من مدنها ساحات حرب كما نرى ، والجاليات الاسلامية في فرنسا وفي بريطانيا تعيش منقوصة الحقوق في اسلامفوبيا لا تحتاج الى دليل وفي حركات تعصب عرقي تزداد قوة سواء في اوروبا او الولايات المتحدة ولا يخجل رئيس جمهورية ان يكون وصوله الى الحكم في الولايات المتحدة عن طريق المتعصبين البيض (White supremacy) او المهوسين الدينيين كالانجيليين يعطون اراضي الاخرين ( في فلسطين ) لعودة مملكة المسيح ، ثم يطلق بعضنا اننا كمسلمين نطالب بحضارتنا قد اصبحنا عصبويين متعصبين فئويين .
الاكذوبة والخديعة الكبرى ان المستعمرين قد علمونا ان علينا الاختيار بين حضارتنا العربية الاسلامية او هويتنا القومية . من قال ان هوية الحضارة الاسلامية العربية الجامعة لا تعترف بالقوميات ولا تحترمها مع ان نصوص القرآن واضحة بعكس ذلك ” وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ” . ومن قال ان الكردي والامازيغي يقبل بتسميته عربيا الا بقوة السلاح او بقوة العقيدة والحضارة المشتركة ؟
مفهوم الحضارة العربية الاسلامية مفهوم حضاري انساني واسع أعطتها المبادئ الاسلامية طاقة هائلة حولتها لتخرج المظلومين من ظلمهم . فالعهدة العمرية حمت واحترمت المسيحيين واديرتهم وطقوسهم وحقوقهم لقرون ، بحيث وقف المسيحي في بلاد الشام مع المسلم ليحاربا معاً الفرنجة الصليبيين . كما ان أهل اسبانيا دعوا المسلمين ليتخلصوا من طغاتهم ودعا نصارى اهل مصر المسلمين لتخليصهم من طغاتهم . ولما اعتدى ابن حاكم مصر على مواطن مصري استطاع هذا المظلوم ان يصل الى امير المؤمنين والذي قال لحاكم مصر :”متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم احرارا !”
نحن بحاجة الى تعريف انفسنا كأصحاب هذه الحضارة العربية الاسلامية التي شارك في تطويرها عبر التاريخ القوميات المتعددة والتي استطاعت ان تجمع وتمزج بين كل هذه القوميات المختلفة بما فيها الفارسية والعربية تحت هوية مشتركة ، وشارك في صنع هذه الحضارة الكردي صلاح الدين الايوبي والامازيغي طارق بن زياد والعالم الفارسي سيباويه والفقيه في الدين البخاري من اواسط اسيا . انها حضارة عولمة حميدة حتى حين كان الحمام الزاجل والحصان هما وسائل الاتصال .
**
والخلاصة :
نحن نتكلم عن حضارة اسلامية عمادها كتاب الله والسنة يتم ازالة ما لحق بها من عوالق وذلك بفتح باب الاجتهاد . نحن بحاجة الى توحيد الامة لا تفريقها عبر عصبيات عبثية . نحن بحاجة الى العربي والكردي والفارسي ليحارب تحت راية الكردي كصلاح الدين في معركة حطين لتحرير فلسطين، او تحت راية قوقازي كقطز في معركة عين جالوت مع المصري والشامي وابن بلاد الرافدين وابن بلاد فارس لتحرير فلسطين .
نحن بحاجة الى حضارة عربية اسلامية شارك في صنعها سائر القوميات التي قبلت بها كهوية جامعة تحترم الاديان على مبدأ لكم دينكم ولي دين يقبل جميع افرادها كل بدينه ، ولكن بفلسفة حياة جوهرها العدالة الاجتماعية والتي يحاربها الغرب اليوم كما قال سكرتير الحلف الاطلسي :” بأن الاسلام هو المنافس الاخطر للغرب واكثر منافسة حتى من الشيوعية ” . تاريخ قمع الرأي الاخر في( العالم الحر ) معروف كما في المكارثية.
اغنى الدول القومية اي الولايات المتحدة بها 55 مليون فقير حسب مكتب الاحصاء الفيدرالي الامريكي . لذا لم يحقق الغرب ولا دوله القومية ولا دساتيره لمواطنيه المساواة ولا العدالة الاجتماعية. ان نتعلم من الغرب علومه واساليبه الادارية فهو ليس امر مستحب بل انه واجب ، اما مبادئه العقائدية فهي ليست منا ونحن لسنا منها .
إن تمسكنا بفكرة الدولة القومية بالرغم من 100 سنة من التيه لم يأت لنا بجمهورية افلاطون الفاضلة وانما بجمهورية ميكافيلي بكل شرورها .
د. عبد الحي زلوم مستشار ومؤلف وباحث