هذا حديث تحفظت على تناوله طويلا لأنني أعرف أنه سيفتح عليّ أبواب جهنم، ومنطلقه الرئيس هو ما أدعو إليه منذ سنوات في مواجهة الرداءة التي تحيط بنا من كل جانب، بممارسة النقد الذاتي لمسيرتنا السياسية والثقافية والاقتصادية، بعد أن وصل الوطن العربي إلى حضيض الوجود الحضاري، حيث يمكن أن نرى من تأكل بثدييها وهي تتعالى على حرائر الوطن من أحفاد سمية وخولة ذات النطاقين.
ولن يكون الهجوم فقط من أنصار الحركة التي ولدت في أرض الكنانة في العشرينيات من القرن الماضي، والذين سوف يرون أن من النذالة وقلة الهمة أن يتناول مثقف وطني أخطاء الإخوان المسلمين الذين يمرون بوضعية مأساوية لم تعرفها حركة دينية منذ مذبحة “بارتيليميي” التي أمر بها شارل التاسع في فرنسا ضد البروتستانت عام 1572، والتي قتل خلالها آلاف من بروتستانتيي فرنسا على يد السلطات الكاثوليكية والمتعصبين من الكاثوليك .
والمفارقة الحقيقية هي أن أعنف الهجومات قد تأتي من أعداء الإخوان المسلمين التاريخيين، ممن يرون أن الحديث، ولو من باب النقد وحتى التنديد، هو ترويج لكلمتين تمثلان توجها يريدون له أن يختفي تماما من الوجود، ومن هؤلاء من سيحاولون إثارة الغبار حول قضايا جانبية تبعد النظر عن الموضوع الأساسي، وهو ما خبرته طوال سنوات الكتابة الصحفية.
ثم قررت أن أتناول الموضوع بعد أن عشت خمسة أحداث تربط بينها دلالة مشتركة.
كان الأول لوحة رفعتها جماعة سياسية عربية كُتب عليها: “بيننا وبين الإخوان المسلمين 14 قرنا من الزمن… لن يمروا”.
وكان الحدث الثاني منشورا أصدرته مؤسسة ثقافية جهوية في الجزائر يشير لعقبة بن نافع بتعبير: المُستعمر العربي، واضطرت المؤسسة للاعتذار عنه بعد أن رأت بارزة نيوب الليث الشعبي الجزائري.
وكان “الحدث” الثالث، بالمعنى الفقهي، ترحيب رجل دين موريطاني بما تم ارتكابه علنا بعد أن كان يُمارس في الخفاء.
وكان الحدث الرابع التشنج الذي عشناه إثر استرجاع مسجد “أيا صوفيا” ولا يمكن إلا أن أضعه في نفس السياق الذي سبق أن أشرت له في أحاديث سابقة، والذي انطلق مع الحروب الصليبية التي أشعل نارها البابا “أوربان” الثاني في القرن الميلادي الثاني عشر، والذي كان أسوأ منه مواقف إسلامية مخجلة، تفوقت في فجورها على التشنج الصليبي.
وكان الأمر الخامس هو تلك الصيحات التي ارتفعت إثر انفجار مرفأ بيروت، وهي تدعو الانتداب الفرنسي للعودة، متزامنة مع عودة الاتهامات لحزب الله، الذي فقد هالته الأسطورية بعد مواقفه دعما لنظام اعتمد التنكيل والقمع ضد شعبه، ولم يطلق رصاصة واحدة ضد ما كان ينادي بعدائه طوال السنين.
وسنجد أن معظم هؤلاء يتبارون في الهجوم على جماعة الإخوان المسلمين، ويدعون أنهم أكثر خطورة على الوطن العربي من الأشكيناز الذين لم تعرف لهم فضيلة واحدة منذ عقود، والذين أصبحوا حلفاء اليوم بعد سقوط اللاءات الثلاثة وتحول رجالها إلى رفات.
وهنا بيت القصيد، فالقضية لم تعد نقدا لجماعة سياسية، ولكنها أصبحت حربا حقيقية ضد كل ما يرتبط بالإسلام.
ولم يعُدْ سرا أن الغرب قد جعل من الإسلام والمسلمين فزاعة حلّت محل فزاعة الشيوعية منذ سقوط حائط برلين وتفكك الاتحاد السوفيتي وارتفاع العلم ثلاثي الألوان في الكرملين بدلا من العلم الأحمر بمنجله ومطرقته، ليكون كل ذلك ستارا لنشاط شركات الأسلحة ومعدات الأمن ومؤسسات النفط ومناجم الماس واليورانيوم وتلك المادة التي تستعمل في أجهزة الهاتف المحمول، والتي نسيت اسمها.
ولا يمكن أن ننسى أن الاستعمار الفرنسي حمل إلى الجزائر في يونيو 1830، إلى جانب ضباطه وجنوده، 14 قسيسا كانت مهمتهم استرجاع مجد روما المسيحية لصالح فرنسا الكاثوليكية، وكان رائدهم الكاردينال “لافيجري” الذي وصل إلى الجزائر سنة 1867 ليصبح كبير أساقفتها، وكان يرى أن تنصير الجزائر هو مفتاح تنصير القارة الإفريقية، التي أرسل إليها بالفعل عددا من البعثات التبشيرية، وهو ما جعل أتباعه يطلقون عليه “جاثليق” (كبير أساقفة) إفريقيا.
هي معركة إذن ضد وجودنا نفسه، وليس في هذا أي “بارانويا” أو مظلومية مفتعلة، ومن هنا فإن دراسة قضية الإخوان المسلمين هي أكثر من ضرورة، بعد أن ثبت أن هناك من يعمل على شيطنة شريحة كبيرة من شرائح المجتمع العربي، يجب أن نعترف أن قيادتها اجتهدت وأصابت واجتهدت وأخطأت، لكن التعامل معها يجب أن يتم بنفس المنطق الذي تعامل به الرئيس الشاذلي بن جديد مع التيار الإسلامي، والذي يجب ألا تحول الحماقات التي ارتكبتها قيادة هذا التيار بيننا وبين الاعتراف بحق كل اتجاه سياسي أن يعمل على سطح الحياة السياسية، بشرط أن يحترم قواعد العمل السياسي التي تقررها الدساتير الشرعية.
ومرة أخرى أقول بأن أكبر أخطاء التيار الإسلامي الذي عرفت مصر ولادته في العشرينيات من القرن الماضي هو أنه لم يقف يوما وقفة نقد ذاتي يصحح بها مساره ويُعدّل مسيرته.
ومرفوض أن نقوم بما يمكن أن يكون عملية جلدٍ للذات هدفها إرضاء هذا الاتجاه أو ذاك، لكن المرفوض أيضا التصرف على أساس تقديس للذات ينفي عنها كل خطأ.
ولعل أهم ما يثير الانتباه هو هذا الإجماع على إدانة الإخوان المسلمين واعتبارهم أس البلاء ومبعث الكوارث، وهو إجماع تقف فيه قيادات سياسية إسلامية في نفس الخندق الذي يقف فيه عتاة الصهيونية ودعاة اللائكية المشبوهة، والذي تبلور بشكل مأساوي إثر تولي الرئيس محمد مرسي حكم مصر، عندما بدا أنه يتجه، ربما بمزيج متفجرٍ من الإيمان والإخلاص والسذاجة والاندفاع، نحو بناء تكتل إسلامي عالمي، خلق حالة رعب لدى كل القوى الفاعلة (كل القوى الفاعلة) على الساحة الإقليمية والجهوية والدولية.
وفي حدود ما فهمته من متابعة الأحداث فإن الرئيس الشهيد كان يريد بناء حلف إسلامي يضم السنة والشيعة (مصر وإيران) ويتكامل فيه العرب وغير العرب (مصر وتركيا وإيران وربما ماليزيا) ويمكننا أن نتصور رد فعل الكيان الصهيوني تجاه قيام صرح كهذا، ويمكننا أن نتخيل رد فعل كل من كانوا يرون أنهم يجسدون الإسلام أكثر من غيرهم، وسواء كان ذلك من منطلقات جغرافية أو تاريخية أو فقهية أو سلطوية أو تبعية.
من هنا كان يجب أن يسقط محمد مرسي بكل ما يمثله، وأن يصبح شيئا أقرب لجمرات مكة، يرجمها كل من يبحث عن البركة العلوية.
وهنا أعود إلى القرن الماضي لأستذكر بعض ما عرفتُه آنذاك حول الجماعة التي أنشأها حسن البنا في العشرينيات، ولن أتوقف عند ما يدخل في نطاق العلاقات المصرية – المصرية الصرفة لأنني، من جهة، لا أملك كل معطياتها، ومن جهة أخرى أفضل ألا أثير حساسيات تحوّل الحوار الذي أسعى لاستثارته إلى جدل عقيم يضيع الهدف من هذه السطور.
وأنا أزعم أن أول تناقض بين الجماعة وقيادات عربية وإسلامية كان الموقف من الثورة الفلسطينية ضد الغزو اليهودي، وأقول ..اليهودي، الذي تنامى بعد قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين في 1947.
يومها، كان رأي قيادة الإخوان المسلمين، فيما عرفت، أن تدمير أطماع التوسع الصهيوني تكمن في تطوير مواجهة جهادية تعتمد أسلوب الحرب الشعبية، وهو ما تفاعل معه إيجابيا عدد من ضباط الجيش المصري الوطنيين الذين طلبوا عطلة بدون مرتب، وهي قمة الوطنية، للمشاركة في محاربة العصابات اليهودية، وكان على رأسهم ضابط عظيم اسمه أحمد عبد العزيز.
وراح الجميع يتكاملون مع نشاط الجهاديين الفلسطينيين الذين راحوا يستكملون جهاد عز الدين القسام ورجال النصف الأول من القرن العشرين، وكان على رأسهم عبد القادر الحسيني وحسن سلامة وفوزي القاوقجي، وربما كان هناك آخرون اختفت أسماؤهم تحت غبار السنين.
ولا بد للأمانة من التذكير بأنه لم يكن في مصر يومها من ينادي بدخول الجيش المصري النظامي الحرب ضد نواة الكيان الصهيوني، وسواء تعلق الأمر بالملك فاروق نفسه أو بكبار السياسيين المصريين وفي مقدمتهم رئيس الوزراء النقراشي باشا أو بقيادات القوات المسلحة، باستثناء ضابط نسيت اسمه، وربما كان المهدي باشا.
هنا، يجب أن نستنتج أمرا أراه أساسيا، وهو أن مخابرات أجنبية، بريطانية أساسا وربما بوجود صهيوني مؤثر، استطاعت أن تحقق اختراقا في كل المستويات، وخصوصا في طبقات اجتماعية معينة لها وجودها في مجال التأثير السياسي.
وربما كان الدليل على هذا الاختراق هو الأمر بإيقاف عمليات الإخوان المسلمين في فلسطين، والذي تزامن مع اغتيال أحمد عبد العزيز برصاصة جندي مصري لم يعرف اسمه حتى اليوم، وقيل يومها أن الجنرال العظيم نسيَ كلمة السر وهو يعود إلى معسكره ليلا.
وعاد رجال الجهاد الحقيقي، ضباطا وأعضاء في الجماعة وفدائيون مجهولي الاسم، إلى بيوتهم والإحباط يملأ النفوس والقهر يشلّ الألسن.
وأصبحت الكلمة العليا هي لمن كانوا يدعون إلى دخول الجيوش العربية في نفس يوم الإعلان البريطاني عن إنهاء الانتداب، أي 15 مايو 1948، وتزعم تلك الدعوة أمراء وملوك عرب، لم يكن سرّا أن بعض مستشاريهم كانوا من سلالة لورنس وأمثاله، وكانت تلك بداية الكارثة الحقيقية التي كان من نتائجها ارتفاع العلم الإسرائيلي في أبعد مكان كان يمكن أن نتوقعه.
وأستأذن في وقفة أختتم بها هذا الجزء من الحديث.
آخر الكلام:
الشاعر الرائع فاروق جويدة تفضل بالتعليق في “الأهرام” القاهرية على مقالي الأخير في هذا المنبر، والذي كنت تناولت فيه سطوره التي تتفجر منها المرارة إثر ضمور التضامن العربي مع مصر في قضية سدّ النهضة، وكان مما قاله في تعليقه:
“رغم أننى كنت واحدا من الذين رفضوا من البداية قضية السلام بين مصر وإسرائيل ومازلت، ولا أعتقد أن فى العمر متسع لكى أبنى مواقف وقناعات جديدة، فإننى أختلف مع كتيبة من المثقفين والمفكرين العرب الذين يعتقدون أن الرئيس السادات و معاهدة كامب ديفيد كانا وراء تفكك الصف العربى واختفاء ما كان يسمى العروبة، إلا أن السادات رحل من زمن بعيد ولم يكن مسئولا عن كل ما أصاب العرب من النكبات والكوارث.. وهنا وبكل الأمانة يجب أن نتوقف عند كل الأحداث الكبرى والكوارث التى أطاحت بالأمة لكى يتحمل كل طرف مسئوليته.. إن قائمة الأحداث التى لحقت بالعرب ودمرت كل الثوابت والأحلام لم تكن جميعها بسبب كامب ديفيد وأنور السادات وموقف مصر، رغم أننى ما زلت أرفض الاتفاقية وما ترتب عليها.”
وأنا أقدر حق قدره الموقف النضالي للأديب الكبير وأتفهم جيدا الوضعية التي يجاهد فيها بقلمه، وأكتفي هنا بالقول، بأن السدود العظيمة يمكن أن تنهار من أصغر شق في بنائها لتكتسح المياه المجنونة المتدفقة منها كل شيئ أمامها.
وهو يعرف أسباب ونتائج انهيار سد مأرب العظيم.
دكتور محيي الدين عميمور/ مفكر ووزير اعلام جزائري سابق