كان تصريح المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل غداة التوصل إلى اتفاق في بروكسل يلخّص في كلّ حنايا حروفه حجم المخاض والمعاناة في النقاشات التي دارت على مدى أربعة أيام ونيّف، ولأكثر من تسعين ساعة بين قادة الاتحاد الأوروبي للتوصل إلى اتفاق، فكان هذا التصريح نوعاً من البوح الشخصي لزعيمة مارست دورها بكلّ مسؤولية، آملة أن تكون قد أحسنت الاختيار لبلدها ألمانيا ولأوروبا في عالمٍ الصراعُ فيه على أشدّه بين الصين وأميركا على حجز موقع الريادة الاقتصادية، حيث قالت: "لقد توصلنا إلى تسوية مؤلمة لكنها مسؤولة".
وأضافت: "لست نادمة على أيّ من التنازلات التي قدمتها للتوصل إلى تسوية". والجميع يعلم أنّ الدور الألماني في التفاوض الاقتصادي جوهري في مستقبل الاتحاد الأوروبي؛ إذ لا مستقبل لهذا الاتحاد من دون ثقل ألمانيا، وقد كان تحالف (ميركل – ماكرون) وتصميمهما على التوصل إلى تسوية مهما بلغ الثمن، هما العامل الحاسم في التوصل إلى هذه التسوية، بينما كانت دول الشمال الثرية متحفظة على دعم دول الجنوب، لكن وبعد محادثات ماراثونية هي الأطول في تاريخ اجتماعات الاتحاد الأوروبي، أعلن الجميع سعادته بالتوصل إلى اتفاق.
وبرغم أنّ الاتفاق اقتصادي، إذ يسمح لأوروبا للمرة الأولى بالاقتراض لمدّ يد العون لدول الجنوب، ذهب أبعد من ذلك بكثير؛ فالتطورات العالمية اليوم تنبئ بأنّ العالم يتجه إلى عالم الأقطاب والمحاور المتعددة، وأنّ أيّ بلد لا يدخل في محور ما لن يكون له مكان في عالم المستقبل، ولهذا وإضافة إلى الورقة الاقتصادية، فقد توصّل القادة الأوروبيون جميعاً، وبعد تسعين ساعة من المفاوضات الصعبة وعشرات الخلوات واللقاءات الجانبية التي وصلت الليل بالنهار، إلى اتفاق قبل بزوغ شمس الثلاثاء الماضي؛ حيث توصلوا ولا شكّ إلى قناعة مفادها بأنّ اتحادهم وتعزيز دور وفاعلية هذا الاتحاد هما الخيار الوحيد الذي سيسمح لهم بأداء دور حقيقي في عالم المستقبل. وبهذه النتيجة التي شدّت من أزر الجميع ستكون المملكة المتحدة البريطانية هي الدولة الأخيرة التي تخرج من هذا الاتحاد، لأنّ ما تمخّض عنه هذا اللقاء يعني تجديد الإصرار والعزيمة على تمكين أوروبا وتعزيز دورها وأدائها.
وبعد الاتفاق مباشرة استقبل الرئيس الفرنسي ماكرون وزير خارجية قبرص، وتحدث عن عدم السماح بالعبث في الشأن الليبي والشأن الأوروبي في تنويه أكيد للسياسة الفجّة التي يتبعها إردوغان في ليبيا وفي تمكين الإسلاميين المتشددين في الدول الأوروبية وتهديدهم بورقة اللاجئين، ولذلك فمن المتوقع أن هذا الاتفاق بين أعضاء دول الاتحاد الأوروبي، والمساعدات السخيّة التي نصّ عليها لدول الجنوب وخاصة إيطاليا وإسبانيا، لن يطربا آذان الطاغية العثماني الذي أصابه الغرور وظنّ أنه القوة الضاربة التي لن يجرؤ أحد بعد اليوم في محيطه على تشكيل تهديد له. وقد تأتي الأيام المقبلة بأنباء غير متوقعة بين تركيا والاتحاد الأوروبي لأن الصراع بينهما عميق ومتشعّب؛ فهو على المصالح في ليبيا، وعلى النفط والغاز في الدولتين الأوروبيتين قبرص واليونان في المتوسط، وعلى القيم والأخلاق والمبادئ.
وفي الاتفاق الأوروبي إشارة إلى بعض الدول الشرقية أن عليها الالتزام بالقيم والمبادئ الأوروبية، ما يجعل من هذا الاتفاق ليس اتفاقاً اقتصادياً فقط على أهميته ما بعد كورونا، وإنما اتفاق على صحوة أوروبية أعادت قراءة التطورات العالمية وضاقت ذرعاً بالإملاءات الأميركية، وراقبت عن بعد وهي في ساعات الاجتماع زيارة وزير الخارجية الأميركي بومبيو للمملكة المتحدة، ودعوته الى إنشاء حلف في مواجهة الصين، وخاصة أن مؤشرات سياسات الدول الأوروبية، سواء تجاه الاتفاق النووي الإيراني أو تجاه الصين لا تشي بموافقة هذه البلدان على سياسة الولايات المتحدة والسير وراءها من دون أي قرار، وإذا كان الوقت لا يزال مبكّراً لنعلم إن كانت الأجندة الخفية وراء هذا الاتفاق هي إخراج الاتحاد الأوروبي من السير في ظلّ الولايات المتحدة، وإرساء سياسة شبه مستقلة له تؤدي دوراً أكثر إيجابية في خلق التوازنات وتجنب الحروب.
وبالرغم من اعتراضنا الشديد على معظم السياسات الأوروبية في منطقتنا، والعقوبات الجائرة التي يساهم فيها الاتحاد الأوروبي، وبيعه السلاح إلى الدول المعتدية على اليمن وسوريا وليبيا، وقراره الذي أثبت أنه كارثي بشأن ليبيا، إلّا أننا نتحدث هنا عن آلية عمل، وعن وعي قادة كتلة معينة للمتغيرات الطارئة على العالم، وتوجهاته المستقبلية، وحتمية الانضواء في كتلة إقليمية وازنة، أو الفناء. ذلك لأنهم، ومنذ اليوم الأول لولادة الاتحاد الأوروبي اعتمدوا مبدأ التفاوض والحوار إلى أن يجري التوصل إلى اتفاق؛ فأنا أذكر مسؤول المفوضية الأوروبية الإسباني مانويل مارين حين زار الرئيس حافظ الأسد وكانوا حينذاك يتفاوضون بشأن العملة الأوروبية والعلَم وأشياء كثيرة، وقال له بعد انقضاء الفترة المخصصة للاجتماع: "أوقف رؤساء الوفود الأوروبية ساعاتهم ووضعوها جانباً، وقالوا نحن هنا لنتناقش ونتفاوض إلى أن نخرج من باب هذه القاعة متفقين".
وأتذكر مشاعر الغصّة التي انتابتني وأنا أترجم هذا الموقف المهم للسيد الرئيس وأحاور ذاتي في الوقت نفسه بالقول: "لماذا لم يعطّل العرب ساعاتهم مرة واحدة في تاريخهم ويقرّروا أنهم لن يخرجوا إلا متفقين مهما بلغ الثمن؟". ومهما بلغ الثمن فهو رخيص جداً أمام ما يمكن أن يجنوه من توحيد مواقفهم واتفاقاتهم التي تعود عليهم جميعاً بالخير والفائدة، وتمنحهم وزناً إقليمياً ودولياً لا يمكن لأيّ منهم أن يصل إليه وحده. والسبب في عدم التوصل إلى اتفاقات جوهرية في تاريخنا هو انعدام لغة الحوار وانعدام الرؤية والبصيرة التي تدرك أن الأثمان مهما كانت مؤلمة فهي أرخص بكثير من أثمان عدم الاتفاق.
والقارئ لتاريخنا يرى أننا أسّسنا على إرث من انعدام الحوار وإلغاء الآخر، والشخصنة في كلّ ما ينبغي تحقيقه؛ فالشخص يرى نفسه أنه هو الذي يمتلك الحقيقة ولا يمكن لغيره أن يمتلك جزءاً منها، أو أن يساهم في إغناء رؤيته ومفاهيمه. ومنذ أن كتب الغزالي "تهافت الفلاسفة" وردّ عليه ابن رشد بكتابه "تهافت التهافت"، ومنذ أن أُحرقت كتب ابن رشد وأُلغيت مؤلّفاته من التراث العربي الإسلامي على مدى قرون، فقدنا بوصلة الحوار؛ فالهدف كان من تلك المناظرة الفكرية العميقة والراقية الاقتراب إلى أبعد مدى ممكن من الحقائق حول الكون والوجود والزمن والخالق، وبدلاً من هذا فقد أُحرقت كتب ابن رشد وتسلّل ما يمكن أن يتسلّل منها إلى الغرب، الذي درسه أيّما دراسة واستفاد منه أيّما استفادة. وبقي مناصرو الغزالي حتّى اليوم يقرأون الغزالي فقط برغم أن حوار ابن رشد معه حوار منطقي ومعمّق وراقٍ ويبغي التعاون للتوصل إلى الحقيقة ولا شيء سوى ذلك، وندفع اليوم الثمن المجحف لهذا الإرث الاستبدادي.
إن غياب ثقافة الحوار في مجتمعاتنا العربية، واستبدالها بثقافة كيل التهم لهذا وذاك من دون البحث الجدّي عن الحقيقة ومن دون الاجتهاد في التوصل إلى المعرفة الأكيدة، مثّلا كارثة مزمنة في تاريخ هذه الأمة، وجعلا للشائعة السطوة الكبرى التي تهدّ عروشاً وترفع عروشاً من دون أن يتمكّن أحد من اجتثاثها من أنسجة المجتمع ومن مخيّلات المغرضين. وقد أثّر هذا أيّما تأثير في منحى البحث العلمي الحقيقي والاهتمام بنتائج الأبحاث؛ فاستخفّ الدارسون بمواضيع دراساتهم ولم يبذلوا الجهد والوقت اللازمين لأي بحث علمي حقيقي يرمي إلى تثبيت الحقائق في أذهان الناشئة.
وما ينطبق على الفلسفة والفكر ينطبق أيضاً على الاقتصاد والسياسة والعلوم الكونية الحديثة؛ فإما أن يؤمن الإنسان بنتائج البحث الدقيق المعمّق بغض النظر عن نزعاته الشخصية، ويخضع في الحوار لهذه الحقائق ويتخذ قرارات مؤلمة، كما قالت ميركل، ولكنها مسؤولة بناء على الحقائق والمعطيات وبعيداً عن الأهواء والأمجاد الشخصية، وإما أن يبقى يدور في فلك غرور الشخصنة واستهداف الآخر لإثبات الذات طيلة حياته، سواء أكان فرداً أم مسؤولاً وفي أي اختصاص كان؛ فالقادة الذين يصلون الليل بالنهار للتوصل إلى تسوية مؤلمة لكنها مسؤولة يأخذون أيضاً برأي باحثين ومفكرين في علوم الاجتماع والاقتصاد والسياسة، يدرسون لهم بوصلة الزمن وينبّهونهم إلى أين تسير، ولا يفكرون فقط على نحو ارتجالي أو مزاجي أو آني أو شخصي، ولذلك ترتقي بهم بلدانهم وينهضون بها من عمق أزمتها وقرب انفراط عِقدها ليعيدوا تأهيلها لأداء دور نشط وجديد في العالم الذي يتكوّن اليوم على أسس مختلفة عن العالم الذي أتى بهم إلى هذا المكان.
الغصّة نفسها التي سكنت حلقي وأنا أترجم في التسعينيّات انتابتني اليوم وأنا أقرأ تفاصيل الاتفاق الأوروبي، وحزنت على قومي وناسي من العرب الذين فشلوا حتّى اليوم في أن يدركوا الثمن الباهظ الذي يدفعونه جميعاً لفرقتهم وتشتّتهم وانعدام الحوار المنطقيّ والعلمي بينهم.