هل يمكن لواشنطن إبعاد الدولار عن حافة الهاوية ؟
يزداد انشغال العالم بتصعيد النزاع بين الصين والولايات المتحدة موازاة مع الأزمة العالمية الاقتصادية والاجتماعية التي خلقتها جائحة كوفيد 19 منذ بداية الربع الأول من سنة 2020. الخبراء والمحللون من مختلف التوجهات والتخصصات قدموا الكثير من التصورات والدراسات حول التطور المستقبلي للصراع بين بكين وواشنطن، البعض فيهم ذهب إلى حد توقع مواجهة عسكرية محدودة أو نووية لا مفر لها من الانتقال إلى حرب عالمية ثالثة، والبعض الآخر قدر أنه سيتم التحكم من جانب الطرفين في الأزمة حتى لا يتكبدا المزيد من الخسائر وسيتوصلان إلى تسويات حلول وسط وذلك على مضض في انتظار ما ستأتي به الأيام.
مع المرور إلى النصف الثاني من سنة 2020 لا يوجد مؤشر على نهاية قريبة للتوتر فالعقوبات المتبادلة باتت هي صندوق الرسائل بين البلدين، والعديد من الخبراء يصرون على أن التوتر بين أمريكا والصين أصبح أكثر تأثيرا على الأسواق من كوفيد 19 وبالتالي اخطر على الجهود التي تبذل من أجل اخراج العالم من الأزمة الاقتصادية الخانقة التي خلفت خسائر اقتصادية مباشرة تترواح حتى الآن ما بين 9.8 و 11.2 تريليون دولار، وهددت بدفع 500 مليون شخص حسب منظمة "أوكسفام" غير الحكومية إلى الفقر المدقع أي بدخل أقل من 1.6 دولار يوميا، من ضمنهم ما يناهز 9 ملايين في المنطقة العربية.
الصراع الأمريكي الصيني أو بالأصح مع تحالف بكين وموسكو، هو في جوهره نزاع حول تعديل النظام العالمي القائم منذ تسعينيات القرن العشرين بعد إنهيار الاتحاد السوفيتي على احادية القطبية التي يمسك بها قادة البيت الأبيض.
طوال حوالي عقدين ونصف أي من سنة 1990 وحتى 2015 تمتعت واشنطن بالهيمنة على السياسة العالمية، فغزت افغانستان سنة 2001 واحتلت العراق سنة 2003 بعد أن اخضعته للحصار لأكثر من 12 سنة ونشرت الفوضى الخلاقة في المنطقة العربية إبتداء من سنة 2011 ودمرت ليبيا وشنت حربا متعددة الأطراف في بلاد الشام وبذرت مزيدا بذور الخلاف بين الدول في أغلب بقاع المعمور لتخلق الظروف الملائمة لإستمرار هيمنتها وتكريس مكاسب مؤسساتها المالية وشركاتها المتعددة الجنسية.
هذا المسار لم يكن جديدا فهو في الواقع جزء من تاريخ البشرية حيث تسود عمليا "صورة ربما مختلفة في بعض الجوانب" شريعة الغاب حيث يفرض الاقوياء ارادتهم على الأضعف، ولكن وكما حدث عبر التاريخ كانت الامبراطوريات أو الأقوى يضعفون تدريجيا أو نتيجة حروب ويأخذ مكانهم آخرون.
الولايات المتحدة أرادت أن تطبق نظرية نهاية التاريخ التي وضعها العالم والفيلسوف السياسي الأمريكي فرانسيس فوكوياما في صيف 1989، حيث اعتبر أن مبادئ الليبرالية الاقتصادية، تشكل مرحلة نهاية التطور الأيديولوجي للإنسان وبالتالي عولمة الديمقراطية الليبرالية كصيغة نهائية للحكومة البشرية.
محاولة واشنطن وقف المسار التاريخي للتطور العالمي، واجهت تحديات كثيرة لعل أهمها أنها لم تعد مع منتصف العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين تتوفر على مقومات القوة الاقتصادية والعسكرية والسياسية التي تكفل لها القدرة على تجميد مسار التاريخ وقبر القوى التي تتحدى بشكل جدي ومستدام نفوذها.
الواقع هو أن الولايات المتحدة وبعد إنهيار الاتحاد السوفيتي عانت من غييوبة الشعور بالانتصار، في نفس الوقت الذي غاب عن قادتها الشعور بضرورة معالجة التبعات الاقتصادية الناتجة عن سباق التسلح والحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي الذي دام أكثر 45 سنة. هكذا لم يتابع الاقتصاد الأمريكي مسار التطورات العالمية وعمليات التحديث وترك معالجة مشاكل تخلفه الكمي والنوعي للبيت الأبيض ليفرض على المنافسين التراجع كما حدث مع اليابان سنة 1987، وقبلها مع بقية العالم حين قرر الرئيس الأمريكي نيكسون إلغاء التحويل الدولي المباشر من الدولار الأمريكي إلى الذهب.
بكل بساطة كان ذلك هو زمن الامبراطورية التي لا يجرؤ أحد على مواجهتها، لكن الأمور لم تكن بتلك البساطة، ففي ظل الادمان على الشعور بالقوة برزت قوى اقتصادية وعسكرية عالمية منافسة وأخذت موسكو تعيد بناء قواها، في حين استنزفت قدرات واشنطن في حروب جديدة بعد أن نسيت دروس نكستها في الحرب الفيتنامية.
القوى الموجهة للسياسة الأمريكية والتي تختصر في المجمع العسكري الصناعي تصورت أن نهضة المنافسين لن تدوم طويلا وأن واشنطن بكل اسلحتها الاقتصادية والسياسية ستكون قادرة على تحجيم قدرات هؤلاء المنافسين وستخضعهم في نهاية المطاف وتجعلهم يقبلون تقاسم الجزء الأصغر أو الفتات من حصة الغنائم الدولية.
نقطة التحول
الرؤساء الذين تبعوا رونالد ريغان بعد سنة 1989 في البيت الأبيض اختلفوا في سبل التأقلم والتعامل مع النظام العالمي الاحادي، ولم تبدأ أجراس الانذار الكبيرة تدق لديهم حول الخطورة التي تواجه موقع بلادهم سوى مع انفجار الأزمة الاقتصادية 2007 أو ما سمي أزمة الرهن العقاري وهي أزمة مالية خطيرة ظهرت على السطح فجأة عام 2007 والتي فجرها في البداية تهافت البنوك على منح قروض عالية المخاطر، وبدأت الأزمة تكبر ككرة الثلج لتهدد قطاع العقارات في الولايات المتحدة ثم البنوك والأسواق المالية العالمية لتشكل تهديدا للاقتصاد المالي العالمي.
ربما سيكتب في كتب التاريخ التي عادة ما يفرض عليها المنتصر رؤيته أن تلك الأزمة كانت بداية انحدار الامبراطورية الأمريكية.
بروز الصين كقوة اقتصادية عظمى وروسيا كقوة عسكرية تهدد الهيمنة الأمريكية، واجهه الرئيس الأمريكي باراك أوباما من 20 يناير 2009 وحتى 20 يناير 2017 بعملية نقل ثقل بلاده العسكري من الشرق الأوسط إلى آسيا وبالسعي للتحكم في توسع نفوذ بكين وموسكو عالميا بأساليب متنوعة والعمل على تشكيل تحالفات أوسع لأمريكا في أوروبا وآسيا وأفريقيا. ساند أوباما اتباع ما يسمى بالقوة الناعمة، وهي مفهوم صاغه جوزيف ناي من جامعة هارفارد لوصف القدرة على الجذب والضم دون الإكراه أو استخدام القوة كوسيلة للإقناع. وقد تم استخدام المصطلح للتأثير على الرأي الاجتماعي والعام وتغييره من خلال قنوات أقل شفافية نسبيا والضغط من خلال المنظمات السياسية وغير السياسية. إذ قال جوزيف ناي أنه مع القوة الناعمة " أفضل الدعايات ليست دعاية"، موضحا أنه وفي عصر المعلومات، تعد "المصداقية أندر الموارد". القوة الناعمة هي القدرة على التأثير في الآخرين بحيث يصبح ما تريده هو نفسه ما يريدونه، وبحيث تصبح قيمك وثقافتك ومبادئك وطريقتك في الحياة هي النموذج الذي يودون احتذائه.
الرئيس الأمريكي دونالد جون ترامب وهو الرئيس الخامس والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية منذ 20 يناير 2017، جاء إلى البيت الأبيض في وقت شعر فيه قادة المركب العسكري الصناعي أن القيادة العالمية تفلت من ايديهم خاصة على الصعيد الاقتصادي وأنه إن لم يمكن عكس التيار فستلحق الولايات المتحدة ببريطانيا كإمبراطورية من الماضي.
هكذا شرع البيت الأبيض في فتح صراعات ليس ضد الصين وروسيا فقط بل في كل الاتجاهات لإخضاع كل من يرفض الهيمنة الأمريكية أو يعاكسها ولو بشكل ضئيل وهو يعتقد أن ذلك هو السبيل الوحيد لتطبيق شعار امريكا أولا.
فقدوا عقولهم
يوم الجمعة 17 يوليو 2020 اعتبرت وزارة الخارجية الصينية أن المسؤولين الأمريكيين "فقدوا عقولهم وجن جنونهم" في تعاملهم مع بكين، وذلك في إطار السجال بين القوتين العظميين.
وارتفع منسوب التوتر بين واشنطن وبكين هذا العام بينما فرضت عقوبات على بعض أشد الشخصيات المعارضة علنا للصين في الكونغرس الأمريكي بعد أيام على قرار الولايات المتحدة حظر منح تأشيرات لمسؤولين صينيين وتجميد أصول تابعة لهم بحسب "الفرنسية".
وزاد وزير العدل الأمريكي بيل بار من حدة التوتر يوم الخميس 16 يوليو عندما اتهم بكين بشن "حرب اقتصادية خاطفة" للحلول محل واشنطن كأبرز قوة في العالم ونشر الأيديولوجيا السياسية التي تتبناها حول العالم.
لكن المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية هوا شونينغ قالت إن بار وغيره من المسؤولين الأمريكيين ينتقدون الصين لصرف الأنظار عن مشكلاتهم السياسية الداخلية. وأضافت "لا يتردد هؤلاء، لمصلحتهم الخاصة ولتحقيق مكاسب سياسية، في تأليب الرأي العام المحلي... إلى درجة أنهم فقدوا عقولهم وجن جنونهم". وذكرت أن الصين لا تنوي تحدي الولايات المتحدة أو الحلول محلها وقالت إنها تأمل بأن تتمكن واشنطن من "العودة إلى العقلانية" في ما يتعلق بسياستها حيال الصين، "لا يمكن لعصفور دوري صغير أن يفهم طموح بجعة". وأضافت "هذا سوء تقدير وسوء فهم خطير لنوايا الصين الاستراتيجية".
الملفات الشائكة
جاء في تقرير نشر في باريس: صار المشهد أشبه بحرب باردة جديدة بين الصين والولايات المتحدة في ظل تصاعد منسوب التوتر بينهما يوما تلو الآخر، وسط توقع أن يبقى خطر مواجهة واسعة النطاق ماثلا إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية.
ووفقا لـ"الفرنسية"، قال تشي يينهونغ أستاذ العلاقات الدولية في جامعة رنمين الصينية "من الصعب توقع المدى الذي سيبلغه تدهور العلاقات"، مبديا اعتقاده أن الخصمين "شرعا في الانتقال إلى حرب باردة جديدة".
وبعد أسابيع مضت اتصفت بسلسلة من العقوبات والردود والردود المضادة، عكست الملفات الشائكة مدى الخلافات، إذ إنها تشتمل على مستقبل هونك كونغ ودور عملاق الاتصالات "هواوي" في تكنولوجيا الجيل الخامس، مرورا بالتيبت وبحر الصين الجنوبي ومسألة مسلمي الأويغور.
ومن المتوقع بالتالي أن تحتل الصين مكانة مهمة في صلب الحملة الانتخابية بين المرشحين للانتخابات الرئاسية الأمريكية المرتقبة في 3 نوفمبر، دونالد ترامب ومنافسه جو بايدن، ويصف ترامب بايدن بأنه ضعيف في مواجهة بكين.
والمشهد شبيه بما حصل في انتخابات 2016، حين تعهد المرشح الجمهوري بخفض العجز التجاري مع الصين، ما شكل واحدا من أسباب فوزه.
غير أن المواقف المتشددة للرئيس الأمريكي في ولايته الأولى إزاء الصين، جاءت على خلفية حرب تجارية جرى التوصل خلالها إلى اتفاق ينقسم إلى عدة مراحل، فيما عدا ذلك، لم يكن الجمهوري، رجل الأعمال السابق، يبخل على نظيره الصيني شي جين بينغ بالثناء.
ووفق جون بولتون مستشاره السابق لشؤون الأمن القومي، فإن ترامب كان يبحث عن قوة دفع انتخابية تأتي من الصين عبر زيادة مشترياتها من المنتجات الزراعية الأمريكية، بغية إرضاء قاعدته الانتخابية الريفية.
إلا أن نشوب أزمة تفشي فيروس كورونا المستجد الذي كشف عنه للمرة الأولى في مدينة ووهان الصينية في نهاية 2019، ألقى الضوء على أزمة أكثر عمقا بين الطرفين.
فبعدما شكر ترامب بحرارة في نهاية يناير جين بينغ لجهوده في احتواء الفيروس، بدل الرئيس خطابه جذريا، ليحمل الصين مسؤولية الأزمة الصحية والاقتصادية العالمية، وتبنى عمليا استراتيجية المواجهة المباشرة التي ينتهجها وزير خارجيته مايك بومبيو.
ووفق ستيفان والت، أستاذ الشؤون الدولية في جامعة هارفرد، فإن أكبر قوتين اقتصاديتين عالميتين دخلتا في "تنافس أمني طويل الأمد تفاقمه رؤى استراتيجية متضاربة، قائلا، الأمر يشبه الحرب الباردة في بعض أوجهه، لكنه شدد على أن التنافس الحالي ليس بخطورة ما جرى بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي".
ورغم أن الخصومة كانت ماثلة منذ ما قبل عهد ترامب، فإن السبب الرئيس خلف التدهور الحالي، يتوجب البحث عنه في تنامي الطموحات الدولية للصين، خصوصا لناحية رغبتها في الهيمنة في آسيا. وبعد 70 عاما من نشوئها، تؤكد الصين أكثر من أي وقت وضعيتها كقوة كبرى تنافس الولايات المتحدة.
أما في واشنطن، فإن الطبقة السياسية تخطت الأمل القديم بأن يؤدي مسار العولمة إلى إدخال تغييرات على النظام الحاكم في الصين.
حرب اقتصادية خاطفة
لم يعد مايك بومبيو وزير الخارجية الأمريكي، يرفض الإحالة على الحرب الباردة، وذلك بعدما كان في 2018 يعترض على أي مقارنة، وإذ يشير إلى مدى التشابك البالغ بين الاقتصادين الأمريكي والصيني مقارنة بما كان عليه الحال بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، فإنه يرمي بذلك إلى تبرير ضرورة سعي الدول الغربية إلى استعادة سيادتها الصناعية والتكنولوجية والتوقف عن الاعتماد على الصين.
وفي استعارة لمصطلح عسكري، حذر بيل بار وزير العدل الأمريكي عمالقة هوليوود وسيليكون فالي من حرب اقتصادية خاطفة من الصين بغية تجاوز الولايات المتحدة بصفتها القوة العظمى الأولى عالميا".
وبهدف بث الروح مجددا في فكرة كتلة في مواجهة أخرى، ترغب إدارة ترامب في ضم الاتحاد الأوروبي إلى صفوفها، وتدعو من أجل ذلك إلى الدفاع عن الحرية في وجه الطغيان".
إلا أن أوريانا سكيلار ماسترو الباحثة في مركز "أميريكن إنتربرايز انستيتيوت" للأبحاث، ترى أن هذا التصور عن الصين على أنها تهديد أيديولوجي خاطئ، مفضلة عدم الحديث عن حرب باردة جديدة، إذ إن ذلك سيقود باتجاه اعتماد تدابير استراتيجية غير مجدية.
رغم ذلك، فإنها تحذر من أن ثمة احتمالا واقعيا لحرب ساخنة بين الطرفين، على مستويات لم تبلغها المواجهة مع الاتحاد السوفياتي البتة".
وتقول إن "الولايات المتحدة تتفاعل مع تراجع قدراتها عبر زيادة الضغط مهما يكن مما تفعله بكين" التي ترفض من جانبها مثلا سحب أسلحتها من بحر الصين الجنوبي من دون إدراكها "دوافع السياسة الأمريكية، وتؤكد نتيجة ذلك، أن رفض الصين طمأنة الولايات المتحدة من شأنه أن يقود نحو الحرب".
تغيير استراتيجي
يوم 14 مايو 2020 نشرت صحيفة "أوراسيا ديلي"، مقالا حول اضطرار بكين إلى تغيير نهجها والدخول في صراع مباشر مع واشنطن.
وجاء في المقال: سوف تستمر السياسات الأمريكية المعادية للصين. وبعد تطبيق العقوبات، ستغير بكين أيضا استراتيجيتها وتدخل في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة. تحدث عن ذلك، في 13 من مايو 2020، مدير الشؤون العلمية بنادي فالداي، فيدور لوكيانوف.
لوكيانوف، مقتنع بأن واشنطن تستغل الوضع الوبائي ليس من أجل الحصول على تنازلات من السلطات الصينية أو الوصول إلى حل وسط مع جمهورية الصين الشعبية، إنما لأن الضغط على الصين والتصعيد غاية في حد ذاته بالنسبة للولايات المتحدة.
وقال: "حتى وقت قريب، لم تكن الصين تميل إلى الانخراط في نزال مباشر. فلطالما كان النهج الصيني يتجنب ذلك بطريقة ما، ويتحايل، ولا ينخرط في مواجهة مباشرة، مثلما تجيد روسيا، على سبيل المثال، فعل ذلك. ولكن الصينيين سيضطرون على ما يبدو إلى إعادة النظر في نهجهم التقليدي". وسوف يكون رد بكين على العقوبات الأمريكية مماثلا ويمس التجارة مع الولايات المتحدة.
وأشار لوكيانوف إلى أن الاقتصاد العالمي بأكمله بني في العقود الأخيرة على علاقة اقتصادية وثيقة لا تنفصم عراها بين الصين والولايات المتحدة. وتخفيف الترابط بينهما والانتقال إلى المرحلة التالية من فصل الاقتصادات، في رأيه، سيكون النتيجة الرئيسية لتفاقم العلاقات الحالية على خلفية الوباء.
أما روسيا، وفقا لـ لوكيانوف، فعلى مستوى التصريحات العلنية، ستعارض الإجراءات الأمريكية، فليس هناك ما يدعو إلى التعاطف مع الجانب الأمريكي. لكن هذا، حسب قوله، لا يعني أن روسيا محكومة بالانضمام إلى أي من الجانبين أو أن تشارك في الحرب التجارية والاقتصادية. ستحاول موسكو تجنب التدخل المباشر في الصراع بين الولايات المتحدة والصين.
قوة خاصة ضد روسيا والصين
يوم الجمعة 14 يناير 2020 ذكرت وكالة "بلومبرغ" الأمريكية، أن الجيش الأمريكي يعمل على تعزيز جهوده لمواجهة الصين عن طريق نشر قوة عمل متخصصة في منطقة المحيط الهادئ.
وقالت "بلومبرغ" إن الوحدة الجديدة ستكون قادرة على تنفيذ عمليات تتعلق بالمعلومات والإلكترونيات والإنترنت والصواريخ.
وأضافت أن الوحدة الجديدة سوف تكون مجهزة لضرب أهداف أرضية وبحرية بأسلحة دقيقة طويلة المدى، مثل الصواريخ فائقة السرعة، بغرض إفساح المجال أمام قطع البحرية الأمريكية في حالة نشوب صراع.
ونقلت الوكالة عن وزير الجيش الأمريكي ريان ماكارثي، قوله في مقابلة صحفية، إن "قوة العمل الجديدة التابعة للجيش سوف تساعد في تحييد بعض الإمكانيات التي تمتلكها الصين وروسيا بالفعل، وتستهدف إبعاد مجموعات حاملات الطائرات الأمريكية عن البر الرئيس في الصين".
وصرح ماكارثي بأن "هذه الخطوة تستهدف تحييد جميع الاستثمارات التي قامت بها الصين وروسيا". وتابع قائلا إن "تلك الخطوة سوف يتم تعزيزها بواسطة اتفاقية جديدة مع مكتب الاستطلاع الوطني الأمريكي الذي يطور، ويتولى تشغيل أقمار التجسس الأمريكية". ولم يتضح بعد موعد نشر القوة الجديدة التي من المرجح أن تتمركز على جزر إلى الشرق من تايوان والفلبين.
يوم 27 يونيو 2019 قيم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خلال مقابلة مع صحيفة "فاينانشال تايمز" إمكانية نشوب صراع عسكري بين الولايات المتحدة والصين في الوقت الحالي.
وقال بوتين في معرض رده على سؤال من الصحيفة: "تعلمون، أن تاريخ البشرية كله مرتبط بالصراعات العسكرية، لكن بعد ظهور الأسلحة النووية، انخفض خطر نشوب صراعات عالمية، على وجه التحديد بسبب العواقب المأساوية العالمية المحتملة للبشرية جمعاء، في حال حدوث مثل هذا الصراع بين القوى النووية"، معربا عن أمله في ألا تصل الأمور إلى صراع بين القوى النووية.
وفي الوقت نفسه، أشار الرئيس الروسي إلى أن الصين تبدي حسن نية ومرونة كافيتين مع شركائها وخصومها، معتقدا في هذا الصدد، بعدم إمكانية نشوء خطر من هذا القبيل من جانب بكين.
ووفقا لبوتين، فإنه يصعب عليه تحديد مقدار تحلي الولايات المتحدة بالصبر، وعدم اتخاذ قرارات حادة، ومعاملة شركائها باحترام، حتى لو كانوا يختلفون معها بشكل ما. وأوضح الرئيس الروسي قائلا: "لكنني آمل، وأكرر، آمل أن لا تصل الأمور إلى أي مواجهة عسكرية".
تجمع عوامل
يشير عدد من الخبراء أن إلى أن التركيبة المعقدة التي تجمع بين أزمة جائحة كوفيد العالمية والحرب الباردة الصينية الأمريكية والنزاعات التجارية والاقتصادية والسياسية بين الاتحاد الأوروبي وواشنطن، والعقوبات والحصار الاقتصادي الذي تمارسه الادارة الأمريكية تجاه عدد من دول العالم مثل ايران وسوريا ولبنان وفنزويلا وروسيا وكوريا الشمالية وغيرها والديون الأمريكية المتراكمة تخلق بيئة غير مواتية للاقتصاد الأمريكي وأساسا للدولار كعملة تبادل دولي رئيسية.
جاء في تقرير نشر في لندن يوم 6 مايو 2020:
ذكر خبراء اقتصاديون، إن الأسواق المالية حول العالم وكذلك المستثمرين، أصحبوا أكثر انشغالا بتداعيات التصعيد في العلاقات بين الولايات المتحدة والصين، عن تعقب إصابات فيروس كورونا التي تجاوزت ذروتها بمعظم دول العالم.
ونقلت شبكة “سي إن بي سي” الأمريكية عن زيوي زانغ، رئيس مجموعة “بين بوينت ” لادارة الأصول قوله: ”لقد بلغ معدل الإصابة بكورونا ذروته بالفعل في بعض الدول، فيما تشهد أخرى تحسنا تدريجيا، مشيرا إلى المخاوف بشأن هجمة ثانية من المرض تظل قائمة لكن يمكن احتواء خطر حدوث ذلك اذا كان هناك وعي من قبل الحكومات والشعوب“.
في المقابل، يرى المحلل الاقتصادي أن التوترات السياسية والتجارية بين الاقتصادين الأكبر على مستوى العالم ستشهد تصاعدا خلال الفترة المقبلة لذلك أصبحت هي الشاغل الرئيسي للأسواق والمستثمرين في أسواق المال لما ستحمله من تداعيات على الاقتصاد العالمي.
وأشار إلى أن التصعيد الأمريكي الصيني يأتي قبل 6 أشهر فقط من إجراء انتخابات الرئاسة الأمريكية، ووسط مؤشرات بأن المسئولين في الولايات المتحدة مستمرون في الضغط على بكين، محذرا من أن استمرار التوترات يضرب أسواق العملات.
ويعكس خطاب المسؤولين في البلدين تصعيدا مقلقا، ينذر بعودة النزاع التجاري، الذي تم التوصل إليه بصعوبة، إلى الواجهة من جديد، ليقوض فرص تعافي الاقتصاد العالمي حتى مع استعداد دول العالم لتخفيف قيود العزل والإغلاق لدعم الاقتصادات و التمهيد ولعودة الحياة بشكل تدريجي إلى طبيعتها.
المخاطر المتزايدة على الدولار
يوم السبت 18 يوليو 2020 جاء في تحليل نشرته صحيفة الفايناشيال تايمز البريطانية:
ذكر محللون إن تصاعد المخاطر السياسية والصحية في الولايات المتحدة، والتفاؤل المتزايد بشأن الانتعاش الاقتصادي العالمي يجب أن يبقيا الدولار في حالة انخفاض خلال الأشهر القليلة المقبلة.
المصارف الكبيرة أصبحت متشائمة تجاه العملة الأمريكية في أواخر مايو، بسبب التخفيضات الكبيرة في أسعار الفائدة وفيض السيولة التي أطلقها "الاحتياطي الفيدرالي" في محاولته تخفيف الآثار الاقتصادية المترتبة على الجائحة.
يقول المحللون: منذ ذلك الحين، ازداد تدهور التوقعات المتعلقة بالدولار. أشاروا إلى المخاوف المتزايدة بشأن إعادة فتح أكبر اقتصاد في العالم في مواجهة زيادة مطردة في حالات الإصابة بكوفيد 19، إضافة إلى زيادة التهديدات السياسية، والضربة التي وجهها المستثمرون وهم يخرجون من رهانات البحث عن الأمان في الدولار.
انخفضت العملة الأمريكية 0.7 في المائة منذ بداية يوليو، مقابل سلة من العملات الأخرى، متجهة ببطء نحو التراجع مقابل نظيراتها من عملات الأسواق المتقدمة والناشئة، بعد انخفاضها 0.4 في المائة في يونيو. وهي الآن عند مستوى أقل من الذروة التي وصلت إليها في أواخر مارس بأكثر من 6 في المائة.
وبحسب شهاب غالينوس الرئيس العالمي لاستراتيجية صرف العملات الأجنبية في "كريدي سويس" اصطف عدد من العوامل لإضعاف الدولار، مضيفا أن "الولايات المتحدة تواجه ببساطة مخاطر أكثر من الاقتصادات الكبرى الأخرى في هذه المرحلة".
أعيد فتح الاقتصادات الأوروبية بحذر في حين أن التقدم نحو إنشاء صندوق انتعاش أوروبي عملاق عزز آفاق اليورو. كما ارتفعت أسواق الأسهم الصينية إلى جانب الرنمينبي.
منذ أن تراجعت الولايات المتحدة عن بعض القيود المفروضة بسبب الجائحة انتعشت البيانات الاقتصادية لكن أعداد الإصابة بفيروس كورونا ارتفعت أيضا في كثير من الولايات. سجلت البلاد في الأسبوع المنتهي في 18 يوليو أكبر زيادة في يوم واحد في حالات الإصابة منذ بداية الجائحة.
جورج سارافيلوس الرئيس العالمي لأبحاث العملات في "دويتشه بنك"، رجح أن يؤدي ذلك إلى مزيد من القيود وأرقام اقتصادية أقل صلابة. قال: "المحرك الرئيس لضعف الدولار في الأشهر المقبلة من المحتمل أن يكون مفاجآت سلبية في البيانات الكلية من الولايات المتحدة".
ارتفعت أيضا المخاطر السياسية المتعلقة بالدولار. الكونغرس لديه مهلة حتى نهاية شهر يوليو، للموافقة على تمديد برنامج إعانات البطالة في حالات الطوارئ. الفشل في التمديد كما قال غالينوس يمكن أن يلحق بالاقتصاد الأمريكي "كثيرا من الأضرار" في الفترة التي تسبق الانتخابات الرئاسية في نوفمبر.
وبدأ المستثمرون بالفعل في اتخاذ مراكز لاحتمال أن يضع جو بايدن المرشح الديمقراطي نهاية لرئاسة دونالد ترامب بعد فترة ولاية واحدة. يواصل ترامب التخلف وراء بايدن بنحو 20 نقطة في أسواق المراهنة، وسط استياء واسع النطاق من طريقة تعامله مع الجائحة.
يرى سارافيلوس أن الأداء القوي للديمقراطيين ربما يكون سلبيا على الدولار أيضا، مشيرا إلى أن العملة الأمريكية تميل إلى القوة حينما تكون التوقعات غير مؤكدة، وتضعف عندما يكون النمو العالمي أقوى.
قال إن فوز بايدن سيؤدي إلى التحول "بعيدا عن سياسة التعريفات الجمركية ودبلوماسية التغريد العشوائي".
هناك أيضا علامات على أن الطلب على الدولار باعتباره من أصول الملاذ آخذ في التراجع. في مارس أدى نقص الدولارات الحاد وسط ارتفاع عالمي في الطلب إلى أن يفتح البنك المركزي الأمريكي خطوط مبادلة مع أكثر من 12 عملة من أقرانه في العالمين المتقدم والناشئ. لكن في شهر يونيو في إشارة إلى أن الأسواق كانت في طريقها إلى وضع أكثر توازنا قررت أربعة بنوك مركزية كبيرة تقليص استخدامها لتلك التسهيلات. وأظهرت بيانات حديثة أن البنوك المركزية تمتلك 153 مليار دولار فقط من القروض المستحقة التي حصلت عليها من "الاحتياطي الفيدرالي"، مقارنة بـ 449 مليار دولار في 27 مايو.
أخيرا، يشير المحللون إلى أن العملة الأمريكية فقدت أيضا ميزة فرق العائد عندما خفض "الاحتياطي الفيدرالي" أسعار الفائدة في منتصف مارس، وقلص سياسة سعر الفائدة نقطة مئوية كاملة لتراوح بين صفر و0.25 في المائة، وهو مستوى لم نشهده منذ عام 2015.
نتيجة لذلك، أصبح الدولار الآن هدفا أقل جاذبية للمستثمرين المنخرطين في ما يسمى تداول المناقلة، على حد قول أوليفيا فرايزر الرئيسة العالمية لأبحاث الأسواق في "بي إن بي باريبا". في السابق كان كثير من المستثمرين يقترضون بعملات ذات عائد منخفض للغاية، مثل الين واليورو، لشراء أصول مقومة بالدولار وهو تداول يجب أن يتفكك الآن، ما يعزز اليورو والين.
الآن المناقشات في مجلس "الاحتياطي الفيدرالي" حول ما يسمى منحنى العائد الذي يتضمن وضع البنك المركزي حدا أقصى لعوائد سندات الخزانة والتدخل في السوق لإبقائها تحت هذا الحد أوضحت للمستثمرين أيضا أن من غير المحتمل أن ترتفع أسعار الفائدة في أي وقت قريب.
ذكر كيت جوكيس، رئيس استراتيجية أسواق الصرف لدى بنك سوسيتيه جنرال: "لقد فعل بنك الاحتياطي الفيدرالي كل ما يمكن فعله بشكل مفيد لتقويض عملته. بفعله ذلك قدم للعالم معروفا لا جدال فيه".
العجز المدمر
جاء في تقرير نشرته وكالة انباء نوفوستي يوم 17 يوليو 2020: سجل عجز الميزانية الأمريكية في يونيو 2020 مستويات قياسية، إذ عادل العجز لشهر واحد العجز الذي تم تسجيله خلال العام المالي 2019 بأكمله.
وجاء ذلك بسبب زيادة نفقات الميزانية الأمريكية لمواجهة تداعيات أزمة كورونا، وترافق ذلك مع انخفاض حاد في إيرادات الميزانية الأمريكية.
ويحذر محللون من احتمال عدم قدرة الدولار في الحفاظ على مكانته الرائدة ومكانته كعملة احتياطيات في العالم في ظل زيادة الدين الأمريكي.
ووفقا لبيانات وزارة الخزانة الأمريكية فإن عجز الميزانية بلغ شهر يونيو 864.1 مليار دولار، وهو أعلى بنحو مرتين من العجز، الذي تم تسجيله في مايو، وأعلى بنحو 10 مرات من العجز المسجل في يونيو من عام 2019.
وأظهرت البيانات أن النفقات بلغت خلال شهر يونيو 1.1 تريليون دولار، مقابل إيرادات بنحو 240 مليار دولار، أي نحو 30 في المئة من النفقات.
وفي أبريل 2020 توقعت اللجنة الأمريكية للميزانية الفدرالية أن الانكماش الاقتصادي الحاد وإجراءات الطوارئ التي تم اتخاذها لإنقاذ الاقتصاد ستضاعف عجز الميزانية الأمريكية السنوي إلى 3.8 تريليون دولار أو 18.7 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، لكن هذه التوقعات تبدو متفائلة جدا في ظل العجر الذي سجل في يونيو 864.1 مليار دولار.
وقال وزير الخزانة الأمريكي السابق هنري بولسون، إن مستقبل الدولار يعتمد بشكل مباشر على مدى استعداد واشنطن لوضع استراتيجية تقوم بمعالجة المشاكل المتعلقة بالديون والعجز في الميزانية مع مرور الوقت.
ولم يستبعد المسؤول الأمريكي السابق قيام السلطات الأمريكية بتجميد استثمارات عدد من الدول في سندات وأذون الخزانة الأمريكية، محذرا من أن خطوة كهذه ستكون بمثابة ضربة قاسية لوضع الدولار كعملة احتياطيات عالمية.
والمعروف أن الدين الحكومي الأمريكي نما منذ مطلع عام 2020 بنحو تريليوني دولار، ولأول مرة في التاريخ تجاوز مستوى 25 تريليون دولار. ويعزوا الخبراء هذه الزيادة الحادة في عبء الديون الأمريكية، إلى الإنفاق الحكومي الواسع لمواجهة التداعيات الاقتصادية لأزمة كورونا.
وفي ظل هذا الإنفاق، من المتوقع أن يصل عجز الميزانية الأمريكية في 2020 إلى 18 في المائة من حجم الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي، وذلك للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية.
وكحل لمشكلة العجز بدأ الاحتياطي الفدرالي الأمريكي بطباعة وضخ النقود في الاقتصاد، فيما تخوف الخبراء من أن إجراءات كهذه من الممكن أن تحفز التضخم وتؤدي إلى إضعاف الدولار.
كذلك يشير الخبراء إلى أن زيادة أعباء الديون الأمريكية من الممكن أن تؤثر على مستوى شعبية الرئيس الأمريكي دونالد قبل انتخابات الرئاسة في الولايات المتحدة.
وتأتي زيادة الدين في وقت أظهرت البيانات انخفاض الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي في الربع الأول من 2020 بنسبة 4.8 في المئة على أساس سنوي، والذي يعد الأكبر منذ 2008.
ومع تفاقم أزمة كورونا يواجه الاقتصاد الأمريكي خطر تراجع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 40 في المائة في الربع الثاني من 2020، وفقا لمكتب التحليل بوزارة التجارة الأمريكية.
عمر نجيب