ترددت كثيرا قبل الكتابة عن الجامعة العربية، واسمها الرسمي هو جامعة الدول العربية، وهي مؤسسة تحولت في السنوات الأخيرة إلى مهزلة سياسية تثير الإشفاق والرثاء، ولا أتصور أنها خير من عصبة الأمم التي ولدت ميتة في فرساي، لمجرد أن ما بني على الرمال لا يمكن له إلا أن يتهاوى أمام أول عاصفة.
وواقع الأمر أنني أراها، كاتحاد المغرب العربي، مؤسسة يجب أن نتعامل معها من منطق أن إكرام الميت هو الإسراع بدفنه.
فهذه مؤسسة جعلتا نعيش طويلا في الأوهام، ولم تنجح في مواجهة أي مشكلة عربية، ناهيك من المشكل الأساسي وهو الدولة العبرية التي تشكل تحديا لكل ما هو عربي، وهكذا أصبحت مجرد “تكية” للمتقاعدين والقاعدين.
وكان يجب أن ندرك أنها تحمل في طياتها عناصر الفشل، فالجامعة، كمؤسسة وطنية، لم تنجح بعد نكبة 1948 في إقامة دولة فلسطينية حقيقية تجمع ما أصبح يُسمّى الضفة الغربية مع قطاع غزة، تعترف بها كدولة حقيقية وتبذل جهودا دولية من أجل انتزاع الاعتراف الدولي بها، وبدلا من ذلك تواطأت للتستر على دولة وهمية أسمتها “حكومة عموم فلسطين”، وأصبح يُطلق عليها، تهكما، حكومة عموم “غزة”، وضعت تحت قيادة رجل طيب اسمه “أحمد حلمي باشا”، وكان القطاع تحت قيادة عسكرية مصرية.
وفشلت الجامعة، كمؤسسة عربية، في التعامل مع حرب اليمن في الستينيات وحقن دماء الأشقاء (ولا أدخل في تفاصيل تلك الحرب )
ولم تتمكن الجامعة، كمؤسسة سياسية، من تحقيق الانسجام بين العراق وسوريا، وكلاهما كان يسيره حزب واحد، ولا حديث عن منطقة المغرب العربي وفشلها في الوصول بالمنطقة إلى الاستقرار الذي ينطلق من السلام العادل، وكانت، في مرحلة الربيع العربي، شاهد زور وعامل فرقة.
ولا حديث عن مأساة ليبيا واليمن اليوم، فهي خبز يومي مرّ للمنابر الإعلامية، وبالطبع، ولا كلمة عن “كورونا”، والتي يدعي أحد طوال اللحية واللسان أنها، وأستغفر الله، مذكورة في القرءان (ويمكرونـ”ـا” ويمكرُ الله) تماما كما قال مثيل له منذ سنوات بأن “الكوكا كولا” مذكورة في القرءان (وتر”كوكا” قائما) ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولقد حرصت، وأنا أبدأ الكتابة، على ألا أطلع على تصريح وزير الخارجية الجزائري الذي سمعت بعض مقاطعه في التلفزة وأنا مشغول بوجبة عشاء شهية، وكان ذلك لمجرد أنني أردت أن يعتبر ما أخطه مجرد وجهة نظر شخصية، تحمل كل عيوب النظرة الشخصية ولا تلزم غيري، دولة أو منبرا إعلاميا أو مسؤولا سياسيا.
كانت أول علاقة لي بهذه المؤسسة في الخمسينيات، ويومها كنا مجموعة من الطلبة نتلقى العلم في القاهرة بفضل الرعاية التي كانت تمنحها الحكومة المصرية لمن كان يطلق عليهم آنذاك “الطلبة الشرقيون”، وهو ما يجب أن يُذكّر بفضل مصر على معظم الطلائع العربية التي تصدرت الساحة في العقود التالية.
يومها ذهب أحد رفاقنا وهو المرحوم مولود قاسم، شاكيا إلى الأمين العام المساعد للجامعة العربية في مبناها القديم في شارع، أعتقد أنه كان يُسمّى شارع البستان، بالقرب من ميدان باب اللوق.
كنا يومها نحاول، بجُهْد المُقلّ، أن نستنفر المشاعر العربية تجاه ما يعانيه الشعب الجزائري تحت الاستعمار الاستيطاني الفرنسي، وراح مولود يشكو للسيد “علي نوفل” ما يعانيه الجزائري في وطنه وعلى أرضه، وقال له من بين ما قاله: تصوّر يا بيه، أنا حُرمت من جنسيتي ومضطرّ لأحمل جواز سفر فرنسي.
ويقول له السيد نوفل، ببساطة الموظف البيروقراطي البعيد كل البعد عن واقع المعاناة العربية: عندك باسبور فرانساوي ؟؟ …يا بختك يا أخي.
كانت الجامعة قد ولدت في منتصف الأربعينيات، وكان تكوينها مرتبطا بالوجوه العربية اللامعة آنذاك، وفي مقدمتهم الملك فاروق والملك عبد العزيز آل سعود والأمير عبد الله وصولا إلى الإمام يحيى حميد الدين، إمام اليمن، وبدا بالتالي أن الجامعة كانت شبه نقابة للملوك والرؤساء.
وكان الجانب السلبي هو الدور البريطاني الذي صوّره البعض وكأنه هو الفاعل الأساسي وراء تكوين الجامعة، وبحيث بدا لكثيرين أن لندن تحاول أن تمحو بعض آثامها التي نتجت عن خيانة الوعود التي أعطاها لورنس باسمها للأسرة الهاشمية، وربما تعويضا عن تشنج بريطانيا ضد ما تم في المؤتمر الإسلامي بالقدس في ديسمبر 1931، الذي قدم ميثاقا عربيا ينصّ على وحدة العالم العربي.
وهكذا صدر في 29 مايو 1941 بيان عن وزارة الخارجية البريطانية كان مما جاء فيه أن “كثيرين من مفكري العرب يرجون للشعوب العربية درجة من الوحدة أكبر مما عليه الآن، وحكومة صاحبة الجلالة من ناحيتها ستؤيد كل التأييد أية خطة تلقى من العرب موافقة عامة”.
وكان وزير خارجية بريطانيا يومها هو “الشبحيّ” في ظلّ ونستون تشرشل، أنتوني إيدن، والذي كان أطرف وصف له ما جاء على لسان الرئيس عبد الناصر بعد ذلك بسنوات، عندما قال إنه (أي جمال) ليس “خِرِعْ” كإيدن.
ويقول المدافعون عن الجامعة بأن تصريح إيدن اتخذه البعض ذريعة لتشويه فكرة تأسيس الجامعة والادعاء بأنها صنيعة بريطانيا، إلا أن الأحداث التاريخية تؤكد أن هذه الحجة واهية، ولا تستقيم مع واقع الأحداث، حيث كانت بريطانيا تضع العراقيل أمام الجامعة العربية منذ نشأتها، مدعية أنها لا تتمتع بشخصية قانونية دولية.
والمهم هو أن شهر مارس 1945 شهد التوقيع على الصيغة النهائية لنصّ “ميثاق جامعة الدول العربية” من قبل رؤساء حكومات خمس دول هي مصر ولبنان والعراق وشرق الأردن وسوريا ثم وقعت السعودية فيما بعد.
ولن أدخل في تفاصيل الميثاق مكتفيا بتسجيل النقاط التي جعلت من الجامعة مجرد ديكور بروتوكولي، لا يصكّ ولا يحكّ، بالتعبير الجزائري، أي لا يهِشّ ولا ينِشّ، وهكذا لم تتمكن الجامعة من حلّ أي قضية عربية.
كانت المشكلة الأولى هي أن القرارات الملزمة هي تلك التي تتم بالإجماع، وليس بالأغلبية كما هو الحال في المؤسسات الدولية، وكان هذا سبب الشلل الرئيسي في المواقف السياسية للجامعة.
وكانت أهم نقاط الضعف التي برزت سلبياتها في السنوات الأخيرة هي اختيار الأمين العام الأول للجامعة، فقد طغت عظمة الأمين العام الأول للجامعة وانتماؤه لأهم وأقوى بلد عربي آنذاك على الدراسة العلمية التي تحدد دور الجامعة، ومهمة الأمين العام وصلاحياته وعلاقاته.
كان عبد الرحمن باشا عزام قطبا عربيا مرموقا ينتمي إلى أسرة جذورها من شبه الجزيرة العربية، تعلم مهنة الطب في كلية سان توماس بجامعة لندن، ثم شارك في حرب البلقان مع قوات الدولة العثمانية، وعمل مع الحركة الليبية الوطنية ضد الاحتلال الإيطالي، وساهم في إقامة أول جمهورية في العالم العربي ألا وهى الجمهورية الطرابلسية، واستطاع أن يتقلد منصب أول مستشار للجمهورية الليبية الأولى، كما عمل على التوفيق بين الزعماء الليبيين (وهو ما يجعلنا اليوم نشتاق لوجوده في ليبيا).
وكان عزام أحد أعضاء الوفد المصري في صياغة ميثاق جامعة الدول العربية، ولعله كان أهم الأعضاء بدون استثناء، ووقع الاختيار عليه وبالإجماع، ليكون أول أمين عام للجامعة.
وهكذا أصبح انتماء الأمين العام لدولة المقر عرفا سائدا، إذ لم يتم النص على غير ذلك في الميثاق، وهي وضعية تتناقض مع كل المؤسسات الدولية، مثل منظمة الأمم المتحدة ومنظمة الوحدة الإفريقية بعد ذلك ثم الاتحاد الإفريقي.
وكانت هذه القضية مثار لغط كبير في السنوات الأخيرة، حيث أسيء التعبير عن موقف الجزائر من هذه القضية يومها أو أسيئ تفسيره، في مرحلة كانت المنطقة تعاني من تداعيات أزمة سياسية أثارتها مباراة كرة أريد لها هدف غير رياضي.
وقيل يومها أن الجزائر تدعو لتدوير المنصب على كل الدول العربية، وهو ما كان تشويها للفكرة الرئيسة نتج عن سوء الطرح وسوء بعض النوايا، فالأمر يومها، في حدود ما أتذكر، كان الدعوة لكي يكون الترشيح من مجموع الدول العربية وليس من دولة واحدة، بدون أن يعني هذا رفضا للمرشح المصريّ لمجرد أنه ينتمي لدولة المقر، حيث لم يكن هناك من يجهل الثروة الديبلوماسية التي تمتلكها مصر، وتعطيها الأولوية في التقدم للترشيح، والتي مكنت رجالات من نوع عزام باشا وعبد الخالق حسونة ومحمود رياض من تصدر الإرادة العربية الجماعية.
وتغيرت الأوضاع بعد اتفاقية كامب دافيد، وبغض النظر عن حق مصر الكامل في تحديد سياستها، فإن ما تم في السبعينيات غيّر من معطيات العمل العربي التي تجعل من الكيان الصهيوني أبعد ما يكون عن دور الحليف أو الصديق، مع احترام متطلبات الجوار الجغرافي الذي يأخذ بعين الاعتبار متطلبات الأمن القومي العربي.
ثم جاء فشل الجامعة في التعامل السياسي الذكي والمنطقي مع غزو الكويت، ووضع كل شيئ حيث يجب أن يكون، وكان ذلك سببا في استقالة الشاذلي القليبي، أول أمين عام غير مصري من مهامه، إثر مهزلة المؤتمر العربي في 1990.
ولن أندد بالدور السلبي للجامعة العربية تجاه مأساة تدمير العراق، فما لجرح بميّت إيلام.
وليس سرا أن اعتماد الجامعة لما أطلق عليه “المبادرة العربية” كان أمرا غريبا يثير السخرية، حيث أن العدو الصهيوني أعلن رفضه لهذه المبادرة منذ أن كانت جنينا في أفكار “فريدمان”، ولن أذكر بكل التصريحات الإسرائيلية الرافضة لما يتردد عن حدود ما قبل 5 يونيو، والذي أصبح نكتة “بائخة” ولا بتعنتر رئيس الولايات المتحدة الذي لم تتحرك الأمم المتحدة لكي تدين تنكره لقرارات الأمم المتحدة نفسها بقرار نقل عاصمة إسرائيل إلى القدس، والذي تعمد ألا يكون …القدس الغربية.
ولن أذكر بأن الجامعة المصون لم تقطب جبينها الوضّاء ورونالد ترامب يُوجّه الإهانة تلو الإهانة لبلد عربي مؤسس للجامعة.
ولن أتوقف عند فشل الجامعة في تحقيق الوئام بين الضفة وغزة، ولا داعي للتأكيد بأنها لا تملك القرار.
وهذا يُلغى أساسا الدور الذي أقيمت الجامعة من أجله، أو قيل أنها أقيمت من اجله، وبالتالي فإن هذا يتطلب تغييرا جوهريا في مهمتها الأساسية، وهنا تبدو ضرورة تعديل ميثاق الجامعة ليكون أقرب إلى منطق الواقع المعيش، الذي يرتفع فيه علم إسرائيل على بعد أمتار من مؤسسة عربية كانت مهمتها هي محاربة إسرائيل.
وهنا يبدو من المنطقي أن تتوجه جامعة الدول العربية إلى مجال آخر، ويتم تغيير ميثاقها لكي ينحصر اهتمامها في القضايا الثقافية وتوحيد مناهج التعليم في الوطن العربي، ويمكن أن يُضاف إلى ذلك دورٌ ما في المجال الاقتصادي لتحقيق إنجاز ما في إطار التكامل العربي.
وعودة إلى قضية الأمانة العامة، وقد قلت إن وجود عدد هام من كبار الديبلوماسيين في مصر يعطيها الأهلية لترشيح المسؤول الأول عن الجامعة، وبشرط أن يكون ذلك تعبيرا عن إرادة عربية عامة، وليس مجرد رغبة وزارية أو إيحاء سلطوي محلي.
ولست أحمقا لكي أدعو لفكرة تدوير المنصب على كل الدول العربية، فهذه تضم دولا لا علاقة لها بالعربية كما قال يوما العقيد القذافي، ولن أتحدث عن دول أمامها من المشاكل الداخلية ما يمنعها من مجرد التفكير في تقديم مرشح للجامعة العربية.
لكنني لا أفهم أن تُحرم من الترشح للأمانة العامة، وبدون أي سند قانوني، شخصيات عربية مثل الحسن بن طلال أو الأخضر الإبراهيمي، وقبلهم في السنوات الماضية سعود الفيصل وعبد الرحمن اليوسفي والهادي بكوش رحمهم الله، وكذلك خالد الفيصل وسليم الحصّ وكثيرون آخرون يمكن أن يتقدموا إلى جانب القامات المصرية، أو من بقي منها على قيد الحياة.
ثم لماذا لا يسمح لمسيحيّ عربي بالترشح للأمانة العامة، والمسيحيون جزء رئيس في النسيج البشري العربي، وكانت قياداتهم في طليعة العمل القومي، ويكفي أن قيمة وقامة في مستوى المصري مكرم عبيد قال يوما ما معناه: أنا مسيحي دينا، عربي ثقافة، مُسلم حضارة.
باختصار شديد، جامعة الدول العربية مؤسسة انتهى دورها السياسي ولا بد من بناء مؤسسة جديدة، كما تمت إقامة الأمم المتحدة مكان عصبة الأمم، والاتحاد الإفريقي مكان منظمة الوحدة الإفريقية (وبغض النظر عن الفروق في المهام والصلاحيات)
وإذا صحّ بأن الرئيس المصري أنور السادات رحمه الله كان قد اقترح أن يُحوّل مبنى الجامعة في القاهرة إلى فندق فإنني أقترح أن يكون مكان المؤسسة الجديدة هو …الإسكندرية، تماما كما أن نيويورك وليس واشنطون هي مقر منظمة الأمم المتحدة.
دكتور محيي الدين عميمور
كاتب ووزير اعلام جزائري سابق