بغض النظر عن المواقف المتباينة من الحرب شبه الدولية الدائرة على أرض بلاد الشام والتي دخلت الآن في نهاية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين سنتها التاسعة هناك حقائق ومسلمات.
لا يختلف كثيرون في أن تركيا لعبت الدور الأكثر انكشافا في الحرب الدائرة على أرض الشام منذ منتصف شهر مارس 2011، فمن أراضيها دخل الجزء الأكبر "حوالي 92 في المئة" من العتاد والذخيرة التي استخدمت من طرف جل التنظيمات المسلحة التي حاربت الجيش العربي السوري، وعبر أراضيها وفي اسواقها تم بيع النفط السوري الذي استخرج من الأراضي التي سيطرت عليها التنظيمات المسلحة بما فيها داعش والقاعدة. ومن الأراضي التركية وعبر موانئها ومطاراتها تم استجلاب عشرات آلاف الأشخاص من حوالي 80 دولة عبر العالم الذين انضموا الى التنظيمات المسلحة التي قاتلت وتقاتل من أجل إسقاط حكومة دمشق. ومن تركيا أرسلت الولايات المتحدة وحلفائها من دول الخليج وأوروبا وإسرائيل المؤن والأسلحة وغيرها، معدات ومصانع سورية كاملة وخاصة من مدينة حلب قيمتها عدة مليارات من الدولارات نقلت إلى تركيا لتستغل هناك أو لتباع في مختلف الأسواق الخارجية. الطيران الحربي التركي وبتنسيق كامل مع القوات الأمريكية المتمركزة في قاعدة انجرليك بجنوب شرق تركيا فرض عمليا حظرا على تدخل طيران الجيش السوري ضد التنظيمات المسلحة في المناطق السورية المتاخمة للحدود التركية مما قلص القدرات العسكرية السورية، هذا الوضع من الحظر الفعلي على الطيران السوري انتهى عمليا في 30 سبتمبر 2015 عندما تدخلت روسيا لدعم الجيش العربي السوري. القوات المسلحة التركية تدخلت عشرات المرات بالقصف المدفعي وأنواع الدعم الأخرى لإسناد التنظيمات المسلحة كلما واجهت أوضاعا غير مواتية.
بعد الانهيار شبه التام للتنظيمات المسلحة المختلفة التوجهات في سوريا أمام الجيش العربي السوري وحلفائه وفي مقدمتهم روسيا، عملت أنقرة بجيشها على حماية ما تبقى من هذه الوحدات في جيب إدلب شمال غرب سوريا بدعم كامل من واشنطن وإسرائيل، وبرغم التقلص المتواصل لمساحة جيب إدلب الخاضع للحماية التركية لا تزال حكومة الرئيس أردوغان ومعها واشنطن وأطراف أخرى تعاند لمنع سقوط الجيب بكامله تحت سيطرة دمشق.
إسرائيل التي دعمت بالسلاح والأموال والمعلومات الاستخبارية التنظيمات المسلحة في جنوب غرب سوريا، استفادت ولا تزال من شبكات الرادار والتشويش التركية الأمريكية لشن وتغطية المئات من غارات الطيران الإسرائيلي على اهداف متعددة في سوريا، وتقدر أوساط بحث كندية "غلوبال ريسيرش" أن تل أبيب أنفقت من سنة 2012 وحتى 2016 حوالي 1600 مليون دولار لدعم التنظيمات المسلحة المعارضة لدمشق في منطقتي درعا والقنيطرة جنوب غربي سوريا.
بعد حوالي 72 شهرا على اندلاع الحرب في بلاد الشام اكتمل تشكيل ثلاث غرف عمليات مشتركة أمريكية بريطانية تركية إسرائيلية، لتنسيق وجود وأمن القوات الأمريكية أساسا داخل الأراضي السورية، أحد هذه الغرف كان في تركيا وآخر كان في الكيان الصهيوني.
الحكومة التركية أكدت رسميا ولمئات المرات خلال سنوات الحرب التسعة في بلاد الشام أنها لا تعترف بحكومة دمشق ولن تقيم أي علاقات معها وأنها ترغب في رحيل نظام الرئيس بشار الأسد وحزب البعث، هذه المطالب هي نفسها التي تطرحها واشنطن وتل أبيب وأطراف أخرى.
التعاقد من الباطن
حربا أفغانستان من 2001 وحتى 2020، ثم عملية احتلال العراق سنة 2003، وتكلفتهما العالية اقتصاديا وبشريا دفعت الادارات الأمريكية المتعاقبة على السلطة في البيت الأبيض على البحث عن طرق بديلة للإستخدام المكثف للقوات الأمريكية، وفي نفس الوقت مواصلة صيانة وتطبيق الأهداف الأمريكية.
هكذا بدأت تتسع عملية إنابة حلفاء واشنطن على القيام بدور القوة العسكرية الأمريكية، وهو ما اصطلح على وصفه بعض الخبراء بالتعاقد من الباطن.
الفوضى التي عمت ليبيا بعد اسقاط حلف الناتو للنظام القائم، التدخل كان شكلا من عمليات التعاقد من الباطن، لم تمكن واشنطن من فرض هيمنتها على ليبيا لأسباب عديدة منها فشل أنصارها مما يسمى تيار الاسلام السياسي في البقاء على قمة السلطة في طرابلس بعد خسارتهم المدوية في الانتخابات التشريعية في 25 يونيو 2014، وقيام البرلمان المنتخب بتشكيل حكومة رفض خصومها المسيطرون بمليشياتهم على طرابلس الاعتراف بها وأقاموا سلطة بديلة بذلت واشنطن وبعض حلفائها جهودا ضخمة وبواسطة مناورات عديدة لإضفاء الشرعية عليها من طرف الأمم المتحدة.
قاعدة متقدمة للتوغل في الاتجاهات الأربع كانت هذه من ضمن أهداف المخطط الأمريكي الأصلي في ليبيا. عملية التحويل لهذا البلد الشاسع المساحة والمسيطر على حوالي 28 في المئة من الساحل الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط والملاصق لأراضي مصر والسودان شرقا والجزائر وتونس غربا والممتد في عمق القارة الأفريقية حتى تخوم منطقة الساحل، لم تصطدم فقط بالتحولات الداخلية في ليبيا بل كذلك بتقلب تركيبة التحالفات التي سمحت لواشنطن بإستخدام قوات حلف الناتو وفي مقدمتهم فرنسا لإسقاط نظام العقيد معمر القذافي.
مع تعثر مشروع الفوضى الخلاقة في المنطقة العربية والذي كان يقضي بإعادة رسم خرائطها وتقسيمها إلى ما بين 54 و 56 دولة على أسس عرقية ودينية وطائفية ومناطقية، وجدت واشنطن نفسها تواجه أطرافا متعددة تعمل على إفشال مشاريعها في ليبيا.
مصر شعرت بخطر تحويل ليبيا إلى قاعدة لتصدير عمليات القوى المسلحة المناهضة لها من الغرب على شاكلة ما تواجهه في الشرق بشبه جزيرة سيناء، بدرجة أقل حدة كان هناك شعور بالمخاطر من طرف الجزائر وتونس وموريتانيا والمغرب. فرنسا التي لها مصالح في مستعمراتها السابقة بأفريقيا أدركت أن واشنطن تستغل عبر ليبيا عدم الإستقرار في منطقة الساحل وعبر التنظيمات المسلحة المختلفة التوجهات لتقليص نفوذها والحلول مكانها عبر الشركات الأمريكية والملقبة بالمتعددة الجنسيات تماما كما فعلت في مناطق أخرى من العالم. الصين بدورها التي كانت تمد نفوذها الإقتصادي في القارة السمراء وجدت أن واشنطن تعمل عبر نشر الفوضى الخلاقة على نسف وجودها في هذه المنطقة الواعدة إقتصاديا والتي تملك موارد طبيعية من بترول وغاز ومعادن نفيسة لا تزال إلى حد كبير غير مستغلة. روسيا التي فقدت في ليبيا حليفا أرادت أن تستعيد جزءا من نفوذها الماضي ومنع واشنطن من استكمال طوق الحصار عليها من جناحها الجنوبي الغربي.
داخل الاتحاد الأوروبي الذي تشكل بعض دوله جزءا من حلف الناتو كان هناك إنقسام. المانيا ورغم حرصها حتى الآن على عدم الدخول في مواجهة مفتوحة مع واشنطن ساندت إلى حد كبير فرنسا، مواقف إيطاليا تقلبت بين تأييد أو معارضة سياسة واشنطن وفي الخلفية رهانها على جزء من المكاسب على الساحة الليبية ومنطقة المتوسط، باقي الأطراف الأوروبية حاولت ركوب قارب الحياد في انتظام تجلي الرؤية حول التحالف الرابح. بريطانيا التي عملت وفشلت في تفكيك الاتحاد الأوروبي من الداخل ثم انسحبت منه إختارت ركوب القطار الأمريكي.
حروب مكلفة
اعتبر الرئيس الأمريكي دونالد ترمب يوم الأربعاء 9 أكتوبر 2019 أن “التدخل في الشرق الأوسط كان أسوأ قرار اتخذ في تاريخ الولايات المتحدة”. وقال ترمب في تغريدة على تويتر “ما كان يجب أن تذهب الولايات المتحدة إلى الشرق الأوسط”. واضاف أن “الحروب الغبية التي لا نهاية لها انتهت بالنسبة لنا”. وأضاف “نعيد ببطء وبشكل آمن جنودنا وعسكريينا الرائعين إلى بلدهم”، موضحا أن النزاعات في الشرق الأوسط كلفت الولايات المتحدة نحو “ثمانية آلاف مليار دولار” فضلا عن حياة الآلاف.
وتابع ترمب “ذهبنا إلى الحرب بسبب فرضية خاطئة وتبين أنها كذلك: أسلحة دمار شامل. لم يكن هناك أي منها”، في إشارة إلى الاجتياح الأمريكي للعراق عام 2003. في نفس الوقت طلب ترمب من منظمة حلف شمال الأطلسي "لعب دور أكبرَ" في الشرق الأوسط، وزيادة نفقاتها العسكرية.
تصريحات الرئيس الأمريكي كانت حسب العديد من المحللين، مؤشرا جديدا للشروع في تطبيق عملية تبديل التكتيك، أي قيام تعاقد من الباطن لإنجاز ما كانت تنفذه الآلة العسكرية الأمريكية. في هذا التوقيت كان ما يعنيه رئيس البيت الابيض ويضعه ضمن الاولويات منطقة الخليج العربي وبلاد الشام وليبيا.
في ليبيا كان الصراع العسكري بين حكومتي بنغازي في الشرق الليبي وطرابلس في غرب البلاد يقترب من عملية حسم لفائدة الجيش الوطني الليبي التابع لحكومة عبد الثني وبقيادة اللواء خليفة حفتر. هذا الوضع لم يمكن لواشنطن أن تقبله لأنه حسب العديد من الساسة الأمريكيين كان يعني عودة النفوذ الروسي إلى جنوب المتوسط وإنهاء فرصة فريدة لإستكمال مشاريع الفوضى الخلاقة في شمال أفريقيا ومنطقة الساحل، وهنا جاء الدور التركي في عملية إعادة للمهمة التي يقوم بها في بلد الشام منذ سنة 2011.
عودة بسيطة للخلف في الزمن تبين الأمر بصورة جلية.
في العام 2004، نشرت صحيفة يني شفق التركية، أن الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش عرض على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان معالم مشروع أمريكا الجديد للشرق الأوسط الكبير، وجعل من تركيا عمودا فقريا و"طلب بوش من أردوغان أن تقوم تركيا بدور محوري في تنفيذ المشروع الأمريكي الجديد، بالترويج لما أسماه نموذجها الديمقراطي واعتدالها الديني، وهو مخطط كشف عنه وعن أهدافه بوضوح وزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو في عام 2012 عندما صرح بأن المنطقة تشهد تغييرا، إما القبول بالشرق الأوسط الجديد وإما الفوضى، وصرح أوغلو أيضا عقب وصول جماعة الإخوان إلى السلطة في مصر بأن تركيا ومصر ودول المنطقة ستؤسس للشرق الأوسط الجديد".
عملت أنقرة على عكس مسار الحرب في ليبيا بدعم حكومة طرابلس بالسلاح والمستشارين، وفي نهاية سنة 2019 وقعت انقرة وحكومة الوفاق الليبية اتفاقيتين إحداهما حول التعاون الأمني وأخرى في المجال البحري، وذلك خلال لقاء جمع فايز السراج والرئيس التركي رجب طيب أردوغان في إسطنبول، جدد خلاله الرئيس التركي استمرار دعم بلاده لحكومة الوفاق.
لما لم يكف الدعم التركي حتى ذلك التوقيت في عكس مسار الحرب، أقامت أنقرة جسرا جويا وبحريا نقلت خلاله إلى غرب ليبيا أكثر من 12300 مسلح من المليشيات التي كانت تقاتل في سوريا، وأضافت اليهم في فبراير 2020 حوالي 860 جندي وضابط من قوات النخبة في جيشها، وهكذا تمكن حلفاؤها من فك حصار الجيش الليبي على طرابلس والسيطرة على ترهونة وقاعدة الوطية ومناطق اخرى في الغرب الليبي وإجبار الجيش الليبي على الانسحاب إلى خط مدينة سرت الساحلية التي تعتبر مدخل ما يسمى بالهلال النفطي.
تجنب مواجهة مباشرة
جاء في تقرير نشره موقع "دويتش فيله" الألماني قبل هذه التطورات يوم 29 نوفمبر 2019 صعدت واشنطن من موقفها المعارض للتدخل الروسي المساند لحفتر، إلا أنها لا تريد مواجهة موسكو بشكل مباشر. وفي هذا السياق يرى محللون أن واشنطن منحت ضوءا أخضر لأنقرة العضو في الناتو للتدخل، في إشارة واضحة لموقف الحلف الرافض للمساعي الروسية لوضع قدم في حوض المتوسط.
ويرى الدكتور بشير عبد الفتاح الخبير في الشأن التركي في تصريح للوكالة الألمانية "أنه ما من شك في أن المنافسة الروسية الأمريكية أمر قائم وأن تركيا لديها رغبة جادة في منع وجود تموضع روسي طويل الأمد في المناطق الدافئة وفي شرق المتوسط، كما أن أمريكا مستاءة للغاية من تموضع روسيا في شرق المتوسط وقد تستخدم تركيا كذراع في هذا الأمر.
ويستدرك عبد الفتاح قائلا: "لكن هناك تحدي في هذا الشأن، هو العلاقات التركية الروسية، فتركيا من الأصل لا تريد الاصطدام بروسيا التي تتقارب معها استراتيجيا وتعتبرها احتياطي استراتيجي لها في مواجهة أمريكا والغرب الذين هم أصلا حلفاء تركيا لكنهم يعاملونها كحليف من الدرجة الثانية، بدليل وجود مشروع لصفقات تسلح جديدة بين الطرفين مثل اس 400 فضلا عن مقاتلات سوخوي 35 و 57 في حال فشل صفقة اف 35 الأمريكية والتعاون في مشروع خط "سوث ستريم" لنقل الغاز من روسيا إلى أوروبا عبر تركيا "فكل هذه المشاريع تخشى تركيا أن تتهاوى إذا ما اصطدمت بروسيا".
تنسيق انقرة وواشنطن
خلال شهر يونيو 2020 نشر موقع “بلومبيرغ نيوز” الأمريكي تقريرا أعده سيلكان هاكوغلو قال فيه إن تركيا حثت الولايات المتحدة على تعزيز موقعها في ليبيا وأشار الموقع إلى تصريحات وزير الخارجية التركي حول أهمية الدور الأمريكي، ضمن محاولات أنقرة بناء زخم دولي لعملياتها في ليبيا.
وقال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إن هناك إمكانية عقد صفقة مع الولايات المتحدة في ليبيا في أعقاب مكالمة هاتفية جرت يوم الإثنين 8 يونيو 2020 بينه والرئيس الأمريكي دونالد ترامب. ويضيف الموقع إن إدارة ترامب لم تعترض على التدخل العسكري التركي في ليبيا والتي لو كانت نتائجه مرضية لأردوغان فستؤدي إلى ضربة لروسيا وطموحاتها في هذا البلد الغني بالنفط.
وصرح مولود تشاوش أوغلو إن واشنطن وأنقرة يحاولان بحث كل الرؤى المتعلقة في ليبيا، خاصة ان موقفيهما باتا متداخلين. وأدى دخول تركيا في الحرب قبل عدة أشهر لحرف مسار الحرب لصالح حكومة طرابلس. وشمل الدعم التركي للحكومة الليبية معدات عسكرية ومقاتلين سوريين وطائرات بدون طيار. وقال تشاوش أوغلو إن الولايات المتحدة ليست ناشطة في ليبيا بسبب الحادث المأساوي، في إشارة لاغتيال السفير الأمريكي في بنغازي عام 2012. وأضاف في مقابلة مع تلفزيون "أم تي في" إن على الولايات المتحدة والناتو لعب دور ناشط في تحقيق الاستقرار بليبيا بدعم أنقرة.
في نفس الوقت صرح وزير الخارجية التركي إن العلاقة مع مصر وفرنسا زادت توترا، وأشار إلى أن انقرة تجري محادثات مع الكرملين حول ليبيا.
لعبة السياسة
تدرك موسكو أهداف أنقرة وواشنطن ولكنها مثل ساسة البيت الأبيض لا تستخدم التصريحات لتصعيد لا نفع منه. في عالم الدبلوماسية ليس من الضرورة كشف كل الحقيقة. رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل خلال الحرب العالمية الثانية قال، "في زمن الحرب يصبح الصدق شيئا ثمينا، ولكن لابد أن يحاط بسياج من الأكاذيب".
اقترنت السياسة بالخداع والمبالغة ربما منذ ظهورها، إلى أن ظهر المفكر "نيقولا ميكيافيلي"، فأرسى "الأساس الأخلاقي" للخداع، وأعلن صراحة أن ما يعتبر من الأخلاق الحميدة والاستقامة بين الأفراد.. قد لا يصلح في السياسة والحكم.. والعلاقات الدولية".
وفي زمن الرئيس الأمريكي جيمي كارتر صرح "جودي باول" السكرتير الإعلامي أنه "تحت بعض الظروف، ليس للدولة الحق في أن تكذب فقط، بل يصبح الكذب واجبا إيجابيا".
بعد إنسحاب الجيش الليبي بقيادة اللواء حفتر إلى منطقة سرت كانت أنقرة تتصور أنه يمكن التقدم شرقا بسرعة والاستيلاء على الهلال النفطي الذي سيطرت عليه لمدة سبعة أيام إبتداء من 3 مارس 2017 مليشيات "سرايا الدفاع عن بنغازي" وهي مليشيات محسوبة على تنظيمات الاسلام السياسي متحالفة مع حكومة السراج، ولكن تدخلا كثيفا للطائرات المساندة للجيش الليبي صد المهاجمين.
بعد هذا التطور أعلنت القاهرة أنها ستتدخل عسكريا إذا طلبت منها ذلك حكومة بنغازي ولمنع تقدم القوات الموالية لطرابلس وتركيا نحو سرت، فيما تحركت باريس في نفس الاتجاه ودعمت موقف القاهرة. الرئيس الفرنسي توافق كذلك مع الرئيس الروسي بوتين حول الوضع في ليبيا ومنع تركيا من تنفيذ مخططاتها.
حسب مصادر رصد في العاصمة الألمانية برلين لجأت أنقرة إلى الرئيس ترمب حيث أنها يمكن أن تمنى بخسائر كبيرة وإنتكاسة إذا دخلت في مواجهة في ليبيا مع تحالف يضم مصر وروسيا وفرنسا والأطراف الأخرى المساندة لهما.
واشنطن كالعادة تحركت أولا في الكواليس، حيث أبلغت دوائر سياسية أمريكية القاهرة أنه في حالة تدخل الجيش المصري في ليبيا ستكون هناك دعوات قوية في الكونغرس الأمريكي لفرض عقوبات على مصر ووقف تسليم اسلحة وذخائر يحتاجها الجيش المصري لأسلحته الأمريكية الصنع كما يمكن حجب المعونات الاقتصادية والأمنية، تحذيرات البيت الأبيض تضمنت كذلك ايحاءات بأن موقف القاهرة المناهض لحكومة طرابلس وأنقرة سيؤثر سلبا على تطور المفاوضات مع أثيوبيا حول تقاسم مياه نهر النيل.
تحذيرات أمريكية مشابهة وبمعطيات متبدلة تم ابلاغها لعدد من الأطراف العربية خاصة في الشمال الأفريقي خاصة تلك التي لم تر بعين الرضى خطط أنقرة المعلنة لإقامة قاعدتين عسكريتين في ليبيا.
في عملية تكميلية للضغوط تحركت الآلة الاعلامية الضخمة والمتفوقة لواشنطن وأنصارها، لتثير عواصف متعددة، وكما قال دبلوماسي ألماني شملت إحياء أو إختلاق ملفات سياسية واقتصادية وانسانية وغيرها لإحراج وتخويف الأطراف التي تعتبر مرشحة لمعارضة التدخل التركي.
الكاتب الفرنسي فرانسوا جيري صاغ مفهوما فلسفيا واعتبر أن الإعلام والإخبار في أحد وجوهه "هو تنزيل جمالية المفكر في عالم الفوضى والجهل والظلام. أما التضليل فهو توجيه العقل البشري إلى عهود سابقة وإلى تشوّه بدائي من أجل إحياء حالة التنافر في العالم". ويرى هذا الكاتب أن التضليل نشأ مع الإعلام وظل حركة دائمة تتطور أساليبها بحسب تقنيات الاتصال المتوفرة. وفي كتابه "معجم التضليل الإعلامي" خلص فرانسوا جيري إلى تعريف جامع لمصطلح التضليل الإعلامي، فهو "مؤسسة جماعية لصياغة رسالة مفتعلة وتركيبها ونشرها، والهدف الرئيس من ذلك هو خداع المتقبل المستهدف من أجل تحقيق مكسب من الاستخدام الخاطئ الذي من المتوقع أن يقوم به".
وفي ماي 1980 اعتمدت الأكاديمية الفرنسية كلمة التضليل في معجمها بهذا التعريف: التضليل عملية ظرفية أو متواصلة تهدف باستخدام جميع الوسائل إلى إيقاع الخصم في الخطأ، وهي أيضا المؤامرة والتخريب في صفوف الخصم بغرض إضعافه". التضليل هو فعل عدائي يهدف إلى إضعاف الخصم عبر تشويش معلوماته وإرباك قدراته على اتخاذ القرار. ومن نتائج ذلك تعزيز قوة الفاعل مقابل إضعاف قدرات الخصم على رد الفعل.
البنتاغون يتحرك
زيادة على التحذيرات المغلفة وأمام احتمال عدم نفعية كل الإنذارات، باشرت واشنطن تطبيق نفس الأساليب التي اتبعتها في بلاد الشام عندما تبين لها أن سقوط دمشق أصبح أمرا مستبعدا، أي التدخل العسكري المباشر أو الخفيف.
يوم الاثنين 22 يونيو 2020، عقد اجتماع بين رئيس المجلس الرئاسي فائز السراج ورئيس القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا "الأفريكوم" الجنرال ستيفن تاونسند. حضره وزير الداخلية فتحي باشاغا، وآمر المنطقة العسكرية الغربية اللواء أسامة الجويلي من الجانب الليبي، والسفير الأمريكي لدى ليبيا ريتشارد نورلاند، من الجانب الأمريكي. واشنطن ذكرت أن الزيارة تستهدف مواجهة التدخل الروسي ومواجهة التنظيمات الإرهابية.
وزير الداخلية في حكومة طرابلس فتحي باشاغا قال على صفحته في "تويتر"، في سلسلة من التغريدات إن "الاجتماع مع السفير الأمريكي وقيادة "الأفريكوم" كان إيجابيا" وأن "وجهات النظر كانت متوافقة بشأن دعم جهود الأمن، والاستقرار، والاقتصاد في ليبيا، وتعزيز العمل المشترك بين المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني والولايات المتحدة الأمريكية بالخصوص".
وحول التدخلات الأجنبية وتفكيك المليشيات؛ قال الوزير إن المجتمِعين اتفقوا على ضرورة إنهاء التدخلات الأجنبية "غير الشرعية" و"دعم سيادة ليبيا ووحدة أراضيها من أي تهديدات خارجية والعمل على تفكيك الميليشيات الخارجة عن القانون، كونها أحد أسباب عدم الاستقرار ودعم جهود حكومة الوفاق الممثل الشرعي لدولة ليبيا". المعروف أ ن أنقرة وطرابلس تعتبر الجيش الليبي مليشيات ومرتزقة.
مصادر المانية وفرنسية وروسية ذكرت أنه سبق وكذلك مع وصول وفد "الافريكوم" وصول 3 طائرات عسكرية أمريكية من طراز س 130 و س 141 نقلت على متنها معدات مختلفة وطائرات دون طيار وعشرات العسكريين الأمريكيين الذين تمركزوا في مطارات عسكرية منها الوطية قرب طرابلس استعدادا لما هو آت.
البعد الاستراتيجي
يرى محللون أن المواجهة في ليبيا لن تنتهي بسرعة وتحمل في طياتها كل أشكال المخاطر لأن حسمها في أي اتجاه ستكون له تأثيرات عميقة على التوازنات في منطقة المتوسط وأبعد من ذلك.
يزيد صايغ الخبير في مركز كارنيغي لدراسات الشرق الاوسط ذكر إنه لن تكون هناك حرب شاملة تشارك فيها القوات المصرية في ليبيا.
ورأت كلوديا غازيني من مجموعة الأزمات الدولية أن مصر وحلفاءها العرب ليس لديهم وهم أنهم سيعيدون الجيش الوطني الليبي إلى طرابلس. إن موقفهم بالأحرى دفاعي.
مصر ذكرت مرارا إن حدودها الغربية الطويلة مع ليبيا التي تمتد لمسافة 1200 كيلومتر مصدر قلق أساسي بالنسبة لها. وأكدت القاهرة أن اعتداءات وقعت داخل الأراضي المصرية خطط لها جهاديون تسللوا عبر الحدود مع ليبيا. وقال صايغ إن مصر لا تثق في حكومة الوفاق وتنظر للتدخل التركي كتهديد جاد. وأضاف أن دعمها لحفتر يرجع بالأساس إلى أنها تأمل أن يتمكن من تأمين الحدود المشتركة ومنع الجهاديين من عبور الحدود.
ويرى المحللون أن السيناريو الأقرب هو أن تتدخل مصر لمساعدة حفتر على الاحتفاظ بالأراضي التي يسيطر عليها.
ويقدر صايغ أن تدخلا مباشرا سيساعدهم "قوات حفتر" كثيرا بتأمين ظهرهم وبالتالي سيتمكنون من إعادة نشر جزء من قواتهم في وسط ليبيا وسيؤدي كذلك إلى رفع روحهم المعنوية ووقف تقدم الاتراك.
ولم يوضح الرئيس المصري السيسي طبيعة التدخل المباشر الذي تحدث عنه ولكنه دعا القوات المصرية ، أثناء زيارة لقاعدة سيدي براني الجوية القريبة من الحدود مع ليبيا، إلى الاستعداد لأي مهمات داخل أو خارج الحدود المصرية.
كما أبلغ ممثلي القبائل الليبية أن مصر على استعداد لدعم وتسليح وتدريب شبابها.
تقول مصادر رصد في العاصمة اللبنانية بيروت:
تبدو الأمور أكثر تعقيدا في تفاصيل التدخل العسكري، لكن تحديد التوقيت هو مسؤولية مشتركة بين الرئيس ووزير الدفاع ومديري المخابرات العسكرية والعامة، وهي أمور جرت مناقشتها في لقاءات سرية وأخرى علنية، وسط محاولات لإعطاء مساحة للتفاوض حول تثبيت الوضع عسكريا وبدء مفاوضات سياسية، الخطوة التي تفضل مصر السير فيها، وخاصة أن التدخل المباشر، الذي سيكون الأول منذ حرب الخليج الثانية، لن يكون سهلا في تبعاته رغم مشروعيته الدولية التي حرصت القاهرة على استكمالها في الأسابيع الماضية. وصحيح أن هناك آلاف الأسلحة التي أرسلت بدعم إماراتي وسعودي إلى قوات حفتر في السنوات الماضية، لكن تنفيذ عمليات عسكرية باسم القوات المسلحة المصرية سيكون له أثر مختلف عن الحروب بالوكالة، ولا سيما أن المواجهة المباشرة ستكون مع تركيا التي تطلق تصريحات إيجابية أخيرا ربما تخلق تفاهمات معلنة أو غير معلنة سيدها التدخل العسكري.
من الحسابات المصرية أيضا محاولات التقرب المبالغ من حكومة السراج تجاه واشنطن، والوعود بالسماح بإقامة قاعدة عسكرية أمريكية بعد السيطرة على سرت والجفرة، اللتين تعتبرهما القاهرة خطاً أحمر، لن تسمح بمغادرة حفتر لهما، كما توجد مشكلة رئيسية أخرى مرتبطة بالموقف الأمريكي الذي قد يتغير مع بدء التدخل العسكري المصري. وثمة رؤية تقول إن تزويد حفتر وأبناء القبائل بالسلاح علنا لن يكون أيضا خيارا متاحا، وإن الأفضل منه تدخل سلاح الجو عبر قاعدة "الجفرة"، التي تستخدم كمركز عمليات، أو الانطلاق من المطارات المصرية العسكرية في المنطقة الغربية لتنفيذ غارات محددة الأهداف لتدمير عتاد الأسلحة والمليشيات السورية المنشأ خلال انتقالها من طرابلس إلى سرت.
تركيا نيابة عن واشنطن تسعى لإقامة قواعد في ليبيا تكون جزء من طوق الحصار الذي تجري محاولات لفرضه على روسيا من جناحها الجنوبي الغربي. مضيق البوسفور تتحكم فيه أنقرة ويمر عبره أسطول البحر الأبيض الروسي، لكن الكرملين نجح في تخفيف تأثير ذلك بعد أن حصل على قاعدتين في سوريا إحداهما في ميناء طرطوس للأسطول الحربي واخرى جوية في حميميم قرب ميناء اللاذقية. وجود قواعد تركية أو أمريكية في ليبيا يغلق شرق المتوسط على الأسطول الروسي عن طريق مضيق مسينا وهو عبارة عن ذراع بحري يصل بين البحر التيراني بالبحر الأيوني في البحر الأبيض المتوسط يفصل بين جزيرة صقلية وشبه الجزيرة الإيطالية، وبالتالي يقلص من أهمية نجاح موسكو في الوصول إلى المياه الدافئة.
حقول النفط
في سوريا سيطرت القوات الأمريكية على أهم حقول النفط السورية شرق البلاد بعد أن كانت تحت سيطرة التنظيمات المسلحة وذلك في نطاق محاولاتها خنق دمشق اقتصاديا، ومع اقتراب شهر يونيو 2020 من نهايته ظهرت مؤشرات أن البيت الأبيض يحاول تكرار التجربة في ليبيا. فيوم 28 يونيو ذكرت السفارة الأمريكية ما وصفته بدخول مرتزقة إلى حقول النفط بالإعتداء المباشرعلى سيادة ليبيا وجددت السفارة الأمريكية دعم الولايات المتحدة الكامل للمؤسسة الوطنية للنفط وسط ما وصفته بالحملة غير المسبوقة المدعومة من الخارج لتقويض قطاع الطاقة في ليبيا ومنع استئناف إنتاج النفط.
وأضافت السفارة في بيان رسمي أنها تشارك قلق مؤسسة النفط الليبية بشأن "التدخل المخجل" من المرتزقة الأجانب ضد مرافق مؤسسة النفط والأفراد في حقل الشرارة النفطي، والذي يشكل اعتداء مباشرا على سيادة ليبيا وازدهارها.
وأعربت السفارة أيضا عن أسفها لعدم تمكن الأطراف الليبية من التوصل إلى حل من شأنه رفع الحصار الذي لا داعي له عن النفط والغاز والسماح لشركة النفط الوطنية باستئناف عملها الحيوي في جميع أنحاء البلاد نيابة عن جميع الليبيين.
وقالت السفارة إن تمكين شركة النفط الوطنية من إعادة تشغيلها يعد شرطا أساسيا للتوافق الليبي الذي تشتد الحاجة إليه بشأن التوزيع العادل لثروة البلاد. وكلما طالت فترة احتجاز النفط الليبي رهينة للمصالح الأجنبية، كلما استغرق الأمر وقتًا أطول لاستعادة ليبيا اقتصاديا، ودفع أجور القطاع العام، وتحسين البنية التحتية، وتغطية تكاليف استيراد المواد الغذائية والأدوية الأساسية.
وأضافت السفارة أن السماح لشركة النفط الوطنية باستئناف عملياتها على الفور يعد خطوة حاسمة لإعادة إرساء السيادة الليبية وضمانة حاسمة لمنع المزيد من التلاعب الخارجي والعمل العسكري مع عودة الجهات الفاعلة المسؤولة إلى محادثات وقف إطلاق النار التي تسيرها الأمم المتحدة والمطالبة بإنهاء التدخل الأجنبي.
وتقع أغلب حقول النفط ومنشآت التصدير في مناطق تخضع لسيطرة قوات شرق ليبيا.
ما بين الحرب والتفاوض
وفق مصادر مطلعة، تطالب تركيا بالعودة إلى خطوط قتال سنة 2015 أي حتى قبل أن يكمل الجيش الليبي تطهير بنغازي من التنظيمات الجهادية وذلك قبل بدء التفاوض، ومع مرور الوقت تأمل أنقرة في كسب المزيد من الأرض للحصول على قدر أكبر من المكتسبات، خاصة مع وجود تصورات مسبقة لكل طرف من أطراف النزاع يريد فرضها، حتى لو كانت ستنتهي بحلول وسطية يقدم فيها الجميع تنازلات. أما المصريون وحكومة بنغازي ومعهم روسيا وفرنسا، فيرون أن العودة إلى هذه الحدود تنسف ما تم خلال السنوات الخمس الماضية، ولذلك يستحيل أن تقبله، خاصة مع تغير الواقع العسكري، ومع وجود نحو عشرة آلاف مقاتل سوري وأسلحة تركية متطورة.
خط أحمر لأكثر من دولة
جاء في تقرير أمريكي نشره موقع الحرة يوم 21 يونيو 2020: تعثر التقدم السريع لقوات طرابلس المدعومة من تركيا في ليبيا في مدينة سرت الساحلية، بسبب تدخل روسيا بشكل واضح في الصراع، مما ينذر بمساومة صعبة بين أنقرة وموسكو، وفقا لموقع "مونيتور".
فقد واجهت الطائرات بدون طيار التركية، التي ساعدت في تحويل المعركة لصالح حكومة الوفاق الوطني، قيوداً كبيرة في تحركاتها بسبب الطائرات الروسية خلال الأسابيع الأخيرة.
وكانت القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا "أفريكوم" قالت إن طائرات روسية تسلمتها ليبيا في مايو تستخدم على نطاق واسع، مشيرة إلى أن 14 طائرة ميغ 29 على الأقل وعدة طائرات سوخوي 24 نقلت إلى ليبيا عبر سوريا.
وبعد خسارة حفتر لقاعدة الوطية أهم القواعد العسكرية الليبية شهر مايو 2020، سحبت موسكو مسلحي فاغنر، الذين دعموا حفتر، إلى الجفرة في وسط ليبيا، والذي اُعتبر علامة على أن المنطقة ستصبح بمثابة خط أحمر بالنسبة لروسيا.
وفي أواخر مايو نشرت موسكو 14 طائرة من طراز MiG 29 و Su 24 على الأقل في الجفرة، وأظهرت أن هذا خطها الأحمر، ولم تبد أي مرونة فيما يتعلق بالسماح لسرت بالسقوط، محطمة آمال أنقرة في تكرار الانتصارات السهلة نسبيا في الوطية وترهونة.
جدل صاخب
وفي 14 يونيو، أجل وزيرا الخارجية والدفاع الروسيان زيارة إلى تركيا في اللحظة الأخيرة، مع استمرار الاتصالات الثنائية، وانسحبت موسكو من المحادثات بعد أن رفضت تركيا اقتراحا مصريا بوقف إطلاق للنار يتماشى مع الخطة الروسية.
كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد ذكر في 8 يونيو أن سرت والجفرة وحقول النفط الرئيسية هي الأهداف التالية للحملة، واعترف بأن روسيا "منزعجة"، وقال إنه سيناقش الأمر مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وحدث جدل صاخب على سرت بالفعل في أوائل يونيو، عندما زار وفد من حكومة الوفاق الوطني، بما في ذلك نائب رئيس المجلس الرئاسي أحمد معيتيق موسكو مؤكدا أن "سرت خط أحمر لروسيا"، بالعودة إلى طرابلس، اتصل بقائد عملية سرت - الجفرة، وحثه على وقف الهجوم بينما تعهد وزير الداخلية في حكومة الوفاق الوطني بالسيطرة عليها سرت، كما أمر رئيس الوزراء فايز السراج، عائدا من المحادثات في أنقرة، بمواصلة الهجوم.
وقال العميد عبد الهادي دراه، المتحدث باسم غرفة العمليات المشتركة بين سرت والجفرة، في 15 يونيو: "سرت خط أحمر بالنسبة لنا".
لماذا سرت خط أحمر؟
تقع سرت في منتصف الساحل الليبي، وهي البوابة الغربية لمنطقة "الهلال النفطي" في البلاد والطريق الذي يجب على أي طرف أن يسيطر ليتمكن من الوصول إلى موانئ زويتينة وراس لانوف والسدرة والبريقة، حيث يوجد 11 خط نفط و3 قنوات غاز.
ومن خلال الاستيلاء على سرت، يمكن السيطرة بسهولة على امتداد ساحلي بطول 350 كيلومترًا على طول الطريق إلى بنغازي، حيث تكثر خطوط الأنابيب والمصافي والمحطات ومرافق التخزين.
قبل اندلاع الحرب في 2011 في ليبيا، كان 96 في المئة من الدخل الليبي من النفط، حيث يبلغ احتياطي البلاد 48.3 مليار برميل من النفط و1.5 تريليون متر مكعب من الغاز.
من جهتها، تعتبر القاهرة أن سرت خطا أحمر لأنه في حال سقوطها في يد حكومة الوفاق ستسيطر على النفط الليبي مما يعطيها التفوق على قوات حفتر، وهذا سيساعدها في السيطرة على باقي المدن حتى تصل إلى الحدود المصرية.
كما تنظر فرنسا لسرت بنفس الأهمية التي تنظر بها روسيا، وتقدر أن واشنطن تحاول تهميشها.
وفي 14 يونيو، هاجمت فرنسا تركيا بسبب تزايد "عدوانيتها" في ليبيا، متهمة إياها بانتهاك حظر الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة، وطلبت عقد اجتماع للناتو بشأن هذه القضية، وقال وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان إن موقف تركيا "يشكل خطرا على أنفسنا وخطر استراتيجي غير مقبول لأنها تبعد 200 كيلومتر 124 ميلا عن الساحل الإيطالي".
مشكلة الأجنبي وذاكرة التاريخ
رغم نجاح تركيا في نقل حوالي 12 الف من المسلحين من ساحة بلاد الشام والزج بهم في القتال ضد قوات الجيش الليبي ودفعه إلى التراجع حتى خط دفاع سرت، تبرز عدة مشاكل تهدد بتعقيد إن لم يكن بنسف كل المشروع التركي.
طول مدة بقاء المسلحين داخل ليبيا سيخلق مشاكل كبيرة مع الليبيين سواء مدنيين أو عسكريين حتى من أنصار حكومة السراج خاصة أن المجتمع القبلي الليبي لا يتقبل فرض تصرفات وسلوكيات من خارجه، وبما أن المستقدمين من سوريا ينتمون في غالبيتهم إلى التيارات الجهادية التي لها أساليبها في التعامل مع المرأة واللباس والمظهر فهم سيصطدمون من المجتمع المحلي. في مدينة مصراته التي تعتبر متحالفة عسكريا مع حكومة طرابلس رفضت سلطات المنطقة دخول المسلحين القادمين من سوريا بل واتهم الكثير من سكان مصراتة القادمين بأنهم وراء المقابر الجماعية التي عثر عليها في ترهونة بعد إنسحاب الجيش الليبي منها ويشير كثيرون من الليبيين أنه طوال فترة الصراع في ليبيا بعد اسقاط نظام معمر القذافي لم تكن هناك ممارسة للقتل الجماعي أو مقابر جماعية في حين أن هذا الاسلوب اتبع على نطاق واسع على الساحة السورية، ويضيف هؤلاء أن طبيعة العلاقات القبلية تجعل المتقاتلين يفضلون أخذ الأسرى ومبادلتهم مع القبائل التي ينتمون اليها، زيادة على ذلك فإنه إذا تغلب فريق على آخر في صراع مسلح فإنه عندما يدخل منطقة منتصرا لا يعبث أو ينتقم من المدنيين ويحترم بيوتهم وممتلكاتهم وأسرهم في حين أن المستقدمين ينظرون إلى المهزومين كغنائم حرب بشرا وسلعا.
مصادر رصد في برلين حذرت من أن هناك مخاطر حقيقية في أن تشهد دول جنوب أوروبا حركة هجرة مكثفة للمقاتلين القادمين من الساحة السورية، حيث أن نسبة كبيرة من هؤلاء وبعضهم بعد تسع سنوات من القتال، اصبحوا يحلمون بالفرار من جحيم الحرب والوصول إلى ما يسمونه الفردوس الأوروبي. وإذا كانت نسبة 30 من المستقدمين يرغبون في الرحيل إلى أوروبا حسب تقديرات المانية فإن هذه النسبة سترتفع مع استمرار الحرب في ليبيا والتقلص المتوقع في رواتب المقاتلين والتي وعدت أنقرة بتقديمها وتتراوح ما بين 2500 و 5000 دولار شهريا. وتفيد مصادر ألمانية أن عمليات دفع أجور المسلحين بدأت تعرف بعض الإضطراب منذ شهر مايو 2020 موازاة مع تزايد المشاكل الاقتصادية في تركيا وإنخفاض سعر العملة التركية وتقلص الدعم القادم من الخليج العربي نتيجة تراجع المداخيل من الغاز والنفط وأزمة فيروس كوفيد 19.
الاشتباكات المتكررة في منطقة إدلب السورية بين غرفة عمليات “اثبتوا”، وهيئة تحرير الشام، والنصرة وشتات الفصائل الاخرى يولد حالة من الاحتقان بين المقاتلين المستقدمين من سوريا بسبب اختلاف انتماءاتهم وقد تدخل ضباط اتراك عدة مرات خاصة خلال شهر يونيو لمنع تطور منازعات بين المسلحين إلى مواجهة دامية واسعة.
فوق كل ذلك يشير خبراء غربيون أنه وكما الأمر في كل دولة وخاصة عربية وفي ظل عدم الاستقرار الحالي لا يقبل السكان المحليون الوجود الأجنبي المسلح خاصة إذا تداخل معهم، وبالنسبة لليبيا لا تزال الذاكرة الجماعية حية بتجارب البلاد الدموية مع الدولة العثمانية. ففي سبتمبر 1817 نفذ الحاكم العثماني عملية تصفية ضد قبيلة الجوازي، التي كانت تسكن مدينة بنغازي، مما خلف حوالي 10 آلاف قتيل على خلفية نزاع بين الوالي العثماني يوسف باشا القرماني وولده والقبيلة حول جباية الضرائب، وفي 9 أغسطس 1836 تمكن طاهر باشا وبعد 28 يوما من المعارك التي شاركت فيه 12 سفينة حربية عثمانية من الاستيلاء على مصراته بعد أن ثارت، وعين ضابطا عثمانيا حاكما للمدينة بعد أن حصدت قواته أرواح الألاف من السكان.
عمر نجيب