لن يكتفي الرئيس التركي بـ"الانتصارات" العسكرية والأمنية والدبلوماسية، فهو يملك أسلحة أخرى، ومنها الأسلحة النفسية، الّتي حقّقت لتركيا التفوّق على الدول العربية المنافسة أو المعادية لها.
خلافاً لوضعه الداخلي الصعب جداً سياسياً واقتصادياً ومالياً وشعبياً، أثبت الرئيس التركي رجب طيب إردوغان خلال الأيام والأسابيع القليلة الماضية، أنه الأقوى في جميع الجبهات الخارجية، بفضل أسلحته المتعدّدة.
وبعد أن رفض تقديم التنازلات للرئيس الروسي فلاديمير بوتين في ليبيا، وهو ما أدى إلى إلغاء زيارة وزيري الدفاع والخارجية الروس إلى أنقرة، الإثنين الماضي، فاجأ إردوغان العالم بإرساله وزيري الخارجية مولود جاويش أوغلو والمالية برات البايراك، ومعهما مستشاره إبراهيم كالين ورئيس المخابرات هاكان فيدان، إلى طرابلس، واجتماعهم مع فايز السراج وطاقمه السياسيّ والعسكريّ والأمنيّ.
وتحدّثت المعلومات عن موافقة ليبية على منح تركيا قواعد بحرية وجوية في ليبيا، وهو ما سيزيد حجم التواجد العسكري الفعال وقوته فيها، ليساهم في دعم الدور التركي في الملف الليبي والشمال الأفريقي عموماً، مع مساعي أنقرة لكسب المغرب والجزائر وتونس إلى جانبها.
وقد بات واضحاً أن مفتاح كل هذه المعادلات سيكون بيد إردوغان مع استمرار الوضع الحالي، أي بقاء حكومة الوفاق والفصائل الإسلامية التي تدعمها في السلطة في طرابلس، بعد ما حققته من انتصارات في إطار عملية "بركان الغضب".
وستزداد قوة هذه الفصائل مع مرور الزمن بتواجد القوات التركية في ليبيا، مع استمرار أنقرة في نقل المسلحين من سوريا إليها، وهو ما سيزيد صعوبة المواجهة بالنسبة إلى قوات حفتر التي وجدت نفسها في وضع صعب، بسبب تراجع الموقف المصري والإماراتي والسعودي تحت الضغوط الأميركية، وفق العديد من التحليلات.
وكان التفوّق التركي في ليبيا، ومعه الدعم الأميركي المباشر وغير المباشر، كافياً بالنسبة إلى إردوغان حتى يرفض الضغوط الروسية في إدلب، مع استمرار الحشد العسكري التركي فيها، لمنع أي عمل عسكري سوري في المنطقة، وهو ما تستبعده أنقرة، بسبب الوضع الاقتصادي والسياسي والنفسي في سوريا بعد تطبيق قانون قيصر الأميركي.
وقد انعكس ذلك على الحوار الروسيّ- التركيّ، الذي يبدو واضحاً أنه دخل طريقاً مسدوداً في سوريا، وخصوصاً إدلب، بعد أن أثبتت المواقف التركية الرسمية والإعلامية أن أنقرة لن تنسحب من الشمال السوري برمته، كما لن تنسحب من ليبيا وقطر والصّومال والعراق.
ويفسّر ذلك الكمّيات الضّخمة من الليرات التركيّة التي تم توزيعها في المناطق الّتي يتواجد فيها الجيش التركي شمال سوريا، بما في ذلك إدلب، وذلك كخطوة عمليّة جديدة على طريق "تتريك" المنطقة مالياً، بعد أن سعت أنقرة إلى ذلك عسكرياً وأمنياً وخدماتياً ودينياً ونفسياً.
ويعرف الجميع أنّ أنقرة ستستغلّ الواقع الاقتصادي والمالي الصّعب في سوريا بعد قانون قيصر، وبعيداً من أي مساءلة أميركية، لتستمر في تعاملها التجاري، والآن المالي، مع سكان المنطقة، وهي تحت سيطرة العديد من الفصائل الموالية لتركيا، ولا يقلّ عدد مسلّحيها عن 70 ألفاً، ومعهم الموجودون في إدلب.
ودفع هذا التفوق التركي العسكري والسياسي والنفسي في ليبيا وسوريا الرئيسَ إردوغان إلى إصدار تعليماته للقوات الخاصة بالتوغل داخل الأراضي العراقية، صباح الأربعاء، تحت اسم "مخلب النمر"، لملاحقة الإرهابيين، أي مسلّحي حزب العمال الكردستاني التركي، ولم يبقَ له داخل تركيا إلا 450 مسلحاً، بحسب تصريحات وزير الداخلية سليمان صويلو.
ويصادف ذلك مساعي واشنطن لتحقيق المصالحة العاجلة بين جميع الأطراف الكردية في سوريا من جهة، ووحدات حماية الشّعب، وهي الذراع السوريّة لحزب العمال الكردستاني، من جهة أخرى.
ولهذا الحزب في سوريا حوالى 60 ألف مسلّح مدعومين بكل أنواع الأسلحة الأميركية، وهو الموضوع الذي يلقي بظلاله على مستقبل الحوار بين الرئيسين إردوغان وترامب، بعد أن نجح الأول في تكتيكاته مع الرئيس بوتين، ويبدو أنه الأضعف في مساوماته مع إردوغان، ما دام يريد لتركيا أن تبقى، وبالحد الأدنى من المصالح، إلى جانب روسيا وضد حليفتها التقليدية أميركا والغرب عموماً.
هذا الوضع دفع الرئيس إردوغان إلى اتخاذ مواقف أكثر تشدداً تجاه موسكو، وتتوقّع لها أنقرة أن تزداد ضعفاً وعزلة على الصعيد الدولي بعد تطبيق قانون قيصر في سوريا.
ولن يكتفي الرئيس التركي بهذه "الانتصارات" العسكرية والأمنية والدبلوماسية، فهو يملك أسلحة أخرى، ومنها الأسلحة النفسية، الّتي حقّقت لتركيا التفوّق على الدول العربية المنافسة أو المعادية لها، أي مصر والسعودية والإمارات ومن معها.
وقد نجح في استغلال الواقع العربيّ المزري، وسببه الخلافات العربية - العربية، وتآمر العديد من أنظمة الخليج ومن معها على سوريا ودول وقوى الممانعة والمقاومة، وفي مقدمتها إيران، فحقَّق العديد من أهدافه، وهو يتوقّع لكلّ الاحتمالات العربية والإقليمية أن تحقّق له المزيد من الامتيازات في حساباته الاستراتيجية، وأهمها إحياء ذكريات الخلافة والسّلطنة العثمانيّة، التي باتت قاب قوسين أو أدنى، بفضل إسلاميي المنطقة، وهم يرون في الرئيس إردوغان وتركيا "قبلتهم" الجديدة، لأسباب عديدة، منها "النموذج التركيّ الإسلاميّ الأمثل!".
وبعد أن اجتاحت المسلسلات والدراما التركية الهادفة إلى تسويق هذا "النموذج" الشارعَ العربي والإسلامي، انتقلت السينما التركية إلى مجال آخر يواكب السياسة الجديدة لإردوغان، وهو المسلسلات التاريخية التي تتحدث "عن الدولة العثمانية وانتصاراتها العظيمة"، من دون التطرق إلى أي من سلبياتها داخلياً وخارجياً، بما في ذلك سلوك معظم السلاطين بقتل آبائهم وإخوتهم وأخواتهم والآخرين.
وحظيت هذه المسلسلات، بالتوازي مع أجواء الانتصارات التي حقَّقها إردوغان إقليمياً ودولياً، باهتمام شعبي واسع في جميع الدول العربية والإسلامية، إلى جانب المنتجات التركية التي غزت الأسواق العربية والإسلامية. وكان مسلسل "قيامة أرطوغرل"، المدبلج بشكل جيد بالعديد من اللغات، من أهم هذه المسلسلات في الدول العربية ودول البلقان، وأيضاً باكستان وماليزيا، التي يسعى الرئيس إردوغان إلى إقامة تحالف سياسي واقتصادي وعقائدي معها، لإبعادها عن "الحليف التقليديّ" السعودية، التي كانت تتصرف وكأنها "زعيمة الأمة الإسلامية"، لتواجد مكة المكرمة والمدينة المنورة في أراضيها.
كما أنّ آل سعود يستغلّون تواجد مقرات مجلس التعاون الإسلامي ورابطة العالم الإسلامي في أراضيهم، لتكون أداتهم لتسويق الفكر الوهابي المظلم في العالم، الذي سيحل محله من الآن الفكر التركي العثماني الإردوغاني.
والأغرب في ذلك أنّ هذا الفكر بات مؤثراً، ولو ثقافياً ونفسياً، في أفريقيا وأميركا اللاتينية، وإلا لما كان الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، وقبله رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان، من أكثر المعجبين بمسلسل "قيامة أرطوغرل"، فقد زار مادورو مكان تصوير المسلسل قرب إسطنبول، وارتدى ملابس بطل الفيلم أرطوغرل، وهو والد عثمان، مؤسّس الإمبراطورية العثمانيّة.
ولا شكّ في أنّه بات واضحاً أن الرئيس إردوغان يسعى بكل ما أوتي من قوة داخلية وخارجية لإحياء هذه الإمبراطورية من جديد، وهو ما يثبت ما قام به بنجاح، ولا يزال، منذ بدايات "الربيع العربي"، عندما كانت الأنظمة العربية المعروفة بخدمته بشكل مباشر أو غير مباشر، أو بعلم أو من دونه، ولكنها ساهمت معاً في الانتصارات التي حقَّقتها أنقرة، وسيرى الجميع أنها لن تتراجع عنها ما دامت تعتقد أنها الأقوى، وهي كذلك، على الأقل حتى الآن، وهو ما يثبت الشعور القومي في الشّارع التركيّ، إذ أثبت آخر استطلاع للرأي أنَّ 70% من الشّعب التركي يرى أميركا عدوّه الأكبر، وتليها "إسرائيل"، ثم سوريا وإيران واليونان وأرمينيا، فيما تراجعت شعبية روسيا من 55.8% من الذين كانوا يرون في العلاقة معها شراكة استراتيجيّة أو تعاوناً وثيقاً، إلى 37% قابلة للتراجع، بسبب الفتور، وأحياناً التوتر مع موسكو، إن كان في سوريا أو ليبيا، ولاحقاً في أماكن أخرى سيعتبرها الرئيس إردوغان ضمن ذكرياته التاريخيّة والعقائديّة والاستراتيجيّة!
د. حسني محلي