تشهد الأزمة الليبيّة هذه الأيّام سِباقًا محمومًا بين الحليفين السّياسيّ والعسكريّ، حيثُ يُحاول كُل طرف تحسين مواقعه على الأرض وتحقيق أكبر قدر مُمكن من المكاسب لتعزيز مواقفه في أيّ مُفاوضات قادمة، ولهذا تُشَكِّل نتائج معركة سرت المُستَعرة حاليًّا بين قوّات حُكومة الوفاق المَدعومة تُركيًّا، وقوّات الجيش الوطني بزعامة الجِنرال خليفة حفتر المدعوم مِصريًّا وإماراتيًّا وفرنسيًّا كلمة الفصل الحاسَمة في هذا السّباق.
مدينة سرت الاستراتيجيّة تُشكّل البوّابة الأكثر أهميّةً سواءً بالنّسبة لقوّات حفتر المُدافعة عنها، أو قوّات حُكومة الوفاق التي تُحاول السّيطرة عليها، بعد نجاحها في إنهاء الحِصار على مدينة طرابلس العاصِمة، واستَعادتها مدينة ترهونة من أيدي خُصومها.
الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان الذي بات حاكم الغرب اللّيبي الفِعلي، أكّد بأنّه لن تكون هُناك أيّ مُفاوضات سياسيّة، أو وقف لإطلاق النّار، إلا بعد سيطرة قوّات حُلفائه على هذه المدينة، أيّ سرت، وهذا ما يُفسِّر رفضه، بل وتجاهله، لإعلان القاهرة الذي يطرح مُبادرة لحلٍّ شامِلٍ للأزَمَة الليبيّة، فمدينة سرت هي بوّابة الشرق حيث آبار النّفط والغاز واحتِياطاته الرئيسيّة، ومِفتاح الجنوب حيث قاعدة الجفرة الجويّة، ومَخزون المِياه الليبيّة.
***
طُموحات الرئيس التركيّ ليست محصورةً في الحُصول على أكبر حصّةٍ مُمكنةٍ من النّفط والغاز الليبيّين فقط، وإنّما تمتد أيضًا إلى تكريس النّفوذ التركيّ في ليبيا، سِياسيًّا وعَسكريًّا، وهذا ما يُفسِّر كشف صحيفة “يني شفق” المُقرّبة من حزب العدالة والتنمية الحاكم في أنقرة، عن خطّةٍ لإقامة قاعدتين عسكريتين تركيتين، الأولى جويّة في قاعدة عقبة بن نافع (الوطية) جنوب غرب العاصِمة طرابلس، والثّانية بحَريّة في مدينة مصراته.
القوّات التركيّة المُعزّزة بفرقاطات بحَريّة وعتادٍ عسكريّ ثقيل، وآلاف مِن المُقاتلين والطّائرات المُسيّرة باتت موجودةً فِعليًّا على الأرض، والسّؤال المطروح حاليًّا هو عمّا إذا كانت دُول الجِوار اللّيبي مِثل الجزائر وتونس غربًا، ومِصر شرقًا ستقبل بسِياسة الأمر الواقِع هذه التي فرَضها الوجود التركيّ، والتّعايش معها بالتّالي، أم تتصدّى لها سِياسيًّا، وربّما عَسكريًّا في المُستقبل المنظور؟
التدخّل العسكريّ التركيّ في ليبيا عبر دعم حُكومة الوفاق المُعترف بها من قبل الأمم المتحدة، يَقِف خلف جميع الهزائم الكُبرى التي لَحِقت بالجِنرال خليفة حفتر وجيشه الوطنيّ في الغرب اللّيبي، وربّما يُؤدّي إلى خُروجه من المشهد اللّيبي كُلِّيًّا، خاصّةً بعد الكشف عن ثماني مقابر جماعيّة في ترهونة تَضُم رُفاة عشَرات الأشخاص من بينهم عائلات كاملة، جرى إعدامها، بعد تعذيبها حيث تُوجّه أصابع الاتّهام لقوّاته أثناء سيطرتهم على المدينة، فقد أثارت “جريمة الحرب” هذه حالةً من الرّعب في أوساط مُراقبي الأمم المتحدة من شدّة بشاعتها، ودفعتهم إلى المُطالبة بتحقيقاتٍ مُكثّفةٍ لمعرفة تفاصيلها، وتقديم المَسؤولين عنها إلى محكمة الجِنايات الدوليّة لمُحاكمتهم كمُجرِمي حرب.
الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون الذي تَشعُر حُكومته بقلقٍ شديدٍ من جرّاء تطوّرات الأزمة الليبيّة، ووجود أكثر من 12 ألف مُقاتل إسلامي مُسلّح مُتشدِّد قُرب حُدود بلاده الغربيّة، أعرب عن استِعداده للتّعاون، ولأوّل مرّة، مع دولتيّ الجِوار اللّيبي الأخريين، أيّ مِصر وتونس، للوصول إلى حلٍّ للأزمة الليبيّة، وكان مُصيبًا عندما قال في مُؤتمرٍ صِحافيٍّ عقده الجمعة “إنّ الدّم الذي يسيل في ليبيا دمٌ ليبيّ، وليس دم من يُحاربون بالوكالة، وإنّ الجزائر تسعى لحقن هذه الدّماء وحل الأزَمَة سِياسيًّا وليس عَسكريًّا”، وأضاف “ليبيا تنزلق نحو أرض سوريّة، هي نفسها التي تتصارع على الأرض الليبيّة”، وحذّر مِن أنّ “ليبيا تتّجه بسُرعةٍ إلى مصيرِ الصّومال”.
كان لافتًا أنّ الرئيس الجزائري تبون استقبل اليوم السبت السيّد عقيلة صالح، رئيس برلمان طبرق المُنتخب، ولوحده، دون أن يُرافقه الجنرال حفتر، الأمر الذي يَعكِس بطريقةٍ غير مُباشرة اعترافًا به كقائد، أو مُمثّل للشّرق اللّيبي، لما يتمتّع به من دعمٍ قبليٍّ كبيرٍ، وشرعيّة سياسيّة اكتسبها من انتخاباتٍ حرّةٍ نزيهةٍ للبرلمان الذي يتزعّمه حظيت باعترافٍ أممي، والأهم من ذلك أنّ السيّد صالح أعلن نفسه الشّهر الماضي القائِد الأعلى لقوّات الجيش الوطني اللّيبي.
دُخول الجزائر على خط الأزَمَة الليبيّة، واستِعداد رئيسها للتّعاون مع مِصر وتونس للوصول إلى حلٍّ سياسيٍّ يُنهِي هذه الأزَمَة، ربّما يكون التطوّر الأهم، لأنّ اتّفاق الدّول الثّلاث يُمكن أن يُغيّر موازين القِوى على الأرض سِياسيًّا وعَسكريًّا، لما لها من ثُقلٍ إقليميٍّ، ونُفوذ في الوسَط اللّيبي، واحتِرامٍ على السّاحة الدوليّة والإقليميّة.
***
لا يستبعد الكثير من المُراقبين أن يكون خُروج الجِنرال خليفة حفتر من المشهد اللّيبي بات وشيكًا، ولصالح حليفه الخصم عقيله صالح، والشّيء نفسه يُقال أيضًا عن السيّد فايز السراج، الذي ربّما تخلّص فِعلًا من حِصار حفتر لطرابلس، ولكنّ حُكمه لا يمتدّ لمترٍ واحدٍ خارج مُحيط مكتبه.
السّباق بين الحلّين العسكريّ والسياسيّ الذي أشرنا له في بداية هذا المقال سيشتدّ في الأيّام والأسابيع المُقبلة، خاصّةً بعد إلقاء الجزائر بكُل ثقلها في السّاحة، وباتَ مِن المُبكِر الجزم لِمَن ستكون الغلَبَة في نِهاية الشّوط، ولكنّه يظَلُّ سِباقًا مُثيرًا يستحقّ المُتابعة.. واللُه أعلم.
عبد الباري عطوان