بينما كانت قدم هذه البلاد راسخة في احترام القضاء، فظلت الإمارات والمجموعات القبلية تنقاد لحكمه مستسلمة راضية قبل قيام الدولة الحديثة؛ فإن صورة القاضي العدل تلاشت أو كادت في أذهان الناس منذ الاحتلال الفرنسي الذي حرص أولما حرص على تبديد الصورة الناصعة للمؤسسات الاهلية عامة ليفسح المجال لفكره وثقافته ونظمه الإدارية والتشريعية.
وهكذا خلق الاستعمار قضاء موازيا، ومدرسة موازية، ولغة موازية، وتنظيما اجتماعيا موازيا.
أي أنه بالمختصر المفيد قد مارس غسيلا ممنهجا للذاكرة الوطنية ثم قذف ذلك "الغاسول" البائس في جوف طبقة آمنت بفكره وتبنت لغته، واعتنقت عقيدته السياسية، وانتصبت كقوة احتلال ثقافي يؤدي دور سيده ويكرس سيطرته ويتصدى لخصومه بحجج ودفوع مضللة: حماية اللحمة الوطنية التي تعني في مفهومه اعتماد اللغة الفرنسية كوسيلة وحيدة للتواصل بين المكونات الوطنية، تأبيد التبعية القانونية والقضائية بإقصاء التشريع الإسلامي عن ميدان الفعل وحصره في زاوية الأحوال الشخصية إلخ.......
ولئن كانت الدولة الوطنية الحديثة قد جاهدت، ولا زالت تجاهد، لاستعادة بعض زمام الأمر بدسترة اللغة العربية واللغات الوطنية، فصبغت أغلب المدونات القانونية بصبغة وطنية؛ فإن الطابور الخامس لا زال ممسكا بزمام الفعل: تثبيطا، وتشكيكا، وتحريضا لهذا المكون أو ذاك.
وهكذا ازدادت الهوة اتساعا ما بين المواطن البسيط، بل وحتى بين المسؤول العمومي ومؤسساته الرسمية: تعليمية أو إدارية أو قضائية...فانهارت المدرسة الوطنية، وضعفت الثقة في الإدارة، وصار الاحتكام لقرارات القضاء: حامي الحقوق وضامن الحريات، ومؤمن الاستثمارات، مستعصيا في فضاء يسمه انعدام الثقة على الخرطوم!
وفي واقع تلك بعض ملامحه أصبحنا نعاني مما سماه الأستاذ المتميز محمد سيدي عبد الرحمن "أمية قضائية" يستطيع كل من عمل في القضاء أو لجا إليه أن يصفها دون إفراط بأنها مستفحلة!
ولأن "العدل أساس الملك" -كما يقولون- فإن كل عملية بناء أو تخطيط أو إصلاح لا ينطلق من ترسيخ مركزية القضاء في الدولة الحديثة سيبقى بناء على صفحات السراب!
وإن أول خطوة على طريق تبوء القضاء مكانته المستحقة تبدأ بالتعرف عليه تنظيما، وفاعلين، وطرق عمل وتقوية الإيمان به كسلطة قائمة بذاتها مستقلة وعادلة وفاعلة في مسار التنمية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للبلاد.. سلطة لا سلطان لسلطة أخرى عليها ولا معقب لحكمها المنبثق من التطبيق السليم لمقتضيات القانون الذي أقره الشعب وعهد إلى القضاء بحسن تطبيقه.
وسعيا للحد من هذه الامية وضع الأستاذ المتميز محمد سيدي عبد الرحمن خارطة طريق أو برنامج إنقاذ تحت عنوان: " نثق في موريتانيا" تتمحور أبرز خطواته في السعي لمحو الامية القانونية تحت عنوان: "نثق في القضاء".
يقول الأستاذ محمد سيدي عبد الرحمن:
(.... وسعيا للحد من الأمية القضائية أقترح أن يكون القضاء موضوع المرحلة الأولى من برنامج نشر الثقافة القانونية في موريتانيا ولتنفيذ ورشة "نثق في القضاء" يمكن الاعتماد في المرحلة التجريبية على كادر بشري ومعدات لوجستية جاهـزة تساعد في بدء البرنامج فورا وبدون تأخير.
تتمثل الخطوة الأولى في تبني برنامج"...نثق في موريتانيا" من طرف السلطات العمومية والإشراف على إطلاقه بالتعاون مع المجتمع المدني ومع الأجهزة الأممية المختصة وشركاء التنمية الذين يتدخلون في تمويل مثل هذه الأنشطة ويقومون بتقديم المساعدة الفنية لها........ وبالتنسيق بين هؤلاء يتم إطلاق برنامج وطني تحت تسمية "نثق في موريتانيا" واختيار منسق ولجنة توجيه على أسس موضوعية لإدارته وبدء العمل فيه بإعداد المادة التربوية والمحاضرات التي يتعين أن لا تتجاوز مدة الواحدة منها ساعتين وعددها الذي يحبذ أن لا يتجاوز اثنتين.
قبل تصور طريقة تنظيم مسابقة شفافة لاختيار طاقم تكوين يمكن أن ينحصر عدده، في المرحلة الأولى، في ثلاثين أستاذا، بمعدل أستاذين لكل ولاية يتم انتقاؤهم من المحامين العاملين على أن يخضعوا لتكوين يتعلق بالموضوع وطريقة إلقاء المحاضرات.
وسبب اقتراح المحامين دون غيرهم أنه علاوة على معارفهم القانونية النظرية يفترض أن الممارسة المهنية مكنتهم من اكتساب معارف عملية في حقل القضاء الذي يحسنون استخدام مدوناته ويهتدون في أروقته ودهاليزه المتشابهة ومثلما يفضل غلمان مكة بعض الراسخين في فقه المناسك ويمدون إليهم يد المساعدة في الحج يفضل العاملون في القضاء غيرهم من الأساتذة ولو كانوا حاملين لشهادات عليا.. ومثلما يحكى أن أحد الفقهاء وقف لصلاة ركعتين تحية للمسجد الحرام قبل أن يبتدره أحد غلمان الحرم قائلا: تحية مسجد مكة الطواف، حدثني كاتب ضبط بنواذيبو، منذ سنوات، بأن أحد المحامين من أساتذة الجامعة، الذين لم يتلقوا التدريب، بعد تقديمه استئنافا ضد قرار صادر عن محكمة ابتدائية في نواذيبو، طلب من كتابة الضبط إحالة ملف القضية لمحكمة استئناف نواكشوط: لأن الأستاذ لم يكن يعلم، فيما يبدو، بأن الحكم الصادر عن محكمة ابتدائية ما يبت في استئنافه، من حيث المبدأ، من طرف محكمة الاستئناف المختصة ترابيا والتي تقع في دائرتها المحكمة الابتدائية.
أما فيما يتعلق بالوسائل اللوجستية فأقترح تأهيل قاعات الجلسات بالمحاكم التي يمكن أن تحتضن محاضرتين يوميا من الساعة الثامنة صباحا وحتى الثانية عشر زوالا (الوقت الذي تبدأ فيه جلسات المحاكم عادة) على أن يتم تقديم الدورة الأولى لصالح الطاقم الحكومي وحبذا لو حضر رئيس الجمهورية، رئيس المجلس الأعلى للقضاء وأعلن انطلاقة البرنامج وتابع محاضرتين لا تعدو مدة واحدة منهما ساعتين، تمكنانه من فهم النظام القضائي الوطني واستلم، أمام الجميع، الشهادة رقم 1 من برنامج "نثق في موريتانيا" في خطوة رمزية تهدف لتحفــيز الجميع للانخراط في الخطة قبل أن تفـد أفواج البرلمانيين والأمناء العامين للوزارات والمديرين المركزيين بالقطاع العام والصحفيين والأساتذة.
وعندما يتكلل البرنامج بالنجاح وتنجلي عن الكثيرين الغشاوة التي تمنعهم من رؤية القضاء بوضوح، ستسعى بعض الجامعات والمعاهد وغيرها من الهيئات التعليمية العامة والخاصة لتنظيم دورات "لـنثق في موريتانيا".. وبعد اختفاء الأمية القضائية في صفوف الأطر والمسؤولين وقادة الرأي يمكن التفكير في دمج برنامج "نثق في موريتانيا" في المناهج التعليمية وسيكون من أسباب سعادة تلاميذ الثانوية الجلوس في قاعة المحكمة لمتابعة درس تطبيقي يقدمه محام يرتدي لبوسا خاصا يعطي فكرة عن الوسط القضائي.
محمد المختار الفقيه