شهد التعليم في بلانا مراحل متفاوتة بين الصعود والهبوط والمد والجزر وتعدد البرامج الإصلاحية، فمن المعروف أن تعليمنا مع جيل التأسيس كان متميزا من حيث الكوادر البشرية المكونة والمشرفة وكانت مخرجاته أفضل بالرغم من صعوبة الظروف ومحدودية الوسائل، ولكن حينها كان الإنتماء للوطن والدولة قوية ويخضع الجميع لسلطتها، وكان الأهالي والأبناء ينزلون المدرسين منازلهم فيحترمونهم ويجلونهم، وربما ساهم المدرسون في ذلك التقدير والاحترام من خلال قيامهم بواجباتهم وحسن أدائهم وسلوكهم وأحترامهم للجميع، وتتجلى مظاهر ذلك في احترام المعلم في القسم وفي خارجه، حيث يأتمر الجميع بأوامره وينتهي بنواهيه، ويتسابقون ويتنافسون في خدمته، وكان المعلم إذا ما اسند مهمة لأحد التلاميذ فإنه يسعد ويفتخر كثيرا بالتكليف ويشعر بالمسؤولية، وقد يحسده رفقاؤه على ذلك ويغارون منه، وكان التلميذ يخاف كثيرا على نفسه من أن يراه المدرس خارج المنزل او في الشارع.
وكان المعلم إذا قال فعل، يوفي بوعده ويؤدي أماناته والصدق ديدنه مع نفسه ومع غيره، فأحس الجميع بالمسؤولية والتقدير إتجاه الآخر.
وكان المدرسون قدوة للتلاميذ والطلاب فما إن ان تسأل أحدهم عن المهنة التي يفضل في المستقبل فإنه سيجيبك وبكل فخر وأعتزاز أحب ان أصبح معلما او أستاذا.
في حين أننا وفي زمننا اليوم فقد صار البعض إن لم أقل الجميع يعتبر أن مهنة المدرس عموما والمعلم خصوصا هي مهنة لمن لا مهنة له.
فقد ضاعت هيبة التعليم وتقديره وفقد المدرسون مكانتهم في المجتمع وتدنت مستويات البعض مدرسا ودارسا وغابت المسؤوليات وأختلط الحابل بالنابل فلا المدرس مدرسا ولا التلميذ تلميذا ولا الطالب طالبا وترك الحبل على الجرار.
وقد ساعد في هذه الظواهر مجتمعة عوامل عديدة منها تعدد الاصلاحات التربوية غير الجادة، وإن أهتم بعضها بجوانب معينة فإنه يهمل جوانب أخرى، وتخلي الدولة عن مسؤولياتها إتجاه المدرسة عموما والمدرسة الجمهورية خصوصا لصالح الخواص، والفوضوية في التعليم، والفوضوية كذلك في الخارطة المدرسية بحيث صار لكل أسرة او أسرتين مدرسة أو مدرستين، وضعف الوسائل المادية واللوجستية، وغياب الوازع الأخلاقي في التربية والتدريس، ووجود العدد الكبير من الدارسين مقابل العدد القليل من المدرسين، وغياب التأطير والمتابعة والتقييم والتكوينات المستمرة للمدرسين، وغياب التحفيزات والتشجيعات للمدرس والتلميذ على حد السواء، وغياب مبدأ المكافأة والعقوبة والرجل المناسب في المكان المناسب، ومشاكل الأكتظاظ في الفصول؛ والعجز الكبير الحاصل في الطواقم البشرية، وتخلي الأسرة عن مسؤولياتها إتجاه الأبناء وضعف اداء روابط أباء الطلاب إن وجدت، ضف إلى ذلك كله العوامل الخارجية وخاصة العولمة وعالم التكنلوجيا والتأثبرات القوية المصاحبة من تلفاز وهواتف نقالة.
هذه أمور من بين اخرى ساهمت وبشكل أساسي في فساد او إفساد تعليمنا وسرعت من مستوى انحطاطه على كافة الأصعدة والمستويات.
وللخروج من هذه الحلقة المفرغة من تاريخ التعليم في وطننا الغالي والمجيد فإنه ينبغي توفر الإرادة من القمة إلى القاعدة، وتعبئة الموارد وتوفير الوسائل المادية والمعنوية للمدرسين والعودة إلى المدرسة الجمهورية ومساعدة الأهالي وخاصة الضعفاء في تدريس أبنائهم ووضع الأطقم التربوية والتعليمية في أحسن الظروف، ومعالجة الاختلالات المدرسية الأخرى، وتحديث وتفعيل القوانين الرادعة والمعاقبة للمخالفات دون إهمال الجوانب المتعلقة بالتشجيعات والتحفيزات والمكافأة.
وفيما يتعلق بنقص الكادر التدريسي الميداني فنرى أنه آن الأوان لأكتتاب العدد الكبير من العقدويين الميدانيين والذين لهم تجربة مهمة في هذا المجال ويمتلكون مؤهلات وخبرات ومعارف مشهود لهم بها من طرف هيئات التأطير والإشراف، وهؤلاء العقدويين منهم من هو حائز على شهادة ختم الدروس الإعدادية ومنهم من عنده الباكولوريا فما فوق، ونظرا لوجودهم في الميدان ولمدة زمنية طويلة فمن المنصف جدا أن لا يكون عامل السن عائقا أمام اكتتابهم فلا شك أن العديد منهم قد تجاوز عمر الأكتتاب ولكن يجب أن تكون تلك السنوات التي قضوها في التعاقد مع القطاع - وفي الميدان ومتنقلين بين الفصول بالرغم من ظروفهم الصعبة وضعف التعويض ولمدة لا تتجاوز تسعة أشهر مقابل ثلاثة أشهر من البطالة - شافعا لهم دون حرمانهم من ولوج الوظيفة العمومية لسببين رئيسيين وموضوعيين اما السبب الأول فيتعلق بسد النقص الحاصل في القطاع، وأما الثاني فهو المساعدة في القضاء او التخفيف على الأقل من البطالة في صفوف الشباب والإستفادة من خبراتهم.